المؤلف/ علي محمد الصلابي
- تحريض الفقهاء والقضاة على القتل في ساحات المعارك:
تبرز شخصية القاضي أبو الفضل بن الخشاب قاضي حلب المعروف في هذا المجال، فعندما اشتد الحصار الصليبي على حلب عام "513ه/1119م" أقبل القاضي ابن الخشاب يحرض الناس على القتل وهو راكب على حجر وبيده رمح حيث ألقى فيهم خطبة بليغة، استنهض بها هممهم وألهب مشاعرهم، فأبكى الناس وعظم في أعينهم، حتى أقدموا على قتال الغزاة، ورغم تمكن الحلبيين من تخليص مدينتهم في ذلك العام لم يتردد الصليبيون من محاولة أخرى لأخذ حلب عام "418ه/1124م" وذلك عندما قاموا بتخريب كل القوى المجاورة لحلب، حتى لا يقدموا المساعدة لمدينة حلب، ونزل الفرنج حران ثم حلب من ناحية مشهد الجف من الشمال، وكان للقاضي ابن الخشاب دور في التحريض على قتال ذلك الغزو، بل كان له دور في تحريض الأمير آقسنقر البرسقي أمير الموصل وسيأتي بيان ذلك بإذن الله عند الحديث عن دور أمراء السلاجقة في الموصل ودمشق وغيرها في صد هجمات الصليبيين.
ثالثاً: الشعراء ودورهم في حركة المقاومة:
قام بعض الشعراء بدور كبير في تحريض المسلمين ووصف أحوال الأمة وطبيعة الغزو الصليبي الذي احتل البلاد وهتك الأعراض، ومن أشهر هؤلاء ما قاله القاضي الهروي وقيل لأبي المظفر الأبيوردي القصيدة التي أولها:
مزجنا دماءً بالدموع السواجم
فلم يبق منا عرضة للمراجم
وشر سلاح المرء دمع يفيضه
إذا الحرب شّبَّت نارها بالصوارم
أنه، في هذا المطلع، يصرّح ببكاء الناس بكاءً أنزل الدم من العيون لشدته واستمراره، وأنهم بكوا حتى لم يبق فيهم مجال للذم، ولكنه لا يلبث أن يفطن إلى أن البكاء على شدته، لن يغني في شيء في معركة لا يسعّر نيرانها إلا السيوف القواطع ومنها:
فإِيهاّ بني الإسلام إن وراءكم
وقائع يلحقن الذُرا بالمناسم
أتهويمةّ في ظَّل أمن وغبطةِ
وعيشِ كنوّار الخميلة ناعم
وكيف تنام العين ملء جفونها
على هفوات أيقظت كل نائم
وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم
ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
تسومهم الروم الهوان، وأنتم
تجرون ذيل الخفض، فعل المسالم
وهنا يستصرخ الشاعر المتخلفين عن القتال مع إخوانهم المسلمين في بلاد الشام، فيبدأ هذه المقطوعة بتوجيه نداء حار للمسلمين: إيها بني الإسلام أن اصحوا من نومكم فما دهمكم من الغزو يجعل أعزتكم أذلة، ثم يعجب لهم ولنومهم، إذ كيف ينامون ملء عيونهم ويعيشون عيشاً ناعماً آمناً وغير بعيد منهم تجري فظائع الأمور التي تقع على رؤوس إخوانهم من أهل الشام، فلا يجدون وقتاً قصيراً ينامون فيه في بيوتهم، فجل أوقاتهم على صهوات خيولهم يحاربون أو تكتب لهم الشهادة فتتخطفهم نسور الجو ولا من يدفن جثثهم، وربما يقعون تحت إذلال أعدائهم من الفرنجة، أما أنتم فيبدو عليكم التقلب في ثياب النعمة كما أنكم مسلمون أو متحالفون مع الأعداء، ومنها:
وكم من دماء قد أبيحت ومن دمي
تواري حياءً حسنها بالمعاصم
بحيث السيوف البيض محمرة الظبا
وسمر العوالي داميات اللهاذم
وبين اختلاس الطعن والضرب وقفة
تظل لها الولدان شيب القوادم
وتلك حروب من يغب عن غمارها
ليسلم يقرع بعدها سن نادم
سللن بأيدي المشركين قواضباً
ستغمد منهم في الطلا والجماجم
يكاد لهن المستجن بطيبة
ينادي، بأعلى الصوت، يا آل هاشم
وفي هذه الأبيات يصور شراسة المعارك التي وقعت بين المسلمين وأعدائهم من الفرنجة، فقد أبيحت فيها دماء كثير من المسلمين ولقد اقتحم فيها على النساء خدورهن وما وجدن ما يدفعن به عن أجسامهن المصونة غير معاصمهن المشتبكة حياء وخوفاً، وقد اشتدت هذه الحروب واستمر فيها القتل حتى بدت أسنة السيوف والرماح حمراء لاهبة، وحتى أن الصبيان ربما يظهر في شعرهم الشيب لما فيها من هول الطعن والضرب، ثم يعود ليتحدث عن أخطارها فيهون من شأن الأعداء وأسلحتهم فيما استلوه من سيوف قاطعة تعود إلى نحورهم وجماجمهم، وفي آخر الآبيات يؤكد فظاعة هذه الحروب بأن الرسول صلى الله عليه وسلم في ضريحه الطاهر في المدينة المنورة يستنجد على الأعداء بالعرب والمسلمين وليس بآل هاشم فحسب.
أرى أمتي لا يشرعون إلى العدا
رماحهم، والدين واهي الدعائم
ويجتنبون النار خوفاً من الردى
ولا يحسبون العار ضربة لازم
أترضى صناديد الأعاريب بالأذى
ويغفي على ذل كماة الأعاجم
فليتهم إذ لم يذودوا حمية
عن الدين، ضنوا غيره بالمحارم
وإن زهدوا في الأجر، إذ حمي الوغى
فهلا أتوه رغبة في الغنائم
ويرى الشاعر قعود بعض بني قومه عن الجهاد فيتألم لذلك ألماً يصور معه واقعهم المتخاذل عن نصرة دينهم الذي يحاول الأعداء إضعافه، جبناً وخوفاً وغفلة عما يلحق بهم من العار في حالة الهزيمة، ويعجب لشجعان المسلمين، من عرب ومن عجم، كيف يقبلون بهذا كله، ثم يقلب لهم أسباب الدفاع عن الدين وعن البيضة تقليباً منطقياً، فيه الألم الذي يعصر قلبه، والتبكيت الذي يهز أحاسيسهم من الأعماق، فيطالبهم بالدفاع عن الدين أولاً فإن لم ينهضوا له فليحموا محارمهم من النساء والبلدان والعقار، وهذا أضعف الإيمان، أن يهتموا بالدنيا وعرضها من غنائم وأسلاب إن فقدوا الثأر للدين والخروج للجهاد ونيل الشهادة، وفي نهاية القصيدة يبلغ به الألم مبلغاً أشد فعلاً وتأثيراً، فيكشف لهم عن مستقبل أيامهم وما يلاقون فيه من إذلال وصغار في أيام أبنائهم الوارثين للخنوع إن قبلوا باحتلال الأعداء لبلادهم، ثم يهددهم بعار تسليم النساء للأعداء إن هم ظلوا على ما هم عليه من الخنوع والحين والقعود عن الجهاد، ولم يزل الشاعر يستصرخهم والحرب مستعرة، ليغيروا على المعتدين غارة شعواء تلقن الفرنجة درساً قاسياً، كما تعودوا في كل مرة يهاجمون فيها بلاد الإسلام:
لئن أذعنت تلك الخياشيم للبرى
فلا عطست إلا بأجدع راغم
دعوناكم والحرب تدعو ملحة
إلينا بألحاظ النسور القشاعم
تراقب فينا غارة عربية
تطيل عليها الروم عض الأباهم
فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه
رمينا إلى أعدائنا بالجرائم
وقال شاعر آخر في الغزو الصليبي لبيت المقدس:
أحل الكفر بالإسلام ضيماً
يطول عليه للدين النحيب
فحق ضائع وحمى مباح
وسيف قاطع ودم صبيب
وكم من مسلم أمسى سليباً
ومسلمة لها حرم سليب
وكم من مسجد جعلوه ديراً
على محرابه نصب الصليب
دم الخنزير فيه لهم خلوق
وتحريف المصاحف فيه طيب
أمور لو تأملهن طفل
لطفل في عوارضه المشيب
أتسبى المسلممات بكل ثغر؟
وعيش المسلمين إذن يطيب
أما لله والإسلام حق؟
يدافع عنه شبان وشيب
فقل لذوي البصائر حيث كانوا
أجيبوا الله، ويحكم، أجيبوا
- الشاعر ابن الخياط: أبو عبدالله أحمد بن محمد ابن الخياط: فقد حاول هذا الشاعر تحريك همة عصب الدولة زعيم الجيوش في دمشق فقال قصيدة طويلة يحثه على إعداد العدة للجهاد مطلعها قوله:
فدتك الصواهل قباً وجرداً
وشم القبائل شيباً ومرداً
وذلت لاسيافك البيض قضباً
ودانت لأرماحك السمر ملدا
إلى أن يقول:
وإني لمهد إليك القريض
يطوي على النصح والنصح يهدى
إلى كم وقد زخر المشركون
بسيل يهال له السيل سدا
وقد جاش من أرض إفرنجة
جيوش كمثل جبال تردا
