;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس ..الحلقة الثالثة 1114

2008-08-26 03:47:57

المؤلف/ علي محمد الصلابي

1- الأندلس:

فقد شهدت الجبهة الأندلسية منذ أواسط ذلك القرن نشاطاً ملحوظاً تمثل في شن هجوم قوي مستمر من قبل النصارى الإسبان بزعامة مملكة قشتالة على مسلمي الأندلس، حيث أخذت المدن والمعاقل الإسلامية تسقط في أيديهم تباعاً، وأحرزوا النصر على المسلمين في معارك عديدة، وتوجت تلك الانتصارات بسقوط مدينة طليطلة سنة "478ه" في يد ألفونسو السادس ملك قشتالة، تلك الكارثة التي روعت العالم الإسلامي بأسره، وحيال هذا الضغط المتواصل من النصارى الإسبان قام مسلمو الأندلس بالاستنجاد بالمرابطين من العدوة المغربية، فكانوا يرسلون الاستغاثة تلو الأخرى لهذه القوة الفتية، حتى إذا ما قضى أميرها يوسف بن تاشفين على جيوش المقاومة لدولته في المغرب، عبر البحر إلى الأندلس بجموع غفيرة حيث التقى بالفونسو السادس في معركة الزلاقة سنة "479ه" التي سطر المرابطون ومن ساعدهم من الأندلسيين بانتصارهم الرائع فيها صفحة مشرقة في تاريخ الجهاد الإسلامي، وبانتصار المسلمين في تلك المعركة أوقِف المد المسيحي الإسباني حتى تهيأت له ظروف أخرى فيما بعد.

2- صقلية:

وأما الجبهة الصقلية فقد أدى ظهور النورمان كقوة جديدة في ميدان السياسة الدولية إلى تغير ميزان القوى في غرب المتوسط لصالح القوى النصرانية، إذ ما كاد هؤلاء القادمون الجدد يجدون موطئ قدم لهم في جنوب إيطاليا ويحصل جيسكارد أكبر زعمائهم على اعتراف البابا نقولا الثاني به في مؤتمر ملفي سنة "1059م" حتى أعلن عن مشروعه في توجيه قواه ضد مسلمي صقلية إرضاء للبابوية التي كانت ترى في ذلك تحقيقاً لأهدافها الصليبية من ناحية وإبعاداً للخطر النورماني عن ممتلكاتها من ناحية أخرى، فشجعت هذا المشروع، وكدليل على موافقتها وتشجيعها أرسل البابا إلى جيسكارد راية مقدسة لينال هو وجنده ببركتها النصر على المسلمين، وأصر على أن الفتوحات المرتقبة من أجل المسيح " عليه السلام" هي أكثر أهمية من إرسال الهدايا إلى روما، وتم الاستيلاء على الجزيرة في سنة "484ه" في عهد رجار الأول ثم وثبت قواته على مالطة في العام التالي واحتلتها، وأخذ يتحين الفرصة للانقضاض على أفريقية.

3- إفريقية:

وأما الجبهة الإفريقية، فقد نالت حظها هي الأخرى من العدوان الصليبي في تلك الآونة بفعل قوة ناشئة هي المدن البحرية الإيطالية، فقد استغلت هذه المدن غياب القوى البحرية القديمة المتمثلة في الأسطولين الإسلامي والبيزنطي عن مياه البحر الأبيض المتوسط منذ أوائل ذلك القرن لانشغال كلا الطرفين بمشاكله الداخلية، وأخذت أساطيلها تمخر مياه ذلك البحر القريبة من الشواطئ الأوروبية أولاً: خوفاً من أسطول مجاهد العامري صاحب دانية الذي استطاع تجميد

نشاطها لفترة من الوقت حتى إذا ما تمكنت من إزالة ذلك الخطر بدأت منذ أواسط القرن المذكور تجوب مياه البحر الأبيض المتوسط شرقاً وغرباً، وقد وضعت هذه المدن قوتها البحرية في خدمة الأهداف الصليبية منذ البداية لتحقيق مكاسب خاصة بها، فبتشجيع البابا لاون التاسع استولى تحالف من جنوة وبيزا على جزيرة سردينيا الإسلامية سنة "442ه /1063م" حيث خرب أرباضها وميناءها وغنم غنائم كبيرة، وكما اشتركت هذه الأساطيل في حروب الجبهة الصقلية اشتركت في الحروب الجبهة الأندلسية، فأسهمت في مطاردات المسلمين الأندلسيين عن طريق البحر وأخذت نصيبها من الغنيمة، وفرضت حصاراً بحرياً على المرية حتى دفعت تلك المدينة فدية ضخمة تقدر بمبلغ 113 ألف دينار ذهبي، كما أجبرت بلنسية على دفع أتاوة مماثلة تقدر بمبلغ 20ألف دينار ذهبي لتفتدي نفسها بذلك من النهب والسلب، وهاجمت الجزائر الشرقية "جزر البليار" عدة مرات.

ونتيجة لتلك، أصبحت القوة البحرية الإيطالية هي المتحكمة في مياه البحر الأبيض المتوسط مما دفعها إلى مزيد من المغامرة، فوجهت نشاطها إلى إفريقية التي كانت لا تزال تحتفظ بقوة بحريَّة، لمنعها من مدَّ يد المساعدة لإخوانهم في صقلية أو غيرها من ناحية، ثم لتحقيق أهداف الحركة الصليبية في أفريقية من ناحية ثانية ، فقامت قوة بحرية ضخمة مكونة من أسطولي جنوة وبيزا مدعومة بفريق من مدينة أمالفي وقوة عسكرية أخرى أمدهما بها البابا بمهاجمة مدينة المهدية سنة "480ه /1087م" أي يعد الاستيلاء على طليطلة بعامين وقبيل الاستيلاء الكامل على صقلية واستولت عليها باستثناء قلعتها، وظلت في يدها إلى أن دفع صاحبها نميم بن المعز للقوى المتحالفة فدية مالية ضخمة وعقد مع الغزاة معاهدة نص أحد بنودها على تعهّد تميم بعدم التعرض للسفن الإيطالية في المياه الإفريقية، ومنحهم امتيازات تجارية في بلاده كما يذكر في موضعه ، ومما تقدم يتضح أن هذا الهجوم الصليبي على القسم الغربي من العالم الإسلامي منذ أواسط القرن الخامس الهجري "الحادي عشر للميلاد" والذي كانت تدير دفته البابوية قد احتدم في ثلاث جبهات كانت إفريقية إحداها، ولا شك أن هذا الهجوم كان وجهاً من أوجه الحركة الصليبية، وهذا يؤكد أن الحروب الصليبية بدأت في إفريقية قبل الزحف الصليبي إلى المشرق، ويؤكد هذه الحقيقة ما ذكره ابن الأثير في حوادث سنة "491ه" إذ يفهم من النص الذي أورده أن تلك الحوادث كانت مترابطة يحركها محرك واحد وأنها كانت بداية لموجة الحروب الصليبية في ذلك الطور من أطوار الحركة الصليبية، إذ يقول: " كان ابتداء ظهور دولة الفرنج واشتداد أمرهم وخروجهم إلى بلاد الإسلام واستيلائهم على بعضها سنة ثمان وسبعين وأربعمائة" فملكوا طليطلة وغيرها من بلاد الإسلام. . ثم قصدوا سنة " أربعة وثمانين وأربعمائة جزيرة صقلية وملكوها. . وتطرقوا إلى إفريقية، فملكوا منها شيئاً وأخذ منهم - ثم ملكوا غيره غيره على ما تراه - فلما كان سنة "تسعين وأربعمائة خرجوا إلى بلاد الشام"، وعلى الرغم من اتجاه معظم قوى الحركة الصليبية إلى المشرق، إلا أن ذلك لم يمنع من بقاء فكرة احتلال إفريقية ماثلة في أذهان ذوي الأفكار الصليبية، وبقي تطلع النورمان للاستيلاء عليها قائماً حتى تم لهم ذلك في عهد رجار الثاني حيث استولى على معظم سواحلها من طرابلس شرقاً إلى مدينة تونس غرباً في سنة "543ه/1148م"، فكانت الحرب الصليبية مشتعلة في الجبهة الإفريقية أثناء احتدامها في جبهة المشرق، وبقي الوجود النورماني ماثلاً فيها حتى قام عبدالمؤمن بن علي زعيم دولة الموحدين بطردهم من المهدية آخر معاقلهم فيها سنة "555ه/1160"، وعندما حدث نوع من تبدل ميزان القوى في المغرب الإسلامي نجد ذلك ساهم في جبهة المقاومة الإسلامية في المشرق في عهد نور الدين محمود زنكي وصلاح الدين الأيوبي، كما سيأتي بيانه بإذن الله تعالي.

سادساً:

استنجاد إمبراطور بيزنطة بالبابا أوربان الثاني:

استنجاد الإمبراطور الكسيوس كومنين "1081- 1118م" بالبابا أوربان الثاني ضد السلاجقة، لم يكن هذا الاستنجاد في الحقيقة الأول من نوعه بل سبقه استنجاد الإمبراطور "ميخائيل السابع" بالبابا "جريجورى السابع" عقب موقعة ملاذكرد "463ه" السالفة الذكر، فالمعروف أن شن الحرب على الترك كان من الأغراض التي تنطوي عليها الدعوة البيزنطية، فالأناضول يعتبر أكثر أهمية من بيت المقدس عند البيزنطية، ولذلك لما أصبحت عاصمة البيزنطيين مهددة من قِبل

السلاجقة كان لزاماً على الإمبراطور أن يستنجد بالغرب في مقابل اتحاد الكنيستين الشرقية والغربية، وقد أرسل البابا جريجورى السابع إلى الإمبراطور ميخائيل السابع رداً مرضياً بدافع العاطفة المسيحية من جهة، وبدافع سياسي من جهة أخرى، فما يحشده من جيش سوف يقضي على الانشقاق بين الكنيستين ويزيد من نفوذ البابوية في الشرق مثلما زاد في الغرب.

