المؤلف/ علي محمد الصلابي
د: نتائج معركة البليخ أو حرّان:
كانت لمعركة البليخ نتائج بالغة الأهمية على الصعيدين الإسلامي والصليبي، لعل أهمها:
- أوقفت تقدم الصليبيين وتوسعهم باتجاه الشرق على حساب المسلمين، وقضت على آمالهم في التقدم نحو العراق وإتمام سيطرتهم على إقليم الجزيرة.
- تلاشت أحلام بوهيمند في السيطرة على حلب، وتحويل إمارة أنطاكية إلى دول كبيرة، وقضت على آمال الصليبيين بقطع الاتصال بين القوى الإسلامية في الشام والجزيرة وآسيا الصغرى عن طريق الاستيلاء على حلب.
- قرَّرت مصير إقيلم الرها. ذلك أن هذه الإمارة تعرضت لكثير من المتاعب الداخلية التي أضعفتها وبخاصة من جانب الأرمن الذين سرعان ما أبدوا تذمراّ من الحكم اللاتيني بفعل تعسف هؤلاء مع الكنيسة الأرمينية، واضطهاد رجالها مما دفع الأرمن إلى الاتصال بالأتراك وأضحى احتمال سقوطها في أيدي المسلمين وشيكاً.
- أتاحت للمسلمين فرصة استعادة الأملاك التي خسروها في السابق، وضُمَّت إلى إمارة أنطاكية.
- أضحى تانكرد، يعد أسر بلدوين، وصياً على إمارة الرها، كما أصبح بوهيمند أقوى الأمراء الصليبيين في الشمال.
- أدت ظروف الانتصار إلى زيادة التقارب بين القوى الإسلامية والبيزنطيين ضد عدوهم المشترك، وأوضح ابن القلانسي خطورة النتائج بقوله: وكان نصراً حسناً للمسلمين، لم يتهيأ مثله، وبه ضعفت نفوس الإفرنج، وقلَّت عدتهم، وفلت شوكتهم وشكتهم، وقويت نفوس المسلمين، وأرهقت عزائمهم في نصر الدين، ومجاهدة الملحدين، وتباشر الناس بالنصر عليهم، وأيقنوا بالنكاية فيهم والإدالة منهم.
- حطمت أسطورة أن الصليبيين لا يقهرون.
- استغل الإمبراطور البيزنطي الكسيوس فرصة ضعف مركز بوهيمند إثر تعرّضه للانتقاد بسبب عدم افتدائه لرفيقه بلدوين، فضلاً عن التزامه بالمعاهدات التي كان عقدها مع الإمبراطور الذي راح يشجع الانتفاضات التي قام بها سكان قليقلية ضد حكامهم النورمان، كما أوعز إلى قواته بالاستيلاء على عدد من المدن والمواقع التي كان تانكرد قد استولى عليها من قبل، واشترك الأسطول البيزنطي في السيطرة على بعض المدن الساحلية بين اللاذقية وطرطوس، يضاف إلى ذلك أن البيزنطيين تمكنوا من استغلال قواعدهم البحرية في قبرص لتقديم المساعدات لريموند الضجيلي - عدو بوهيمند اللدود - الذي كان يسعى لتأسيس إمارة حول طرابلس تحاذي أنطاكية من الجنوب في الوقت الذي لم يتقدم فيه أحد من القدس لنصرة بوهيمند ومساعدته في هذه المحنة.
وهكذا قدر لجكرمش، بتحالفه مع سقمان، أن يلعب دوراً خطيراً في تاريخ الحروب الصليبية، وأن يقدم وحليفه للعالم الإسلامي، أول نصر حاسم على الصليبيين، فتح به الطريق لظهور قيادات وأحلاف إسلامية وجهت الضربات المتتالية للقوى الصليبية، تلك القيادات التي بدأت بمودود حاكم الموصل السلجوقي، وانتهت بصلاح الدين، عبر إيلغازي وبلك الأرتقيين، وآق سنقر البرسقي، ثم عماد الدين ونور الدين الزنكيين.
ه- مواصل جكرمش للجهاد: ورغم بعض البوادر السلبية التي أعقبت انتصار المسلمين في البليخ فإن جكرمش ظل يطمح لتحقيق انتصارات أخرى في هذا الميدان، وبعد أقل من سنتين أتيح له ذلك عندما تلقى في أواخر عام "499ه/ 1106م" أمراً من السلطان محمد بالقيام بحملة جديدة لمهاجمة الصليبيين، فاتصل بأمراء المنطقة وتمكن من تشكيل حلف يضم رضوان أمير حلب وإيلغازي الأرتقي أمي ماردين، وألبي تمر تاش صاحب سنجار والأصبهذ صاوا أحد كبار أمراء فارس، إلا أن ما طرحة إيلغازي على الأمراء المذكورين أعاق تنفيذ الخطة المقترحة، إذ طلب منهم أن يبدؤوا حملتهم ضد جكرمش بقصد الاستيلاء على الموصل لكسب رضا السلطات محمد الذي كان يحقد على حاكم الموصل بعض تصرفاته، فضلاً عن إمكانية الاستفادة المباشرة من ميزان الموصل وإمكانياتها المالية والعسكرية ضد الصليبيين، فوافقه زملاؤه على ذلك ومضوا سوية لمهاجمة نصيبين التابعة لحاكم الموصل.
إلا أن نواب جكرمش هناك نجحوا - بتوجيه من سيدهم في الموصل - في إثارة النزاع والكراهية بين رضوان وإيلغازي، فاغتنم رضوان فرصة إقامة وليمة أمام أسوار نصيبين وقام باختطاف إيلغازي وتكبيله واعتقاله، إلا أن أتباعه من التركمان تمكنوا من تخليصه، وقاموا بهجوم مباغت على معسكر رضوان أرغمه على الانسحاب والعودة إلى حلب، وبدا تمزق هذا التحالف قبل أن يخطو واحدة صوب هدفه الأساسي في قتال الصليبيين، إلا أن ذلك كله لم يئن جكرمش عن عزمه على مهاجمة أعدائه الحقيقيين، إذ أنه ما إن تمكن من إحباط مساعي الأمراء المتحالفين ضده حتى بادر بشن الهجوم على الرها، إلا أنه ما لبث أن عاد إلى الموصل ليواجه متاعب جديدة تجاه السلاجقة بعد أن نجح في التغلب على هجوم قامت به عساكر ريتشادر "سالرنو" الذي كان يحكم الرها آنذاك نيابة عن بلدوين المأسور.
ولم يمض وقت قصير على ذلك حتى تحرك قلج أرسلان بن سليمان، سلطان سلاجقة الروم، لمهاجمة الرها، فانتهز نواب جكرمش في حران الفرصة وأرسلوا إليه يستدعونه ليسلموا إليه البلد، فتقدم قلج أرسلان إلى هناك ودخل حران، وفرح به الناس لأجل جهاد الفرنج، وأقام هناك أياماً اضطر بعدها للعودة إلى بلده بسبب مرض شديد ألمّ به تاركاً في حران جماعة من أصحابه لحمايتها، ويبدو أن شخصية قلج أرسلان بدأت تطغى، بما تمتع به من قوة واستقلال ونفوذ، على شخصيات رفاقه من الأمراء المسلمين في المنطقة بسبب خلافاتهم المستمرة، وتطاحنهم الدائم من أجل تحقيق مكاسب إقليمية محدودة، فضلاً عن أن المشاكل التي جابهت جكرمش في الموصل، وتدهور علاقته مع السلاجقة صرف اهتمامه كلية عن ساحه الجهاد ضد الصليبيين، الأمر الذي أدى إلى أن يستقطب قلج أرسلان اهتمام نواب جكرمش في حران فاستدعوه وسلموه البلد، مما يفسر لنا - كذلك - ما حدث بعد قليل من استدعاء قلج أرسلان من قِبل أهالي الموصل كي يتولى حكمهم، إثر مقتل حاكمهم السابق جكرمش.
3- جهاد جكرمش صاحب الموصل وسقمان بن أرتق صاحب ماردين وديار بكر:
لم يكد الغرب الأوروبي يعلم بنبإ النجاح الذي حقَّقته الجموع الصليبية في بلاد الشام وفلسطين حتى تحمَّس كثير من الأمراء الذين لم يشاركوا من قبل في الذهاب إلى الشرق، تدفعهم مطامع شخصية دنيوية وهي الحصول على الغنائم والضياع فضلاً عن مطامع دينية وهي الحصول على الثواب والغفران، ويُذكر بأن الصليبيين في الشرق كانوا بحاجة ماسَّه إلى
- مواصلة الحرب ضد المسلمين.
- استئناف عملية التوسع.
- حراسة ما حققوه من مكاسب.
- المحافظة على هذه الحقوق ضد أي محاولة استرداد من جانب المسلمين.
استجاب المجتمع الغربي لهذه الظاهرة، وانبعث منه صحوة صليبية جديدة أسفرت عن تدفق جموع صليبية أخرى إلى الشرق، وشكل اللمبارديون أولى تلك الجموع، فغادروا إيطاليا في عام "494ه/1101م" بقيادة أنسلم بوي رئيس أساقفة ميلان، وصحبه عدد من الأمراء من بينهم ألبرت كونت بياندرات، وجيوبرت كونت بارما، وهيوكونت مونتيبلوا، ويبدو أن هذه المجموعة اللمباردية على الرغم من وفرة عدد المشتركين فيها، لم تكن تختلف كثيراً من حيث النوعية عن جموع العامة السابقة، بدليل أنها لم تضم سوى عدد قليل من الفرسان المحاربين، وتألفت غالبيتها العظمى من العامة الذين لا يحسنون القتال، ويفتقرون إلى النظام، ولما وصلوا إلى ضواحي القسطنطينية ارتكبوا أعمال السلب والنهب مما حمل الإمبراطور البيزنطي على الإسراع بنقلهم إلى آسيا الصغرى، وذلك في جمادي الأولى/آذار"، واستقروا في نيقوميدية بانتظار وصول جموع أخرى، وفعلاً لم تلبث أن وصلت مجموعة أخرى من الفرنسيين بقيادة ستيفن بلوا، وانضم إليه عدد من الأمراء أمثال ستيفن كونت برجنديا وهيوكونت بروي، وبلدوين كونت جراندبريه، وهيو بييرفون أسقف سواسون، بالإضافة إلى سرية ألمانية بقيادة كونراد وعبرت هذه المجموعة البوسفور، وعسكر أفرادها عند نيقية على مقربة من المعسكر اللمباردي، وبلغ عدد أفراد المجموعتين بين مائتين وثلاثمائة ألف مقاتل، وعين الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين صديقه ريموند كونت تولوز، قائداً عاماً عليهم، وألحق بهم جماعة من الجنود البيزنطيين بقيادة تسيتاس.
أ- معركة مرسيفان: تحرك الجيش الصليبي الضخم من نيقوميدية إلى دوريليوم بهدف الوصول إلى الأراضي المقدسة، على أن يعيد أثناء زحفه فتح الطريق الذي يجتاز آسيا الصغرى، لذلك أوصى الإمبراطور ستيفن بلوا بأن يسلك الجيش الطريق الذي سلكته الجموع الصليبية السابقة الذي يجتاز دوريليوم وقونية، غير أن اللمباردين رفضوا التوجه إلى الأراضي المقدسة إلا بعد فك أسر بوهيمند الذي اتخذوه مثلاً يحتذى به وبطلاً لهم، والمحارب الوحيد الذي يثقون به ليقودهم إلى النصر، وأصروا بأن تتوجه الحملة إلى كمبادوكية، ويذكر ابن الأثير أن هدف تلك الجموع الصليبية كانت تخليص بوهيمند من الأسر، وعلى الرغم من احتجاج بعض القادة الأمراء فقد توجه أفراد الحملة إلى الأراضي الداشمندية عبر أنقرة التابعة لقلج أرسلان، فاستدلوا عليها وتابعوا طريقهم إلى كنغري الواقعة في جنوب بافلاجونيا كي يسلكوا الطريق الرئيسي المؤدي إلى أماسية ونيكسار، وحتى يعرقل التقدم الصليبي، عمد قلج أرسلان إلى الانسحاب التدريجي ممن أمام القوة الصليبية، واتبع أسلوب البدو بتخريب البلاد أثناء انسحابه وحرق كل ما يمكن أن يستفيد الصليبيون منه وبخاصة مواد التموين، وفي الوقت نفسه أخذت القوى التركية تتجمع في تحالف جديد لمواجهة الخطر الصليبي، فبادر كمشتكين أحمد الدانشمند بتجديد تحالفه مع قلج أرسلان، كما حث رضوان صاحب حلب على أن يرسل عدداً من الجنود.
وصل الصليبيون إلى كنغري فألفوا الأتراك فيها بكامل قوتهم، واستعصت عليهم المدينة لمناعتها، فاضطروا إلى متابعة سيرهم بعد أن نهبوا القرى المجاورة، لكن التعب بدأ يظهر عليهم بسبب النقص في المؤن، وشدة الحرارة، ومضايقة الأتراك، واقترح ريموند حتى يجنب الجيش الدمار المحقق أن يتوجه صوب الشمال الشرقي إلى قسطموني، ومنها إلى إحدى المدن البيزنطية على ساحل البحر الأسود. على أن الرحلة إلى قسطموني كانت بطيئة وشاقة بسبب نفاذ المؤن وتدمير الأتراك للمحاصيل الزراعية، وردمهم للآبار، وتعرَّض الصليبيون لهجوم تركي مفاجئ فتفرّقوا لا يلوون على شيء قبل أن يعيد ريموند لم شعثهم، ولما وصلوا إلى أطراف قسطموني، كان على ريموند أن يشق طريقاً بين الجموع التركية إلى الساحل، على أن اللمباردين أصرُّوا مجدداً على التوجه إلى الشرق، ونزل في الأطراف على رأيهم مرغمين واجتاز الجيش الصليبي نهر هاليس إلى بلاد الدانشمنديين ووصل أفراده إلى مدينة مرسيفان الواقعة في منتصف الطريق بين النهر وأماسية.
وعندما أدرك الأتراك أن القوة الصليبية أضحت منهكة تقدموا نحوها واصطدموا بها، ولم يمض وقت طويل حتى تضعضع الصليبيون وفروا من أرض المعركة تحت ضغط القتال مخلفين وراءهم نساءهم ورهبانهم، ولجأ ريموند إلى تل صغير احتمى به إلى أن أنجده الفرنسيون والألمان، ثم هرب خلال الليل بعدما يئس من إحراز أي نصر، وترك وراءه المعسكر الصليبي ومن كان به من غير المحاربين ليقع غنيمة في أيدي الأتراك.
تلت المعركة عملية مطاردة لم ينج منها إلا الفرسان، وبلغت خسائر الصليبيين أربعة أخماس الجيش، واستولى الأتراك على كميات كبيرة من الأسلحة، وغنموا كثيراً من الأسرى بيعوا رقيقاً.
ولم يلبث ريموند أن وصل إلى بافرا، المينا البيزنطي الصغير على البحر الأسود قرب سينوب، وأقلَّته من هناك سفينة بيزنطية إلى القسطنطينية، ويشير المؤرخ اللاتين ألبرت أوف أكس، أن ريموند تلقى رشوة من الأتراك كي يقود الجيش إلى قسطموني، وهذا مستبعد، لأن من يتتبع سير الحملة وما رافقها من أحداث يلمس مدى ما بذله ريموند من جهد في إقناع اللمباردين بعدم التوجه إلى بلاد الدانشمنديين أولاً، ثم محاولته إخراج الجيش من المأزق الذي أوقع نفسه فيه ثانياً، وما اختياره للطريق إلى قسطموني إلا نتيجة لما تعرَّض له الجيش من متاعب، وأما فراره من أرض المعركة، فناتج عن إدراكه بعدم جدوى متابعة القتال بعد أن ولَّى اللمبارديون الأدبار وتبعهم البجناك المرتزقة.
صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.