أنوما على مثل هد الصفاة
وهزلاً وقد أصبح الأمر جدا
وكيف تنامون عن أعين
وترتم فأسهرتموهن حقدا
بنو الشرك لا ينكرون الفساد
ولا يعرفون مع الجور قصدا
ولا يردعون عن القتل نفساً
ولا يتركون من الفتك جهدا
فكم من فتاة بهم أصبحت
تدق من الخوف نحراً وخدا
وأم عواتق ما إن عرفن
حراً ولا ذقن في الليل بردا
تكاد عليهن من خيفة
تذوب وتتلف حزناً ووجدا
وبعد أن وصف الشاعر حال المشركين وقسوتهم، وحال المسلمين معهم بدأ يحرض عصب الدولة على الجهاد فقال:
فحاموا عن دينكم والحريم
محاماة من لا يرى الموت فقدا
وسدوا الثغور بطعن النحور
فمن حق ثغر بكم أن يسدا
فقد أينعت أرؤس المشركين
فلا تغفلوها قطافاً وحصدا
فلا بد من حدهم أن يفل
ولا بد من ركنهم أن يهدا
وكانت لجهود العلماء والفقهاء والقضاة والأدباء والشعراء أثر في تقوية حركة المقاومة المسلحة والتي قادها أمراء السلاجقة، والتي سيأتي الحديث عنها بإذن الله في الصفحات القادمة.
رابعاً:قادة الجهاد من السلاجقة قبل عماد الدين زنكي:
من الحقائق المُسَلّم بها في تاريخ الحركة الصليبية، أن حركة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين انبعثت لأول مرة في بلاد المشرق الإسلامي من منطقة الجزيرة، وهي تقع بين دجلة والفرات مجاورة لبلاد الشام وتشتمل على ديار مضر وديار بكر، وسميت: الجزيرة، لوقوعها بين نهري دجلة والفرات، وتمتاز منطقة الجزيرة بأنها صحية الهواء جيدة الربع والنماء، واسعة الخيرات ، بها مدن جليلة وحصون منيعة وقلاع كثيرة، ومن الأسباب التي جعلت حركة المقاومة تبعث من منطقة الجزيرة هي:
- أن منطقة الجزيرة أول أقطار المسلمين في المشرق الإسلامي اكتوت بنار الخطر الصليبي عندما استولى الصليبيون على الرها وتأسست بها أولى الإمارات الصليبية سنة "490ه/ 1097"، فأدرك السكان خطر توغل الصليبيين في بلادهم، مما بعث المسلمين على التفكير الجدي في المبادرة إلى مهاجمة الصليبيين.
- إن منطقة الجزيرة قد ظهرت شخصيتها منذ عصر صدر الإسلام بسبب مجاورتها لأطراف الدولة البيزنطية، مما نشأ عنه خطر شديد على المسلمين أيام الأمويين والعباسيين فأصبحت خط الدفاع الأول عن ثغور المسلمين ضد الروم، وبعد الغزو الصليبي أصبحت منطقة الجزيرة تواجه إمارة الرها الصليبية التي شكلت أكبر خطر على الخلافة العباسية في بغداد.
- شهدت منطقة الجزيرة خلال النصف الثاني من القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي دخول الأتراك السلاجقة إليها مع ما اشتهروا به من حبهم لتربية الخيول والمغامرة مع حماسهم للإسلام بسبب قرب عهدهم به، وانتمائهم للمذهب السني، وأمد السلاجقة التركمان منطقة الجزيرة بدماء جديدة شديدة التحمس إلى الجهاد في سبيل الله، بعكس القوى الإسلامية الأخرى في بلاد الشرق الإسلامي التي خبت جذوة الحماس الديني في نفوسها وخمدت روح القتال لديها. <
صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.