;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس ..الحلقة السادسة 1070

2008-08-28 02:52:30

المؤلف/ علي محمد الصلابي

ح- قدرة البابا أوربان الثاني على تقديم مشروع عام:

استطاع أوربان الثاني أن يوحد شعوب الغرب في مشروع عام، على الرغم من أن لغات هذه الشعوب وعاداتها المحلية، واهتمامات أبنائها كانت تختلف اختلافاً بيناً.

ولكن الفكرة الصليبية التي جمعت جماهير الغرب الأوروبي لم تكن لتنجح لو لم تكن متوافقة مع حركة المجتمع، هذا التوافق بين الفكر والواقع، بين التبرير الأخلاقي للحرب، وحركة المجتمع هو الذي خلق الإيديولوجية التي تحركت الجماهير الأوروبية في إطارها، فعلى المستوى الشعبي كان تفكير الناس في أوروبا الغربية في القرن الحادي عشر يتوازى مع السياسة البابوية وفكرة الحرب المقدسة إلى حد ما، إذ أن أوروبا كانت قد بدأت حركة إحياء دينية مع مشرق شمس القرن الحادي عشر.

ومع اقتراب الألف الأولى بعد المسيح من اكتمالها سرت موجة بالإحساس بالذنب والرغبة في التوبة في غرب أوروبا، فقد تعمق لدى الإنسان الغربي الشعور بالخطيئة والإحساس بالذنب، والحقيقة أن من يقرأ مصادر تاريخ القرن الحادي عشر في غرب أوروبا لا يمكن أن يغفل إصرار الناس في ذلك الزمان على أن يضمنوا لأنفسهم غفران خطاياهم، وكان هذا نتاجاً للمشاعر الألفية والأخروية التي ملكت على الناس وجدانهم وعقولهم مع توقعاتهم لمجيء الدينونة، وانتشر الوعاظ الجوالون في كل أنحاء الغرب الأوروبي يحثون الناس على الزهد والتوبة والتشبه بحياة الفقر التي عاشها الحواريون، وفي غمرة هذا التدين العاطفي الذي حكم تصرفات المجتمعات الغربية سادت مشاعر الكراهية والتعصب ضد أتباع الديانات الأخرى، بل وضد من يعتنقون مذهباً غير المذهب الكاثوليكي، وثمة دليل قوي على هذا في طيات الملحمة الصليبية المعروفة باسم: "أنشودة أنطاكية" التي تعكس، بشكل أمين، روح الانتقام التي سرت في المجتمع الكاثوليكي ضد "الوثنيين المخذولين" - على حد زعمهم - كما أن القصيدة لا تعتبر أن الأمة المعادية للمسيح هم المسلمون فقط، وإنما يصدق هذا الوصف أيضاً على كافة من لا يعترفون بعقيدة الكنيسة الكاثوليكية، وهي بهذا تجسد التفكير الشعبي في أوروبا القرن الحادي عشر، هذا التفكير الشعبي كان هو الآخر واحداً من ملامح الإيديولوجي العامة التي أفرزت الحركة الصليبية، لقد تمثل نجاح أوربان الثاني في أن خطبته التي دعا فيها إلى الحملة الصليبية كانت بمثابة بؤرة تجمعت فيها كل الأفكار التي مثلت الإطار الإيديولوجية لحركة المجتمع الغربي آنذاك، على الرغم من الاختلافات اللغوية والعادات والتقاليد، وهكذا لم تكن استجابة جماهير المستمعين إلى البابا في كليرمون مجرد رد فعل لبلاغة كلماته، وإنما كانت هذه الاستجابة تعبيراً عن فرحة أولئك المستمعين بالمشروع الذي مسَّ أوتار الآمال التي كانت تداعب كلماتهم تقريباً، وجاءت الحرب المقدسة ستاراً مدهشاً يمكن للجميع أن يتحركوا من خلاله لضمان تحقيق أحلامهم الدنيوية وخلاصهم الأخروي، وبوسعنا أن نورد عشرات التعبيرات الواردة في المصادر التاريخية والحوليات المعاصرة تصف الصليبيين بأنهم "فرسان المسيح" و "رجال المسيح" " أولئك الذين يكونون جيش المسيح" و"الشعب المقدس" و " شعب الرب" وهي كلها تعبيرات تشير بأن فكرة الحرب الصليبية كانت قد رسخت في الأذهان بحيث كان الناس على اقتناع كامل بأنهم حين يشاركون في هذه الحملة لا يفعلون ذلك استجابة لأوامر أي مخلوق، ولا حتى البابا نفسه، وإنما هم يطيعون الرب.

4- الاجتماع الاستشاري للبابا بعد خطابه:

كان البابا أوربان الثاني يجتمع مع رجال الدين النصراني ويستشيرهم في حشد الطاقات الرسمية والشعبية لغزو المسلمين، فقد اجتمع مع أساقفته وبعد هذا الاجتماع الاستشاري خرجوا بالقرارات الآتية:

- كل من ارتكب جرماً يعاقب عليه، يصبح في حل من العقوبة إذا اشترك في هذه الحرب المقدسة.

- كل مال من عقار أو متاع يتركه المحارب الذاهب إلى الأرض المقدسة يكون تحت حماية الكنيسة أثناء غيابه. . وترده كاملاً حين يعود المحارب إلى وطنه.

- ينبغي لكل مشترك في الحملة أن يحمل علامة الصليب.

- على كل من اتخذ الصليب أن يفي بالوعد بالمسير إلى بيت المقدس فإذا رجع عن عزمه طرد من الكنيسة.

- كل بلد يخلص من أيدي الكفار" المسلمين" يجب أن يرد للكنيسة.

- ينبغي أن تلتقي الجيوش في القسطنطينية. ولقد قام البابا هذا فأرسل أساقفته بهذه القرارات لتبليغها لملوك العالم المسيحي وأمرائه في الغرب.

5- حملة الدعاية الصليبية:

افتتح خطاب البابا أوربان الثاني مرحلة على جانب كبير من الأهمية في صورة الدعاية الصليبية ، وهي دعاية قامت على أساس الانتقال الشخصي للعديد من المواقع، ومخاطبة قطاعات مختلفة من البشر، وقد كان لها دورها الفعال من أجل إنجاح ذلك المشروع، ومن الممكن ملاحظة أن الحملة الصليبية الأولى - على نحو خاص - تم الإعداد الدعائي لها بمنتهى البراعة والإتقان منذ الخطاب المذكور، وفي هذا الصدد تم حشد جيش من الدعاة هدفهم توسيع صوت دائرة الفكر من أجل مخاطبة كافة قطاعات المجتمع الأوروبي كل على قدر تصوره، وقد قام البابا اوربان الثاني بعد عقد مجتمع كليرمنت بالانتقال إلى مدن تور، وبوردو، ونيميز ومكث تسعة أشهر داعياً لمشروعه الجديد، كذلك فإنه قام بإرسال العديد من الخطابات، من أجل الدعوة لمشروعه الصليبي ، ومن ذلك الرسائل التي أرسلها إلى كافة المؤمنين - بالمسيحية - في القلاندروز، وكذلك إلى بولونا وقالو مبروز وكذلك إلى كونتات سردانيا وروسيللون وبيسالون وامبورياس، ويلاحظ أن الخطابات المذكورة لا يمكن فصلها عن دور البابا في مجمع كليرمنت فهي تكملة حقيقية لدوره الدعائي للحروب الصليبية.

6- العقلية التنظيمية لأوربان الثاني:

ويلاحظ أن الخطابات التي أرسلها الباب من أجل مشروعه الصليببي، تقدم لنا عدداً من التفصيلات التي لم ترد في خطاب كليرمونت، ومن بينها تقريره بدور المندوب البابوري أدهيمار أسقف بوى، ويذكر ضرورة طاعة أوامره كأنها صادرة من البابا شخصياً، كذلك قرر أنه لا يسمح للرهبان أو القساوسة بالاتجاه إلى الشرق إلا بعد الحصول على إذن من أساقفتهم، وكذلك مقدمو الأديرة تجنباً للتمرد والفوضى، وينبغي أن ندرك: أن تلك المصادر الوثائقية التي بين أيدينا تكشف لنا عن العقلية التنظيمية الدقيقة لأوربان الثاني، ولذلك نراه امتلك رؤية شاملة للمشروع الصليبي - في تلك المرحلة المبكرة على الأقل - وقد حرص الحرص أجمعه على نصيحة من سيشاركون في الرحلة إلى الشرق بضرورة الطاعة العمياء لأوامره، وكذلك أوامر رؤسائهم المباشرين، كما نستشعر أن البابا ألح على فكرة وحدة العالم المسيحي،وكأن ما حدث في الشرق للمسيحيين - في زعم الدعاية الأوروبية المغرضة - هو أمر يدخل في صلب اهتمامات قاطني الغرب الأوروبي، وأن مساعدة الفرنجة وغيرهم للمسيحيين الشرقيين هو جزء رئيس من واجباتهم كمسيحيين، على أية حالة، فإن الثمرة الطبيعية للدور التنظيمي والتخطيطي والدعائي الذي قام به البابا وكبار رجال الكنسية الذين معه قيام الحرب الصليبية، ومما ساعدهم على ذلك اختيار التوقيت المناسب للحرب.

7- بطرس الناسك:

تأثر بطرس الناسك بخطاب البابا أوربان الثاني وكان له تأثير شديد على الناس، وكان يركب حماراً - ينتقل به من بلد إلى آخر، وكان يسير حافي القدمين ويرتدي ملابس رثة، ويتحدث المؤرخ روبرت الراهب عنه فيقول: إن بطرس هذا هو رائد الحرب الصليبية، وأنه كان يفوق في ورعه القسيسين والأساقفة، وكان ممتنعاً عن تناول الخبز واللحم، بل جعل غذاءه السمك، وكان لا يسمح لنفسه إلا بقليل من النبيذ وبعض الطعام الغليظ، وعلى الرغم من مظهر بطرس الناسك وحالته الرثة إلا أنه كانت له قوة غريبة تثير حماس الرجال والنساء وتجذب الجماهير إليه، فاستطاع أن يجذب وراءه حوالي خمسة عشر ألف شخص من الفقراء الذين كانوا يتبعونه من بلد إلى بلد آخر بحماس شديد على الرغم من أن غالبيتهم كانوا لا يدرون شيئاً عن استعمال السلاح أو الفروسية، بل لم يشتركوا في أي حرب من قبل إلا أن تأثرهم بكلمات بطرس الناسك الحماسية ومظهره جعلهم يندفعون في حماس جارب وراءه دون التفكير في أي احتمالات أخرى، فلقد كانت خطبه نارية ممزوجة بالبكاء والعويل وصب اللعنات على الكافرين، وبوعد الرب للذين يزحفون لإنقاذ قبر المسيح بالمغفرة، وتؤثر فصاحته التمثيلية الخيالية في قلوب الجموع، ومما نحب الإشارة إليه أن الوعاظ الذين قاموا بدور مماثل لبطرس الناسك في التبشير بالحروب الصليبية والدعاية لها إنما كانوا يعدون بالمئات والآلاف، وقد تأثر الناس بهؤلاء الوعاظ، ويصف المؤرخ بودري بوصفه معاصراً لأحداث هذه الفترة الزمنية أن بعض العامة من المسيحيين كانوا يرسمون على صدورهم علامة الصليب بواسطة الحديد المحمي على النار ليتباهون بإظهار حماسهم وليوهمون الآخرين بأن هذه العلامات إنما جاءتهم عن طريق معجزة، وهكذا انطلق الجميع يتجهزون للذهاب للأراضي المقدسة بالشام بعد تلك الكلمات التي سمعوها، وكان معظمهم يبيعون ما يملكون ليجهزوا أنفسهم للرحيل طمعاً في محو ذنوبهم ورضاء الله عنهم، وكان الآباء سعداء برؤية أولادهم وهم يرحلون، كما كانت الزوجات في غاية الفرح لدى رؤيتهن لأزواجهن وهم يتأهبون للرحيل، فحماس الجميع كان منقطع النظير، واقتناعهم بهذا العمل كان شديداً، وعلى قدر الفرحة الكبيرة التي شعر بها أولئك الذين غادروا بلادهم للالتحاق بالحملة الصليبية الأولى كان الأسى والحزن يخيم على أولئك الذين لم يخرجوا في تلك الحملة.

8- غفلة المسلمين عما يدبر لهم:

كانت الدولة الإسلامية في العهد الأموي مثلاً لها جهاز استخبارات اخترقت به خصومها المحليين والدوليين، وكانت عيون معاوية اخترقت البلاط البيزنطي، وقد بينت ذلك في كتابي عن الدولة الأموية، وأما بالنسبة لعهد الدولة العباسية، فإننا لم نعثر في المصادر الإسلامية على أية خطبة حماسية لأي من الخليفتين العباسي أو الفاطمي كرد فعل على خطبة البابا أوربان الثاني، أو على الأقل نشعر من أن المسلمين علموا بما جرى في مؤتمر كليرمونت وما بعده، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى انشغال كل من الدولتين العباسية والفاطمية بالتنازع فيما بينهما، ومحاولة كل منهما التغلب على الأخرى لتكون لها السيادة، فظلوا في سبات عميق حتى وصلت الحملة الصليبية الأولى بالفعل إلى بلاد الشام، ولعل ما يؤكد هذا ما جاء في كتابات ابن القلانسي من أن أخبار الصليبيين لم تصل للمسلمين في بلاد الشام إلا في سنة "490ه/1097م"، فيقول في ذلك: وتواصلت الأخبار بهذه النوبة المستبشعة في حق الإسلام فعظم القلق وزاد الخوف والفرق، ومع ذلك فإن رد الفعل الإسلامي الوحيد الذي ظهر قبيل وصول الحملة الصليبية الأولى إلى بلاد الشام كان من جهة السلاجقة في آسيا الصغرى عندما استطاعوا القضاء بكل سهولة على القسم الأول من القوات الصليبية المعروفة باسم: "حملة العامة" فضلاً عما قاموا به من عمليات دفاعية عن ممتلكاتهم في آسيا الصغرى، كما سيأتي بيانه بإذن الله تعالى.

كان الصليبيون يتحركون من خلال قيادة مؤهلة، ووضوح هدف، وحيوية ونشاط وطول نفس، موظفين القدرات الخطابية في التأثير على الناس، ومستخدمين عوامل متعددة، كالاقتصادي والسياسي والاجتماعي والديني لتحريك شعوب غرب أوروبا، كما كان للمكانة الروحية للبابا تأثير على تحرك الجيوش نحو المشرق، فقد تحرك البابا من خلال مشروع وظف فيه كافة الإمكانات والطاقات المتاحة.

صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.

ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد