المؤلف/ علي محمد الصلابي
ثانياً: حركة المقاومة في العهد السلجوقي:
أيقظت صدمة سقوط القدس العديد من الفقهاء والقضاة والأمراء، وأدركوا حقيقة ذلك الغزو بعد أن هدد وجودهم ومكانتهم في مدن تلك البلاد، فضلاً عن الأرض والعقيدة الإسلامية، ولذلك بادر فقهاء وقضاة الشام من دمشق وحلب طرابلس بلاستنجاد بالسلطة المركزية ببغداد والإمارات المحلية باعتبارها تملك القوة العسكرية القادرة على مواجهة ذلك الغزو، ولم تكن الاستجابة من قبل الفقهاء والقضاة في بلاد الشام ضد الغزو الصليبي مقتصرة على الاستغاثة وطلب النجدة، بل تعدت إلى العديد من الوسائل الأخرى التي من بينها الكتابة والتأليف في الجهاد ضد الغزو، لتهيئة الأجواء الفكرية، وتثقيف المسلمين عامة، حيث نالت اهتماماً كبيراً من جملة الفقهاء، والعلماء، قبل وأثناء الغزو الصليبي، فقد كانت حاجة العصر للتعبئة الفكرية، ونشر الثقافة الإسلامية، أصبحت من الأمور الأساسية آنذاك في وقت كانت بلاد الشام تخوض صراعاً سياسياً، ومذهبياً وعسكرياً انعكس على تدوين التاريخ في الشرق الإسلامي، وظهور العديد من المصنفات والتراجم حول سير السلاطين والملوك والأسر الحاكمة، وأحداث القتال والصراع ضد الصليبيين، ولذلك اندفعت وكتبهم خلال مجموعتين: الأولى: ركزت على التأليف والوعظ بصورة تقليدية به، وتوضيح أمور وأركان الدين الحنيف للناس، والثانية : التي توجهت للتحريض والتأليف في الجهاد، وحث المسلمين عليه، لأنها أدركت الضعف العام في إيمان المسلمين عليه وتركهم لأمور دينهم، لذلك كتبت الكثير من المصنفات قبل وأثناء الغزو الصليبي في بلاد الشام، والذي يهمنا هنا مؤلفات الفقهاء التي حرضت على الجهاد الإسلامي وتعبئة المسلمين وتفقيههم بأمور دينهم للوقوف في وجه ذلك الغزو ومن أبرز أولئك الفقهاء:
- الفقيه علي بن طاهر السلمي "431 - 500ه / 1039 - 1106م":
هو علي بن طاهر بن جعفر القيسي السلمي الدمشقي الشافعي، كان من علماء بلاد الشام، وعلى إثر مجيء ذلك الغزو تحول إلى واعظ ومحرض على الجهاد، بإلقائه الخطب والدروس في المساجد التي تنقل فيها عبر مدن بلاد الشام وفلسطين، حيث جسد ذلك في كتابه "الجهاد"، الذي جاء عقب سقوط بيت المقدس عام "492ه/1098م". وذلك من خلال إحدى خطبة التي يحث فيها المسلمين على الجهاد ضد ذلك الغزو. وركز السلمي في أبوابه الأولى من كتابه " الجهاد" آنذاك. مبتدئاً بعرض سياسة صليبية عامة استهدفت الأندلس وصقلية وبلاد الشام. إذ أنه أول من نبه إلى وحدة أهداف الحروب الصليبية سواء في الأندلس، أو في صقلية أو في بلاد الشام، تلك الفكرة التي أخذها المؤرخون فيما بعد، وطوروها. فقد ذكر ابن الأثير: وكان ابتداء دولة الإفرنج واشتداد أمرهم وخروجهم إلى بلاد الإسلام، واستيلائهم على بعضها سنة ثمان وسبعين وأربعمائة فملكوا مدينة طليطلة، وغيرها من بلاد الأندلس. . ثم قعدوا سنة أربع وثمانين وأربعمائة جزيرة صقلية وملكوها. . فلما كانت سنة تسعين وأربعمائة خرجوا إلى بلاد الشام. وأدرك السلمي أن ضعف العالم الإسلامي، وتشر ذمه وتجزئته هو العامل الرئيس وراء نجاح الغزو الصليبي في المشرق أو المغرب الإسلاميين وليس قوة الصليبيين أنفسهم، وركز على التجزئة السياسية لبلاد الشام بصورة خاصة، لأنه عاش وأحس بالمعاناة هناك، وتثاقل السكان عن جهادهم، وذكر السلمي المسلمين بفكرة استمرارية الجهاد سواء في الحرب أو السلم كجزء من سياسة عامة يجب على الأمراء المسلم القيام بحملة بها كشرط أساسي للمواجهة الناجحة، ففي كل عام يجب على الأمير المسلم القيام بحملة خارج ديار الإسلام لا لطمع، أو لغنيمة يبتغيها، وإنما للمحافظة على دار الإسلام من عدوان غير المسلمين، وإشعارهم بالرهبة وقوة المسلمين بالاستمرار تجسيداً للرأي القائل في العصر الحاضر بضرورة نقل المعارك إلى ارض العدو دوماً، وذكر السلمي الأمراء المسلمين بأن ذلك الغزو لم يكن هدفه الأرض والعقيدة فقط وإنما هدفه هو إزالتهم من سلطانهم، وإخراجهم من البلاد التي تحت أيديهم، وذلك بهدف إثارة حميتهم، وحثهم على الجهاد، وطلب من عامة الناس مساندة أمرائهم وقادتهم المجاهدين الذين يتبعون السلف الصالح لمواجهة تلك المحنة، وطرد الصليبيين، والقارئ لكتاب السلمي في الجهاد يدرك مباشرة الصالح لمواجهة تلك المحنة، وطرد الصليبيين، الفقيه الذي يرى بيت المقدس تنتهك حرمته، وتداس قدسيته ولذلك أول ما حث عليه هو تخليص بيت المقدس من أيدي أولئك الغزاة. "فاجتهدوا رحمكم الله في هذا الجهاد لعلكم تكونوا الظافرين بمزية هذا الفتح العظيم"، ويعتبر السلمي أول من أدرك ضرورة والوحدة الجهادية بين بلاد الشام والعراق ومدن آسيا الصغرى قبل عصر الوحدة الإسلامية ضد الصليبيين بقيادة آل زنكي والأيوبيين ويعتبر في هذا المجال من الرواد، لعقد العزم والإصرار على مجاهدة ذلك الغزو، "وقدموا جهاد أنفسكم على جهاد أعدائكم فإن النفوس أعدى منهم، واردعوها عما هي عليه من عصيان خالقها سبحانه تظفرون بما تؤملونه من النصرة عليهم". إن الغزو الصليبي لبلاد الشام من وجهة نظر السلمي لم يأت من فراغ وإنما أدرك ضعف المسلمين لعدم تمسكهم بدين الله الحنيف، ولذلك اجتهد في نصحهم بالعودة إلى الله وتطهير النفوس، بالرجوع إلى كتاب الله، والإقلال عما تقدم منهم، والنهوض إلى قرع باب الجهاد: " وليكن قصدكم بجهادكم هذا إرضاء ربكم، والذب عن أنفسكم، وعن غيركم من إخوانكم ليمحص لكم ثواب غزوكم ، ولا يكون ذلك أمام تقدم الغزو الصليبي، وأخده لمدن عديدة إلا المبادرة إليهم،
والمرابطة على المدن التي لم تحصل في أيديهم، فإن النفير إليهم وقصدهم في البلاد التي قد تملكوها علينا إنما هو حرب يقصد بها الدفاع عن النفوس، والأولاد والأهل والأموال والحراسة لما بقي في أيدينا من البلاد"، وكانت دعوة السلمي للمسلمين عامة لوحدة القوى الإسلامية: شاميها وجزريها ومصريها. ونصحهم باتباع منهاجه في تطهير النفوس، والتعافي فيما بينهم والإقدام على الجهاد حتى ويحققوا مبتغاهم في النيل من ذلك الغزو، حيث رأى: إن لم يتناس الحكام المسلمون أحقادهم وخلافاتهم فإنهم مازالوا على جاهلية غير مقتدين بالمثل النابع من التراث" عند الشدائد تذهب الأحقاد"، واستمر السلمي في مواضع عديدة من كتاب الجهاد يحث ويحرض ويعظ وينبه، ويعلم الحكام عامة على ضرورة الجهاد بخطبه ودروسه التي ألقاها في الجامع الأموي بدمشق، وفي مدن بلاد الشام وفلسطين في اثنين وثلاثين باباً، ولم يترك شاردة ولا واردة في الجهاد إلا وتطرق إليها، ونلاحظ أن السلمي في كتابه" الجهاد" تطرق إلى توضيح التجزئة والتشرذم في المشرق الإسلامي، وخاصة في بلاد الشام من ضعف القوى الإسلامية، وتفككها مع ضعف الإيمان بفرض الجهاد، وهي نقطة استغلها الغزاة، ولكنه عالج ذلك الخلل بطرحه قضية تطهير النفوس والعودة إلى التمسك بدين الله الحنيف، وإصلاح الأمر فيما بينهم، والإقدام على الجهاد لمواجهة ذلك الغزو، وأنه لا يتم ذلك إلاَّ بوحدة القوى الإسلامية، لذا جاء كتابه الجهاد عاماً لم يخصصه لسلطة سياسية معينة أو لفئة من المسلمين من بلاد الشام مثلاً، وفق رؤية إسلامية مبنية على إسناد متين تمثل في القرآن الكريم، والسنة النبوية، وكتب السير والمغازي، والتفاسير وربط موضوعاتها بالخطر الصليبي على بلاد الشام، وهذا دليل على مدى إطلاعه وفكره الثاقب في جمع المعلومات وتسخيرها في مكانها المناسب، ونلاحظ من خلال البحث بأن الدعوة الأولى للجهاد لم تصدر عن مجالس الحكام بل صدرت من محافل الفقهاء والعلماء المسلمين من أساتذة وعلماء وفقهاء وكتاب، ويعتبر السلمي من أوائل من حث على الجهاد ومن ضمن تيار الرفض العام الإسلامي المدعوم من قبل الفقهاء والقضاة، لقد كتب السلمي كتابه في فترة مبكرة من تلك الحروب وهذا دليل على ذكائه وقطنته في إدراكه لمشاكل بلاد الشام المعقدة، ولكن إن لم تتوفر الظروف العامة لإنجاح دعوته للجهاد في تلك الفترة المبكرة ذاتها، فهو قد ساهم في كتابه للتمهيد لمرحلة الزنكيين والأيوبيين. ولقد قام الأستاذ رمضان حسين الشاوش بدارسة وتحقيق كتاب " الجهاد" للسلمي وقدمه كرسالة ما جستير بجامعة الفاتح بطرابلس الغرب عام "1992م".
- المشاركة الفعلية للفقهاء والقضاة في ساحات الجهاد:
إن من أبرز الأمثلة على مشاركة أولئك الفقهاء للعساكر النظامية في ساحات القتال للتعبير عن حالة الإيمان المثالية بالجهاد، والدفاع عن الأرض والنفس كانت حالة القاضي أبو محمد عبدالله بن منصور المعروف: بابن صليحة قاضي حصن جبلة، الذي تولى إمارة ذلك الحصن بعد وفاة أبيه منصور عام "494ه/1100م" وكان ذا خبرة عسكرية جيدة لأنه أحب الجندية واختار فظهرت شهامته، وقد برزت مواهب ذلك الأمير القاضي عند محاصرة الإفرنج حصن جبلة للاستيلاء عليه عام "494ه/1100" واستخدامه لما يسمى اليوم بالحرب النفسية أولاً، وذلك عندما خطط بدهاء لنشر الذعر بين صفوف قوات الفرنج، حيث أظهر أن السلطات بركياروق قد توجه إلى الشام لمساعدته، مما أثار الفرنج، ونشر الخدعة، عادوا فحاصروا المدينة مرة أخرى ، ولكن كرر ذلك القاضي تلك الحيلة بصورة أخرى، ونشر بين صفوف الصليبيين: أن المصريين قد توجهوا لحربهم ومساعدته هذه المرة ولذلك تركوا محاصرة ذلك الحصن، ويبدو أن الفرنجة لم يكن لديهم المعلومات الكافية عن حالة الحصن، ولا عن عدد قوات ذلك القاضي وإلا لما تركوا محاصرة ذلك الحصن في المرتين السابقتين، ولكن سرعان ما فطن الإفرنجة لتلك الحرب النفسية وأهدافها، فعادوا لمحاصرة الحصن للمرة الثالثة في شهر شعبان عام"494ه"، إلا أن ذلك القاضي أدرك أن الفرنجة قد عرفوا أساليبه القديمة ولذلك لجأ إلى أسلوب جديد لمواجهة أولئك الفرنجة ثلاثمائة رجل من أعيانهم وشجعانهم، فوافق الفرنجة على ذلك، ويبدو أن القاضي أبن صليحة قد نصب الكمين لهم: فلم يزالوا يرقون في الحبال واحداً، بعد واحد وكلما صار عند ابن صليحة وهو على السور رجل منهم قتله إلى أن قتلهم أجمعين، فلما أصبحوا رمى الرؤوس إليهم، ورغم ذلك لم يسترح الصليبيون للطعم والفخ الذي نصبه لهم قاضي جبلة، وتحقيق ذلك النجاح، ولذا قرروا أخذها منه بأية وسيلة، ونصبوا على البلد برج خشب، وهدموا أبراجاً من أبراجه. ولكن ما يملكه ذلك القاضي من الدهاء والحيلة جعله يفطن لذلك الخطر المحدق به، حيث لم يركن للهدوء والاستسلام، وإنما بادر إلى وضع خطة ذكية على غرار تلك الخطط الناجحة التي كبدت ذلك الغزو الخسائر والفشل أكثر من مرة. . ولذلك عمل هذه المرة على استدراج الصليبيين في كمين آخر وضعه لهم بخطة محكمة حيث أحدث ثقوباً في أسوار المدينة.
ويبدو أنه كان السور الخلفي، وذلك لتسهيل مهمة خروج مجموعة من جيشه وثقب في السور ثقباً، وعندما خرج القاضي ابن صليحة وجيشه من الأبواب لقتالهم تظاهر بالمزيمة أمامهم. بحيث انطوت الحيلة على أولئك الغزاة الذين لم يفطنوا لها، وبادروا إلى مطاردته حتى أبواب المدينة في الوقت الذي استغل فيه جنده الفرصة في الخروج من تلك الثقوب، والتفوا من حوله، فأتوا الفرنج من ظهورهم فولوا منهزمين.
إن القاضي ابن صليحة لابد له وأن اطلع على فنون الحرب، وبعض الأساليب العسكرية الإسلامية، فأسلوب الحرب النفسية ليست جديدة على التراث العسكري الإسلامي في الفترة الصليبية، إذ استخدم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ذلك الأسلوب في غزوة الخندق من العام الخامس للهجرة عندما حفر الخندق وهزم جيوش الأحزاب، وكذلك معركة مؤتة في السنة الثامنة للهجرة عندما حول القائد خالد بن الوليد المعركة من الهزيمة إلى النصر على الروم وذلك باستخدامه الحرب النفسية عن طريق تكثيف الغبار بفرسانه حتى ظن أولئك الروم بوصول الإمدادات إلى المسلمين قولوا منهزمين، وانسحب الجيش الإسلامي من أرض المعركة دون أية خسائر أخرى، وقد طبق تلك الحرب النفسية في العديد من المعارك الأخرى، والتي من بينها معركة اليرموك عام "13ه" عندما عمل على تقسيم قواته، بحيث جعل الميمنة ميسرة والخلف إلى الأمام، وبهذا الأسلوب العسكري التكتيكي أرهب جيوش الروم الكبيرة العدد وأوقع بهم الهزائم.
صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.