;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس ..الحلقة الثانية عشرة 1054

2008-09-06 04:22:44

المؤلف/ علي محمد الصلابي

ب- معركة هرقلة الأولى:

محت الكارثة التي حصلت بالصليبيين في مرسيقان الشهرة التي اكتسبها هؤلاء نتيجة انتصارهم في دوريليوم، وزاد من أثرها أنها لم تكن الكارثة الأخيرة.

إذ في الوقت الذي غادر فيه اللمبارديون مدينة نيقوميدية، وصل إلى القسطنطينية جيش فرنسي بقيادة وليم كونت نيفر على رأس خمسة عشر ألف من الفرسان والمشاة، وحرص وليم على اللحاق بالمبارديين على وجه السرعة، فغادر القسطنطينية إلى نيقوميدية، وعلم فيها أن الجموع الصليبية مضت في طريقها إلى أنقرة فسار إلى هذه المدينة ووصل إليها بسهولة.

لكن لم يكن أحد يعلم بالجهة التي سارت إليها هذه الجموع، لذلك لم يسع الكونت إلا أن توجه نحو قونية، ولما وصل إليها ضرب الحصار عليها، وتولت حامية تركية سلجوقية الدفاع عنها، وما قام به من محاولات للاستيلاء عليها باءت بالفشل فتركها.

كان السلاجقة وحلفاؤهم قد فرغوا، في غضون ذلك، من إبادة الجموع اللمباردية، وعلم قلج أسلان وكمشتكين أحمد دانشمند بقدوم العدو الجديد، وإذ لا زالت تغمرهما حرارة الانتصار ، سارا نحو الجنوب، وسبقا وليم إلى هرقلة، وسارت عساكر نيفر ببطء من قونية متوجهين نحو الشرق، ولما وصلوا إلى مكان قريب من هوقلة، وكان التعب قد استبدَّ بهم، هاجمهم الأتراك، فانهارت مقاومتهم بعد معركة لم تستمر طويلاً، ولقي الجيش الفرنسي بأسره مصرعه، باستثناء الكونت وستة من أتباعه.

ج- معركة هرقلة الثانية:

في الوقت الذي كانت فيه حملة نيفر تجوس آسيا الصغرى، وصلت الدفعة الأخيرة من تلك الجموع الصليبية إلى القسطنطينية، وتألفت من فرنسيين وألمان بقيادة وليم التاسع دوق أكويتين، وولف الرابع دوق بافاريا، وبلغ عدد أفرادها ستين ألف مقاتل خرجت هذه الجموع من القسطنطينية باتجاه قونية، وسلكت الطريق نفسه الذي سلكه بوهيمند من قبل، وانتهج الأتراك تجاهها الخطط نفسها التي طبقوها من قبل بإحراق الغلال وإتلاف المؤن وطمر الآبار، ولما وصل أفراد هذه المجموعة إلى قونية وجدوا المدينة خاوية وكانت الحامية السلجوقية قد أخلتها بعد أن قاومت حملة نيفر، وحملت معها كل ما كان فيها من مؤن، كما جرّدت البساتين والحدائق من كل ما يمكن أن يفيد الصليبيين.

ولم يمكث الصليبيون في قونية وغادروها إلى هرقلة عن طريق يبلغ طوله خمسة وخمسون ميلاً، فعانوا من المتاعب الكثيرة حتى اشتد بهم الجوع والعطش، وكان الأتراك يتخطفونهم بالقتل بين الحين والآخر، ولما دخلوا إلى المدينة وجدوها مهجورة، وتربص المسلمون في هذا الوقت بالصليبيين، وكمنوا لهم في الغابات المحيطة بهرقلة، وباغتوهم وهم يشربون من ماء ذلك النهر المتفجر وراء المدينة، وإذ اضطرب نظامهم، انقضَّ عليهم الأتراك وأبادوهم عن آخرهم، باستثناء قلة قليلة استطاعت النجاة بصعوبة، من بينهم وليم التاسع وولف الرابع وتوجها إلى طرسوس ومنها إلى أنطاكية.

د- نتائج معارك قلج أرسلان السابقة:

انتهت كل مجموعة من المجموعات الثلاث، نهاية محزنة أثَّرت نتائجها في سير الحركة الصليبية من جهة وفي الأتراك بعامة والسلاجقة بخاصة من جهة أخرى وأهم هذه النتائج هي:

- ثأر السلاجقة لما حل بهم في دوريليوم، فلن يجري بعدئذ طردهم من الأناضول، كما رفعت الانتصارات المتتالية روحهم المعنوية.