غير أن الحرب التي نشبت بين جريجورى السابع والإمبراطور "هنري الرابع" منعته من المضي في مشروعه ولما خلف الإمبراطور " الكسيوس كومنين" الإمبراطور ميخائيل السابع بعث برسالة إلى البابا أوربان الثاني وإلى كبار رجال الإقطاع سنة "478ه" يدعوهم لإرسال المساعدات لنجدة إخوانهم في الشرق وحماية القسطنطينية ضد الخطر السلجوقي، ولقد كان "الكسيوس" يرغب في أن يبعث له الغرب ببعض الجند المرتزقة، ولكن البابا أوربان لم يشأ أن يجعل نفسه في خدمة الدولة البيزنطية ، بل أراد أن تتولى البابوية تقديم المساعدة للمسيحيين في الشرق، وهذا التغيير في الفكرة يؤدي إلى أن يحشد العالم المسيحي اللاتيني جيشاً ضخماً، لا أن يبعث بجنود مرتزقة تخضع لأهواء الأمراء.

وتصرف البابا مقابل طلب الإمبراطور ميخائيل السابع يبرز أهمية إبداع التفكير واقتناص الفرص وتسخير الوسائل في خدمة مشروعهم وعلينا أن نستفيد في هذا الدروس الكثيرة لخدمة المشروع الإسلامي، وأثار هذا الاختلاف في التفكير من المتاعب منذ البداية ما أساء العلاقات بين البيزنطيين والصليبيين، والثابت تاريخياً أن المسؤول الأول عن قيام الحركة الصليبية هو البابا أوربان الثاني، فهو الذي أنذر بقيام تلك الحروب يؤيده في دعواه الجهاز الكنسي في الغرب، وينسب إليه جميع المؤرخين اللاتين المعاصرين له الدور الرئيس في تحقيق هذه الفكرة.

سابعاً:

شخصية البابا أوربان الثاني ومشروعه الشامل للغزو الصليبي:

ولد أوربان الثاني عام "427ه/1035ه" في شاتيون سير مارن واسمه: أودو، وقد درس على يدي القديس برنو الذي أسس نظام الكارسوسيين، وفي عام "461ه/1068ه" أصبح راهباً في دير كلوني بالقرب من ماكون، وقد التحق بخدمة البابا المتسلط المؤمن إيماناً راسخاً بتفوق البابوية على الأمبراطورية، ونعني به جريجورى السابع، وتم تعيينه كاردينالاً أسقفاً لا وستياً في عام "473ه/1080م"، وخدم الكنيسة في ألمانيا خلال المرحلة من "477ه/ 1084ه" إلى " 478ه/1085م"، وقد ساند على نحو شرعي البابا جريجوري السابع في خلال صراعه مع الإمبراطور هنري الرابع، وقد ارتبط أوربان الثاني بسينودس "مجمع كنسي" في ساكسوني الذي عقد عام "478ه/1085م" وعند وفاة البابا فيكتور الثالث في 16 ديسمبر 1087م في مونت كاسينو تم السيطرة على روما عن طريق كايمنت الثالث، وتم انتخاب أوربان الثاني بعد تأخير طويل في تراكينا إلى الجنوب من روما بالقرب من جايتا، وحمل اسم أوربان الثاني "481 - 493ه/1088 - 1099م".

ونلاحظ من خلال سيرة هذا الرجل أنه اتسم بالنشاط الوافر، وإحكام سيطرته على كافة مناطق نفوذ الكنيسة الأم، ولعل موقفه من إسبانيا يمثل لنا بعداً مهماً، فقد أيد ذلك البابا الحرب ضد المسلمين، وعندما أمكن للأسبان إخضاع بعض المناطق التي كانت من قبل تحت سيادة أعدائهم سارع البابا بجعلها ضمن نفوذ كنيسة روما، ولا شك أن أوربان الثاني في دعمه الحرب ضد المسلمين هناك كان يسير على خطى وهدى البابا الكسندر الثاني، وهكذا يؤكد لنا على حقيقة محورية وهي وجود استراتيجية عليا للبابوية في روما تتجه نحوها وتنفذها بحرص في القرن الحادي عشر الميلادي / الخامس الهجري على نحو خاص بغض النظر عن تغير وتقلب البابوات، وأهم ملامح هذه الإستراتيجية هي توسيع نفوذ كنيسة روما، وتوحيد الكنائس، ومحاربة الإسلام أينما وجد باعتباره العدو اللدود الذي لا مناص من مواجهته ومحاولة الانتصار عليه بأي ثمن، ومن الملاحظ أن من خلال الاستغاثات البيزنطية المتعددة، وانشغال من سبق أوربان الثاني بأمور متعددة، جاءت الفرصة السانحة لهذا البابا، وفي مجمع بياكنزا بإيطاليا في مارس "1095م، 448ه" اتجه إلى الاستجابة لدعوة الإمبراطور الكسيوس الأول كومنينوس "474 - 512ه" "1081 - 1118م" غير أن مجمع بياكنزا أخفق فيه البابا في الدعوة لشن حرب صليبية ضد المسلمين في الشرق. <

صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.

ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد