المؤلف/ علي محمد الصلابي
1- أوربان الثاني يعقد مجمعاً كنسياً في جنوب فرنسا:
إن إخفاق مجمع بياكنزا لم يثن ذلك البابا العنيد الطموح عن تحقيق هدفه بكل الوسائل الممكنة، وقد اتجه إلى بلاده الأصلية فرنسا من أجل معاونته على نجاح مشروعه المرتقب، وقد دل ذلك الاختيار على ذكائه خاصة أن جنوب فرنسا التقليدي المحافظ كان بمثابة منطقة تماس مع الحرب التي شنها الإسبان ضد المسلمين في إسبانيا، بالإضافة إلى أن مجرد طرح الفكرة على الأرض الفرنسية كان من الممكن أن يحقق نجاحاً فورياً من خلال أنها الموطن الأصلي للبابا، وهو أدرى بشعابها، خاصة - أنها في نفس الحين - ذات تاريخ خاص مع الإسلام خلال معركة بواتيه المعروفة لدى المسلمين بمعركة "بلاط الشهداء" عام "114ه/732م" والتي فيها هزم المسلمون وتم وقف المد الإسلامي وإعاقته عن الامتداد فيما وراء جبال البرانس، وسوف ندرك من خلال تحليل خطاب البابا في مجمع كليرمنت أن كافة تلك الزوايا لم تغب عن ذهن ذلك الرجل الحاد الذكاء، القوي الإرادة منذ أن تربى في أحضان حركة الكارسوسيان الرهبانية الصارمة.
مهما يكن من أمر، فإن البابا اتجه إلى كليرمنت فران بجنوب فرنسا، وعقد مجمعاً كنسياً هناك، وفي اليوم العاشر عقد المجمع الذي تناول فيه العديد من القضايا التي تهم الكنيسة: ألقى البابا على مستمعيه خطاباً بالغ الأهمية والخطورة وذلك في يوم "27 نوفمبر 1095م".
2- الخطبة التي ألقاها البابا أوربان الثاني:
كان للخطبة التي ألقها البابا أوربان الثاني في المجمع الديني الذي انعقد في كليرمونت عام "488ه/ 1095م" أثرها البالغ في نفوس المسيحيين المجتمعين في هذا المجمع، فقد ألهبت حماسهم وأصابتهم بحالة عبر عنها المؤرخ جوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب": بأنها نوبة حادة من الجنون، إذ قال البابا: يا شعب الفرنجة، يا شعب الله المحبوب المختار، لقد جاءت من تخوم فلسطين، ومن مدينة القسطنطينية أنباء محزنة تعلن أن جنساً لعيناً أبعد ما يكون عن الله قد طغى وبغى في تلك البلاد، بلاد المسيحيين في الشرق، وقلب موائد القرابين المقدسة، ونهب الكنائس وخربها وأحرقها، وساقوا بعض الأسرى إلى بلادهم، وقتلوا بعضهم الآخر بعد أن عذبوهم أشنع تعذيب، ودنسوا الأماكن المقدسة برجسهم، وقطعوا أوصال الإمبراطورية البيزنطية، وانتزعوا منها أقاليم بلغ من سمعتها أن المسافر فيها لا يستطيع اجتيازها في شهرين كاملين، على من إذن تقع تبعة الانتقام لهذه المظالم، واستعادة تلك الأصقاع إذا لم تقع عليكم أنتم؟ أنتم يا من حباكم الله أكثر من أي قوم آخرين بالمجد في القتال، وبالبسالة العظيمة وبالقدرة على إذلال رؤوس من يقفون في وجوهكم؟ ألا فليكن من أعمال أسلافكم ما يقوي قلوبكم - أمجاد شارلمان وعظمته، وأمجاد غيره من ملوككم وعظمتهم، فليثر همتكم ضريح المسيح المقدس ربنا ومنقذنا - الضريح الذي تمتلكه الآن أمم نجسة، وغيره من الأماكن المقدسة التي لوثت ودنست -
لا تدعوا شيئاً يقعد بكم من أملاككم أو ما شؤون أسركم، ذلك بأن هذه الأرض التي تسكنونها الآن والتي تحيط بها من جميع جوانبها البحار، وقلل الجبال، ضيقة لا تتسع لسكانها الكثيرين، تكاد تعجز عن أن تجود بمن يكفيكم من الطعام، ومن أجل هذا يذبح بعضكم بعضاً، وتتحاربون ويهلك الكثيرون منكم في الحروب الداخلية.
طهروا قلوبكم إذن من أدران الحقد، واقضوا على ما بينكم من نزاع واتخذوا طريقكم إلى الضريح المقدس، وانتزعوا هذه الأرض من ذلك الجنس الخبيث وتملكوها أنتم، إن أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها. هي فردوس المباهج، إن المدينة العظمى القائمة في وسط العالم تستغيث بكم أن هبوا لإنقاذها. فقوموا بهذه الرحلة راغبين متحمسين تخلصوا من ذنوبكم، وثقوا بأنكم ستنالون من أجل ذلك مجداً لا يفنى في ملكوت الساموات.
وهكذا كان لهذه الكلمات الحماسية التي ألقاها البابا أوربان الثاني أثرها البالغ في نفوس المسيحيين المجتمعين، فبعد أن أنهى البابا خطبته مباشرة صاح المجتمعون صيحة رجل واحد قائلين: هكذا أراد الله، ولم يكد البابا أوربان الثاني ينتهي من خطابه هذا، حتى نهض إليه الأسقف أدهمير دي مونتيلن وركع أمام قدمي البابا، والتمس منه الإذن بأن يلحقه بالحملة المقدسة، وأمام هذا الموقف المؤثر تحركت مشاعر المجتمعين وتدافعوا بالمئات يركعون أمام البابا مثل أدهمير في حماس منقطع النظير وحملوا الصلبان وحلفوا جميعاً على تخليص المدينة المقدسة.
ويعقب المؤرخ المعاصر للأحداث وهو - روبرت الراهب - فيقول: يا له من عدد كبير من الناس، من كل الأعمار ومن مختلف المستويات تقلدوا الصلبان خلال مجمع كليرمونت، وقد حلفوا على تخليص المدينة المقدسة وقد وصل عددهم إلى 300 ألف، وإزاء هذا الموقف المتحمس لأدهمير عينه البابا أوربان الثاني مثلاً شخصياً ونائباً عنه ليوضح للجميع أن الحملة تحت إشراف الكنيسة، بل تحت إشرافه هو مباشرة.
3- ما يستنتج من خطاب البابا أوربان الثاني؟
قام الدكتور محمد مؤنس عوض بدراسة واعية للحروب الصليبية واستفاد من مراجعهم وقام بتحليل لخطاب البابا من خلال أربعة نصوص لأربعة من المؤرخين المعاصرين، هم: فوشيه الشارتري، وروبير الراهب، وجويرت النوجتي، ويودريك الدولي، وهناك تصور بأن فرشيه الشارتري كان من بين الذين حضروا مجمع كليرمنت، وبصفة عامة، من الممكن عقد مقارنة بين النصوص الواردة في مؤلفات المؤرخين الأربعة من أجل التوصل إلى حقيقة ما أعلنه البابا في خطبته الشهيرة، وعند مقارنة تلك النصوص يمكن استنتاج الآتي:
أ- وجه البابا حديثه إلى جنس الفرنجة:
من أجل التركيز على البعد الإثني أو العرقي، وأوضح أن الله قد ميزهم بموقع بلادهم، وبعقيدتهم الكاثوليكية، وعمل على تذكيرهم بالبعد التاريخي من خلال أمجاد شارل مارتل وشارلمان وما قدماه للمسيحية من خدمات جليلة، على نحو عكس أهمية حافز" الذاكرة التاريخية" في تشكيل تلك الظاهرة التاريخية الكبرى.
ب-أشار البابا إلى أن هناك أخباراً مؤسفة ومزعجة قدمت من الشرق مفادها أن جنساً ملعوناً وهم عرق معلون، عرق غريب تماماً عن الله وهم حقاً جيل لم يتوجه بقلبه أو يعهد بروحه إلى الله ،" ويقصد بذلك الأتراك السلاجقة" ذبحوا المسيحيين الشرقيين، وحولوا الكنائس إلى أسطبلات لخيولهم، وأن دماء أولئك المسيحيين تنادي مسيحي الغرب من أجل إنقاذهم من براثن أعدائهم الكفار.
ج- عمل البابا على إثارة مطامع سامعيه في ثروات الشرق فأوضح أن الأرض في الغرب الأوروبي ولاسيما في فرنسا ضاقت بسكانها، وطلب من الناس الذهاب إلى الشرق حيث أرض كنعان التي تفيض لبناً وعسلاً، وفي ذلك الدليل الجلي الذي لا يقبل ارتباب مرتاب على أن البعد الاقتصادي للحركة الصليبية كان موجوداً، وقد تم الإعلان عنه بصراحة كاملة منذ اللحظات الأولى لميلادها.
د- وعد البابا كل من يحمل السلاح ويتجه إلى الشرق بأن تغفر ذنوبه وآثامه، وبمعنى آخر قدم لهم الغفران الكنسي، أما إذا استشهد المرء في سبيل تحقيق هدفه فإنه يعد شهيداً من شهداء المسيحية الأبرار، وجميعها مغريات مهمة في عصر سادته ظاهرة الهوس الديني العاطفي في العالم المسيحي الأوروبي.
ه- اتجه البابا إلى الإشارة إلى بيت المقدس، وهي الجنة الأرضية قلب العالم التي شهدت ميلاد السيد المسيح وطهرها بموته، وذكر لمستمعيه أنها تناديكم من أجل تخليصها من براثن محتليها من الكفار، وأود أن أقرر أن تلك المدينة مثلت محوراً على قدر عظيم من الأهمية: من أجل إثارة الشعور الديني لدى مستمعي البابا، وفي أغلب النصوص التي وردت إلينا بشأن الخطاب المذكور نجد أن بيت المقدس تحتل مكاناً بارزاً ومحورياً، وهو أمر منطقي تماماً من خلال مكانتها وقداستها الدينية، كذلك أنها مثلث الحلم الجماعي الخاص بالحج المسيحي في ذلك العصر.
و- حرص البابا على تدعيم خطابه بعدد من النصوص الواردة في الكتاب المقدس من أجل إثارة الشعور الديني لمستمعيه، أو ربما من أجل أن يعطي لخطابه قداسة، خاص مثل عبارات ذلك الكتاب في العقل الجمعي الأوروبي في ذلك العصر، ومن أمثلة ذلك العبارة الواردة في إنجيل متى وهي: من أحب أباً وأمَّا أكثر مني فلا يستحقني، ومن أحب ابناً أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني.
كذلك العبارة القائلة: من لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني. والتي وردت في نفس الإنجيل المذكور.
ز- ترتيب الاولويات عند البابا أوربان الثاني:
كان البابا أوربان الثاني بارعاً في عرض أفكاره وكذلك في إخفاء بعضها، وقد ركز على أمر بيت المقدس حتى يقدم طريقاً واحداً على الغرب الأوروبي السير فيه دون تردد ويخلق لمعاصريه "وحدة الهدف" من خلال وحدة المؤسسة الدينية الداعية له في صورة البابوية، وعلى هذا الأساس لم يرد في الخطاب المذكور أية عبارات عن رغبته العارمة في توحيد الكنائس وإخضاع كنيسة القسطنطينية لسيطرة الكنيسة الأم في روما، كذلك لم يرد فيه ما يدل على الهدف التنصيري وهو هدف محوري للبابوية من خلال المشروع المرتقب، وتعليل ذلك الإخفاء، يكمن في أن البابوية أدركت أن هناك أولويات في طرح المشروع ينبغي عدم تخطيها، وأن وحدة العالم المسيحي تتطلب عدم تشعيب الأهداف وطرحها حتى لا يغيب الأمر منذ اللحظات الأول لميلاد المشروع، ويلاحظ هنا أن لغة البابوية في الخطاب ذات طابع متكتم في عرض الأهداف الأخرى لها، أما فيما بعد نجاح المشروع والاستيلاء على الرمز الديني المسيحي في صورة بيت المقدس، وجدنا - والأمثلة هنا أكثر من أن تحصى - الإفصاح عن الأهداف الأخرى بوضوح وصراحة كاملتين، وفي هذا دليل واضح على أن تلك المؤسسة الدينية ذات التأثير الفعال رأت تحقيق أهدافها جزئياً وليس دفعة واحدة، وهو أخطر ما في المشروع برمته، وفي تقديري أن البابا أوربان الثاني لم يغب عن تفكيره ذلك الجانب بحكم أنه المهندس الأول للمشروع والراعي الأصلي لفكرته، وفي واقع الأمر أن الخطاب الذي ألقاه البابا في مجمع كليرمنت يعد على جانب كبير من الأهمية التاريخية، فلم نسمع من قبل في تارخ أوروبا القرون الوسطى أن خطاباً كان معبراً عن عصره بمثل هذه الصورة، كما لم نسمع عن خطاب حرك الجماهير الأوروبية الغفيرة عن مواطنها الأصلية إلى الشرق بمثل تلك الدرجة التي تُحدثنا بها المصادر التاريخية المعاصرة، ولذلك لا ننظر إليه على أنه مجرد خطاب عادي، بل أنه إعلان ما يشبه "الحرب العالمية" في العصور الوسطى من جانب الغرب الأوروبي ضد الشرق الإسلامي، وذلك دونما مبالغة أو قولية أو اعتساف في الأحكام، بل من خلال شواهد التاريخ التي وقعت في أعقابه.
ويلاحظ أنه في أعقاب إلقاء البابا لخطابه صاح الحاضرون صيحة واحدة وهي: الله يريد ذلك، وكانت صيحة المسيحية لمحاربة الإسلام وأهله، واتخذوا الصليب شعاراً، ومن هنا كانت تسميتهم بالصليبيين.
صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.