- ظل الطريق الذي يجتاز آسيا الصغرى إلى بلاد الشام غير آمن للجيوش الصليبية والبيزنطية على السواء، على الرغم من نجاح المجموعات الصليبية الأولى في اقتحامه، فخشي المهاجرون الصليبيون سلوك هذا الطريق البري الذي يجتاز القسطنطينية إلى إيسوس، ما لم يكونوا في جيوش ضخمة، ولم يعد بوسعهم القدوم إلا بحراً مع ما يتطلب ذلك مصاريف إضافية لم يتمكن من دفعها إلا القليل. وظل هذا الطريق البري مغلقاً في وجه الصليبيين عدة أعوام.

- ألقى الصليبيون اللوم على البيزنطيين بما حل بهم من مصائب وحملوهم مسؤولية ما حدث، وترَّددت الشائعة بينهم أن ريموند كان يُنفَّذ تعاليم الأمبراطور عندما أخرج الجيش الذي يقوده عن طريق المرسوم ليلقى أفراده حتفهم في كمين سبق إعداده، والواقع أن اللاتين أرادوا التماس كبش فداء يتحمَّل مسؤولية أخطائهم، فألقوا اللوم على البيزنطيين، وعدُّوهم مسؤولين عمّا حلَّ بهم من كوارث.

- لم يلبث قلج أرسلان أن ازداد افتخاراً بعد هذه الانتصارات وشاركه سائر أتراك الأناضول، وأضحى بوسعه أن يعيد سيطرته على جوف الهضبة، تم أقام في عاصمته قونية الواقعة على الطريق الرئيسي الذي يربط القسطنطينية ببلاد الشام.

- أستأنف الدانشمنديون فتوحهم في وادي الفرات دون عائق وبلغوا أطراف إمارة الرها، كما فتحوا ملطية وأسروا حاكمها في "23 ذي الحجة 495ه/18 أيلول 1102م".

- أعاد رحيل الصليبيين إلى بلاد الشام، الخصومة والتنافس بين السلاجقة والدانشمنديين، وتنازع التركيان الكبيران حول امتلاك ملطية وفدية بوهيموند، فتفكَّكت بذلك جبهة الأتراك في المنطقة.

* أثر وفاة قلج أرسلان: راسل زنكي بن جكرمش قلج أرسلان الأول يستنجد به، وكان آنذاك في ملطية، ووعده بتسليمه الموصل والأعمال التابعة لها، واستغل السلطان قلج أرسلان السلجوقي هذه الفرصة للتوسع على حساب الأمراء المتنازعين، فأسرع لنجدة زنكي، ولما علم جاولي بمسيره، انسحب من المدينة، لاسيما وقد توفي جكرمش فجأة وهو في الأسر، وكان ينوي اتخاذه أداة للمساومة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنه أدرك ان لقلج أرسلان الأول من القوة ما لايستطيع مجابهته في معركة سافرة، لذلك قرّر تكوين حلف مناهض له حتى يدعم موقفه، لكن قلج أرسلان الأول تمكَّن من دخول الموصل وسط ترحيب السكان، وقد وعدهم باحترام حرياتهم وأجرى فيها بعض الترتيبات الإدارية، وأما جاولي، فقد انسحب إلى سنجاز، وأجرى مباحثات مع كل من إيلغازي الأرتقي ورضوان صاحب حلب، واتفق في نهايتها على طرد قلج أرسلان الأول من الموصل، والتوجه بعد ذلك لمهاجمة أنطاكية، وانتهت الحرب ضد قلج أرسلان الأول بهزيمته وغرقه في نهر الخابور في عام "500ه/1107م"، ويعتبر قلج أرسلان الأول من الشخصيات الفذَّة التي أنجبتها سلاجقة الروم، وتأثر الشرق الأدنى بمختلف فئاته بموته.

* فسلاجقة الروم الذين لم يظهر بينهم زعيم قوي يحل محل قلج أرسلان تعرَّضوا لضغط متزايد من جانب الإمبراطورية البيزنطية التي جدَّدت تدخلها في شؤونهم الداخلية، واستطاع الكسيوس كومنين أن يعيد بطمئنان سيطرته على المناطق الغربية لآسيا الصغرى وعلى امتداد ساحلها الجنوبي.

* أطالت وفاة قلج أرسلان من عمر دولة السلاجقة العظام، ما يقرب من مائة عام. ذلك أن الانقسامات الحادة داخل الدولة بين السلاطين والأمراء للسيطرة على العرش، وكثرة الحروب الداخلية بينهم بالإضافة إلى الأخطار الخارجية التي أحاقت بهم، كخطر الحشيشية والخطر الصليبي، شجّع قلج أرسلان على التدخل في شؤون الشرق للسيطرة على مقاليد الحكم، وليوحَّد من جديد كل القوى السلجوقية في المشرق، وكان باستطاعته تحقيق حلمه هذا، فالظروف السياسية الداخلية والخارجية مواتية، غير أن وفاته أنقذت السلاجقة العظام من الزوال وأطالت أمد عمرها.

* تُعدُّ وفاة قلج أرسلان مرحلة بالغة الأهمية في انفصال سلاجقة الروم عن سلاجقة المشرق. ذلك أن الأخطار الداخلية والخارجية التي أحاقت بدولة السلاجقة العظام حالت بينهم وبين التدخل في شؤون الفرع السلجوقية الأخرى، وبخاصة في بلاد الشام وآسيا الصغرى، والجدير بالذكر أن دولة سلاجقة الروم كانت لا تزال حتى ذلك الوقت تابعة اسميَّا للسلاجقة العظام، ولم تستقل تماماً إلا في عام "552ه/1157م".

* حرم موت قلج أرسلان سلاجقة الشام من قوة كانت كفيلة بإقامة الوحدة بينهم، ذلك أن السيادة السلجوقية في بلاد الشام، أخذت تتقلَّص سريعاً، لأن ابني تتش، رضوان ودقاق لم يتمتعا بالمقدرة السياسية التي تمكنهما من مواجهة الأوضاع القلقة التي عاشتها بلاد الشام في أواخر القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، وأوائل القرن التالي، ولعل أكبر مظهر لا نحلال سلطان السلاجقة في بلاد الشام والعراق وغيرهما، هو ظهور عدد كبير من البيوت الحاكمة التي تجمعها رابطة الاتصال بالبيت السلجوقي، وظهرت من تلك البيوت وحدات سياسة أطلق عليها اسم الأتابكيات وعلى أصحابها اسم الأتابك.

* أزالت وفاة فلج أرسلان خطراً شديداً على صدر الإمبراطورية البيزنطية في وقت حرج، إذ كان بوهيمند يستعد لمهاجمة بلاد البلقان في عام "501ه/1107م"انطلاقاً من حصن دورازو المنيع، وقد ضحى الكسيوس كومنين بحدود بالده الجنوبية الشرقية من أجل إنقاذ دورزاز، فعقد معاهدة مع فلج أرسلان حصل بموجبها منه على مساعدة عسكرية، إلا أن وفاته المفاجئة، وعدم وجود شخصية قوية تحل محله أعطاه الفرصة ليتفرغ وهو مطمئن لمواجهة خطر بوهيموند، الذي انهزم أمامه عام "502ه/1108م".

* جعلت وفاة فلج أرسلان الموقف في آسيا الصغرى مانعاً، إذ أن أكبر أولاده الأربعة وهو ملكشاه أضحى أسيراً في يد السلطان محمد بعد معركة الخابور، بينما استولت أرملته على ملطية والأقاليم الشرقية بمساعدة الأمير أيدبر الذي اعترف بسيادة طغرل أرسلان، أصغر أولاد قلج أرسلان على بلاد الروم، أما الأخوان الآخران وهما مسعود وعرب، فقد عاش الأول في بلاد الدانشمنديين في حين استقر الثاني في قونية.

* لم يكن انهيار الحكم المركزي لسلاجقة الروم لصالح لبيزنطيين، لأن أولئك استمروا في شن الغارات على أراضي الإمبراطورية، وعلى الرغم من ذلك فقد تمكن الأمبراطور البيزنطي من الاستيلاء على بعض الحصون في المناطق الحدودية، على أنه لم يشأ أن يغامر بالذهب إلى قيليقية أو إلى بلاد الشام، وكان هذا التصرف منه لصالح السلاجقة الذين تفرغوا لمعالجة مشكلاتهم الداخلية.

* جاولي سقاوة: بعد وفاة فلج أرسلان وغرقه في نهر الخابور عام "500ه/1107م"، أضحى بوسع جاولي أن يدخل الموصل، غير أن ما اقترن به حكمه من الوحشية لم يلبث أن جعله مكروهاً عند الناس، كما أنه لم يزد عن جكرمش فيما أظهره من الاعتراف بسلطة السلطان محمد على الرغم من أنه خطب باسمه في الموصل، إذ أعلن استقلاله وقطع كل صلة به، مما دفع السلطان محمد لأن يعهد في شهر ذي القعدة عام "501ه/شهر حزيران" عام "1108م" إلى أحد رجاله، وهو مودود بن التونتكين بطرد جاولي من الموصل والحلول مكانه في حكمها، وهكذا اضطر جاولي إلى الفرار مجدداً من الموصل، وذهب إلى الجزيرة حيث التف حوله جميع أعداء الدولة السلجوقية وعلى رأسهم قبيلة بني مزيد العربية، كما لم يتردد في محالفة القوى الصليبية المجاورة، فأطلق سراح بلدوين الثاني دي بورج أمير الرها، وعقد معه تحالفاً ضد السلاجقة، ودخل مودود الموصل وسط ترحيب السكان في شهر صفر عام "502ه/شهر أيلول عام "1108".

صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.

ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد