شهاب الدين المحمدي
الحمد لله الذي أسرى بعبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله إلى يوم الدين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الذي رأى من آيات ربه الكبرى ما يثبت فؤاده "ما كذب الفؤاد ما رأى" وعلى آله وصحبه الشرفاء.
- وبعد: تمر بنا هذه الأيام ذكرى غالية على كل مسلم، هي ذكرى الإسراء والمعراج، وقد شاءت إرادة الله أن يجعل مكان هذا الحدث العظيم بيت المقدس أولى القبلتين وثالث الحرمين ومجمع الأنبياء ليثبت في يقين الأمة المحمدية ومشاعرها معنى الوحدة بين أرجاء الوطن المسلم، ويرمز إلى الرباط الوثيق بين المسلمين أينما كانوا، وبين مسرى نبيهم الكريم ومعراجه.
- وقد أحسن من قال بأن المعاني التي تتصل بهذا الحديث الخالد توقيته الغريب، فقد كان الإسراء والمعراج بعد أن ذهب الرسول إلى ثقيف يعرض عليهم الإسلام، وبعد أن صبر على أذى قريش ما يقرب من عشر سنين وظن أنه ربما يجد في الطائف من ينصره، بعدما ضاقت به الحال عقب وفاة عمه أبي طالب وزجه خديجة رضي الله عنها، فقابلوه أسوء مقابلة، وأغروا به سفهائهم وعبيدهم يرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه وبكى، وحين خذلت ثقيف رسول الله وقع في حيرة من أمره، فكان الإسراء والمعراج تثبيتاً وطمأنة له، أن القدرة الإلهية كلها تقف بجانبه، وأن عناية الله أرحم من أن تتركه ضحية للتآمر أو عرضة للانهيار، مهما حدث من عناد المشركين، فكانت قدرة الله تخاطبه في رحلته قائلة: يا محمد، سوف تجتاز الصعاب والأهوال برعايتنا ورحمتنا كما تتخطى الأرض والسماوات بقدرتنا وعنايتنا.
- والمعنى الثاني في الإسراء والمعراج أنه - كما حدث القرآن – تمحيص للمؤمنين، وغربلة لضعفاء الإيمان، وتنقية للصفوف، وهذا هو معنى الفتنة الواردة في الآية الكريمة: "فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون" [التوبة: 124-125]، وقد كانت هذه التصفية الربانية لعناصر الضعف في صفوف المؤمنين ضرورية، استعداداً لما قدره الله بعدها من بدء مرحلةٍ جديدة في كفاح النبي وحمايته، تبدأ بالهجرة وهي أعظم تضحية أقدم عليها المؤمنون جماعة وتثني بالجهاد وتنتهي بالنصر الكامل: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" [المائدة: 3]، والمعنى الثالث هو ما يمكن أن نفيده من عظة الإسراء والمعراج وأثره في تربية المؤمنين، وحسبنا أن نقرأ حديثه في كتاب من كتب السنة لنطالع صوراً من الحقيقة، ونرى مشاهداً من المصير الذي ينتظر كل فرد فينا، فمن عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها.
ومن ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "رأيت ليلة أسري بي لما انتهيت إلى السماء السابعة، فنظرت فوقي فإذا أنا برعدٍ وبروقٍ وصواعق، قال: فأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات، ترى من خارج بطونهم، فقلت: يا جبريل: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء أكلة الربا" رواه أحمد.
هذه الصورة الرهيبة التي صور بها الحديث أكلة الربا، فقد ورد مثلها بحق كثيرين من أهل العصيان، فالمفطرون في رمضان معلقون بعراقيبهم، مشققة أشداقهم تسيل دماً، والزناة منتفخون منتنون، كأن ريحهم المراحيض يأتيهم اللهب من أسفل منهم.
- حقيقة لقد جسدت لنا ليلة الإسراء والمعراج كل هذه الصور، على لسان الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم، قصداً إلى إصلاح المجتمع المسلم، ومحاربة الأوضاع الفاسدة فيه، ليصبح مجتمعاً مثالياً، يقتدي به كل الناس في سائر المجتمعات، ولا ريب أن هذه الصور مستمدة كذلك من تعبير القرآن نفسه الذي حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وصوره أبشع تصوير، فالمغتاب يأكل لحم أخيه ميتاً، والذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً، ومن قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، لقد حضرت هذه الصور جميعاً أمام النبي عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء والمعراج ليس هذا فحسب فقد فرض علينا خمس صلوات في الأداء وخمسين في الأجر كما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وانتهزوا هذه الأيام المباركة لتقدموا لأنفسكم خيراً ولتذكروا أنها كانت على عهد النبي أيام كفاح لم يذق خلالها طعم الراحة، ولا ادخر وسعاً في النصح لكم والعمل لإنقاذكم وإسعادكم، دعاكم رسول الله وبين دعوته ورسم الطريق وخاصة الحرب وغمارة من أجل أن تصبحوا مسلمين، فاحرصوا على إسلامكم لأنه أمل نبيكم وحرروا مقدساتكم، والله يتولى توفيقنا إلى الخير وهدايتنا إلى سواء السبيل.