;

صلاح الدين الأيوبي:وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس ..الحلقة السابعة 1785

2008-08-30 04:09:53

المؤلف/ علي محمد الصلابي

المبحث الثالث

بدء الحرب الصليبية الأولى

بعد خطبة البابا أوربان الثاني في كليرمونت بفرنسا التي دعا فيها إلى الحرب الصليبية، طلب من رجال الكنيسة أن يعودوا إلى بلادهم، كيما يبشروا بالحروب، واجتهد رجال الكنيسة في ذلك، وكانت الثمرة الطبيعية للدور الدعائي الكبير الذي قام به البابا ومن وثق فيهم، قيام الحرب الصليبية الأولى والتي انقسمت إلى قسمين: الأولى: حملة العامة، والثانية: حملة الأمراء، واحتلت الحملة الصليبية الأولى بشقيها اهتماماً كبيراً لا نظير له من جانب المؤرخين المعاصرين لها سواء اللاتين أو البيزنطيين أو المسلمين، وكذلك من جانب المؤرخين المحدثين الذين تخصصوا في دراسة الحروب الصليبية، ولعل مرجع ذلك يكمن في النتائج الخطيرة التي نتجت عن تلك الحملة على نحو خاص، حيث أدت إلى تأسيس إمارات صليبية في الشرق طال بعضها إلى قرنين من الزمان.

وقد نجحت الحملة الصليبية إلى حد كبير في تثبيت وتأسيس أربع إمارات لاتينية: الأولى: في أعالي الفرات وهي الرها، والثانية: في أعالي الشام وهي أنطاكية، والثالثة: على الساحل الشامي وهي طرابلس، أما الرابعة: فكانت في قلب فلسطين، وهي بيت عشر المقدس، إضافة إلى أربع بارونيات كبرى: هي صيدا ويافا وعسقلان والجليل، واثني عشر إقطاعاً تسلمها أصحابها من الملك الصليبي مقابل تقديم فروض الولاء والطاعة له وتتمثل في : أرسوف، حبرون، الداروم، قيسرية، نابلس، بيسان، حيفا، تبنين، بانياس، كيفا، اللد، وبيروت، وجدير بالذكر أن النجاح الذي حققته يرجع إلى عدة عوامل وأسباب ساهمت فيه منها:

- انعدام الوحدة السياسية في العالم الإسلامي.

- الصراع على السلطة داخل البيت السلجوقي.

- وجود الدولة الفاطمية الرافضية.

- سقوط الخلافة الأموية بالأندلس.

- دور النصارى الذين كانوا يعيشون في بلاد الشام.

- دور الباطنية الإسماعيلية الرافضية في عرقلة الجهاد ضد الصليبيين.

- انتشار الفكر الشيعي الرافضي والباطني.

- تدهور الحياة الاقتصادية قبل الغزو الصليبي.

- ضعف الدولة البيزنطية.

- تمرس فرسان الإفرنج المتواصلة للحملة الصليبية.

- الاستبدال السياسي وأثره على الدين والحياة.

- انشغال بعض فقهاء الأمة في معارك في فقه الفروع، وقد تحدثت عن كل سبب من هذه الأسباب بالتفصيل في كتابي "دولة السلاجقة والمشروع الإسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي".

أولاً: إستراتيجية الحملة الصليبية بعد الاحتلال:

يهمنا هنا أن نشير إلى أن القوى الفرنجية المحتلة والتي قُدر وخطط لها أن تعيش في بيئة غريبة كان لا بد لها من اتباع مجموعة من الاستراتيجيات القابلة للتطوير تهدف في مجملها إلى الإبقاء على صيغة احتلالها لأمد طويل ومن هذه الاستراتيجيات:

- المحافظة بقدر الإمكان وبمختلف الوسائل على أهم سبب من أسباب نجاحها ألا وهو العمل على إبقاء المحيط الإسلامي مشتتاً بقدر الإمكان، لأن ذلك يلغي إمكانية مواجهتها بقوة واحدة مقتدرة، وفي سبيل ذلك عملت بدءاً وباستمرار على احتلال مناطق ذات أهمية إستراتيجية تخدم غرض عزل مناطق القوى الإسلامية عن إمكانية التلاقي والتوحد، وكان سبيلها في ذلك احتلال الرُها لتمنع أو تعيق الاتصال بين العراق وبلاد الشام، كما هو الحال لاحقاً بالسيطرة على مناطق جنوبي بلاد الشام مثل الكرك والشوبك بهدف إعاقة أو تعطيل الاتصال ما بين مصر وبلاد الشام، هذا على صعيد الجغرافيا الطبيعية، أما على صعيد الجغرافيا البشرية ، فقد حرصت القوى الصليبية على إدامة الصراع العرقي والمذهبي بين أطراف المحيط الإسلامي، وقد اتبعت في ذلك وسائل ترغيب وترهيب، وسياسة تحالف مع قوى ضد أخرى، وقد ساعدها في ذلك إلى حدود معينة العداء ما بين طرفي الصراع الإسلامي الشيعة والسنة، كما ساعدها وجود أقلية مسيحية أمكن لها استغلال بعض قواها للتحالف معها، والتآمر على محيطها الإسلامي.

- ركزت القوى الصليبية في احتلالها على مناطق تؤمن لها الاتصال بمركز انطلاقها في الغرب الأوروبي، ولذلك ركزت على احتلال سواحل بلاد الشام ضماناً لذلك، وابتعدت قدر الإمكان عن السيطرة على المناطق الداخلية خشية فقدانها لهذه الميزة، وحتى لا تكون محصورة بين قوى إسلامية على افتراض الخوف من توحيد هذه القوى لاحقاً بما يلحق بها ضرراً يؤدي إلى زوالها.

- عملت القوى الصليبية على إيجاد تحالفات مع قوى يمكن أن تمدها بالمساعدة في مراحل مختلفة، إما لعداء هذه القوى للمحيط الإسلامي، أو رغبة في تحقيق امتيازات اقتصادية، وفي هذا الصدد يمكن ملاحظة تحالفها بدءاً مع بيزنطة ثم مع المدن الإيطالية أو بعضها، وأخيراً إمكانية التحالف مع القوى المغولية التي كانت فيما بعد أخطر قوة تهدد كيانات المنطقة الإسلامية.

- حرصت القوى الصليبية منذ بداية تأسيس كياناتها في الشرق الإسلامي على معالجة المشكلة السكانية التي عانت منها نقصاً مقابل الكثافة الإسلامية، وقد تعاملت القوى الصليبية مع هذه المشكلة على صُعد مختلفة وبوسائل متعددة كانت قابلة للتطوير بحسب مقتضيات الأحوال وتطوراتها، ومن ذلك أنها اتبعت سياسة التقتيل والتهجير للمسلمين في مناطق احتلالها، ثم عدلت ذلك في فترات لاحقة ضمن إطار إبقاء العناصر السكانية إذا كان ذلك يخدم مصالحها، كما عملت في نفس السياق على استقطاب مهاجرين إلى مناطق السيطرة الصليبية سواء أكان ذلك من الغرب الأوروبي أم من مناطق أرمينيا أم من نصارى المنطقة الإسلامية، كما أنها لجأت إلى عسكرة المجتمع الصليبي ليكون المجتمع بكافة فئاته وطبقاته قادراً على أداء الخدمة العسكرية لعلاج مشكلة النقص السكاني، ولا أدل على ذلك من أن الجماعات الدينية في المجتمع الصليبي كانت في مراحل من التواجد الصليبي أكثر الفئات تطرفاً في المجال العسكري مثل جماعات الداوية، والإسبتارية.

- ركزت القوى الصليبية على بناء تحصينات عسكرية بخبراتها الذاتية أو تقليداً للخبرات التي وجدتها في المنطقة الإسلامية، وروعي في هذه التحصينات أن تكون أشبه بمحطات إنذار مبكر تكون قادرة على رصد التحركات الإسلامية، ولذا روعي في اختيار مواقعها في أن تكون في مقابل التجمعات الإسلامية الهامة أو على مناطق مصالح إسلامية كتلك التي أقيمت على مقربة من الطرق التجارية.

- اعتمدت القوى الصليبية وبناء على تجارب حروبها مع الطرف الإسلامي أسلوب الحرب السريعة الخاطفة، هذه الحرب التي لا تحتاج إلى قوات كبيرة وبنفس القدر يخُطط لها أنت تختار أهدافاً ضمن معايير زمنية محسوبة، كاعتماد أسلوب الإغارة على المناطق الزراعية في مواسم نضج المحاصيل مما لا يكلفها قوى عسكرية كبيرة ولكنها بنفس الوقت تكون قادرة وفق هذا الأسلوب على إلحاق أذى كبيراً بالطرف الإسلامي.

- لجأت القوى الصليبية إلى سياسة عقد الهدن وتقديم بعض التنازلات لبعض الأطراف الإسلامية في سبيل التفرغ لقوى إسلامية أخرى، وكانت هذه الإستراتيجية ناجحة في فترة التفكك الإسلامي، بل وقادها ذلك إلى حد التدخل إلى جانب طرف ضد آخر إما بعرض صليبي على هذا أو باستدعاء وطلب من بعض الأطراف الإسلامية.

- عملت القوى الصليبية وبمختلف الوسائل على إبقاء روح الحروب الصليبية قوية في الغرب الأوروبي لضمان استمرار الحملات الصليبية واستمرار تقديم المساعدات للكيانات الصليبية في الشرق، فقد حرصت على التواصل الدائم مع أوروبا مما كفل لها الإمدادات البشرية والمادية، وقد شعر ملوك أوروبا بالمسؤولية الكبيرة تجاه الإمارات الصليبية في المشرق، والتزموا بدعمها والدفاع عنها.

- ركزت القوى الصليبية مع مرور الزمن على تبني إستراتيجية مفادها: أن ضمان وجودها في بلاد الشام يقتضي السيطرة على مصر أو إخراجها من ساحة الصراع بأي شكل من الأشكال، وعلى ذلك نجد أن الحملات الصليبية اللاحقة كان جزء منها موجهاً بدرجة رئيسية إلى مصر، والمتتبع لتاريخ الحركة الصليبية يجد أنهم حققوا بعض النجاحات في هذا الصدد مستغلين حالات عداء كانت تثور بين حكام مصر وبعض مناطق بلاد الشام.

- لجأت بعض الأطراف الصليبية إلى القيام بحملات عسكرية تهدف إلى ضرب المعنويات الإسلامية وتهديد المسلمين في مقدساتهم، كما حصل حين غامرت بعض هذه القوى بالتعدي على الأماكن المقدسة في الحجاز، كما لجأت إلى ضرب بعض المقومات الاقتصادية والدينية مثل تهديد طرق التجارة وقوافل الحج، وقامت بهذا الدور في مراحل معينة إمارة الكرك والشوبك الصليبية التي كانت تتبع لمملكة بيت المقدس الصليبية.

- لم تغفل الإمارات الصليبية والبابوية الداعمة لها وبعض رجال الدين والمفكرين أن يطوروا إستراتيجية جاءت نتيجة لفشل الإستراتيجيات العسكرية التي تدعو إلى محاولة السيطرة بطرق بعيدة عن الأسلوب العسكري، وإنما عن طريق التنصير والدعوة لزيادة عمليات التبشير بالدين المسيحي بين المسلمين، ونحن هنا لا نناقش إمكانية نجاح وفشل هذه الإستراتيجية بقدر ما يهمنا الإشارة إلى أن ذلك كان إحدى البدائل التي سعى الفرنجة لاستخدامها لتحقيق أغراضهم.

- صورت القوى الصليبية نفسها على أنها المدافعة عن المسيحية في بلاد الشرق بغض النظر عن اختلافاتهم المذهبية، حيث صٌورت الحركة الصليبية على أنها جاءت لنجدة بيزنطة ضد الخطر الإسلامي السلجوقي، كما صورت زحفها على أراضي المنطقة الإسلامية بأنه يهدف إلى تحرير المسيحيين الشرقيين من نيران السيطرة الإسلامية ، وضمنت من وراء ذلك مساعدات من الطوائف الأرمينية والسريانية.. في بدايات سيطرتها على المناطق الإسلامية، ولكن هذه الإسترايجية المرحلية بدأت تتلاشى مع مرور الزمن. إلى جانب التحالف مع الحركات الباطنية.

إن هذه الاستراتيجيات وإن كانت عامة تخص جميع الصليبيين، إلا أن ذلك لم يمنع من استخدام استراتيجيات مرحلية وخاصة بكل إمارة حسب ظروفها، مما يعني أن بعض هذه الإمارات ربما اتخذ وتبنى سياسة تخالف هذه المبادئ العامة، ومن استعراض هذه الإستراتيجيات يبدو لنا أن القوى الإسلامية يقاس نجاحها في مقاومة هذا الخطر الصليبي بمدى تبنيها إستراتيجيات وإتباعها وسائل تحد من خطر هذه الإستراتيجيات الصليبية، إما عن طريق تبني إستراتيجيات مضادة أو منع الطرف الصليبي من تطبيق إستراتيجياته على أرض الواقع، وهذا يمكن أن نلمحه من خلال تطورات ردود الفعل الإسلامية على التحدي الصليبي بدءاً من عهد عماد الدين ونور الدين زنكي وصولاً إلى مرحلة صلاح الدين الأيوبي واستكمالاً لما تم في عهد الدولة المملوكية، على أن لا يُفهم من ذلك أن هذا التطور في رد الفعل الإسلامي في العهد الزنكي والأيوبي والمملوكي كان دائماً في الإطار الإيجابي، بل ما حصل أحياناً هو أن الطرف الإسلامي أو بعض قواه أو أفراده ساعد في نجاح الإستراتيجيات الصليبية.

صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.

ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد