المؤلف/ علي محمد الصلابي
5- شرف الدولة مودود بن التونتكين "510ه - 507ه/ 1108م - 1113م":
يحتل مودود مكانة خاصة في تاريخ الجهاد ضد الصليبيين، وقد أسهمت في تكوين هذه المكانة عوامل عدة أهمها - ولا ريب - الفترة المبكرة التي ظهر فيها، والطابع الإسلامي العميق لشخصيته المتفانية في سبيل أهداف المسلمين الكبرى، وسياسته الداخلية العادلة السمحة وقدرته - بناء على ذلك كله - على تزعم حركة الجهاد وإيجاد نوع من التنسيق، ربما لأول مرة، بين كافة القوى الإسلامية في ساحات الجهاد، الأمر الذي لن نجده متبلوراً وناضجاً إلا في عهد الأراتقة وزنكي فيما بعد. . وأخيراً نجاحه في وضع الصليبيين في موضع الدفاع، وتحقيقه عدداً من الانتصارات، جاء أحدها عند مرتفعات طبرية في قلب فلسطين، بعيداً عن الساحة التي درج عليها الصراع بين ولاة الموصل السابقين وأعدائهم. .
ثم جاء مقتله السريع، إثر ذلك، في جامع دمشق على أيدي الأعداء الشرسين لحركة الجهاد والمقاومة، والحزن العميق الذي شمل جماهير المسلمين بعيد اغتياله والكلمات المخلصة التي قالها قبيل استشهاده جاء ذلك كله لكي يؤكد مكانة مودود الإسلامية كبطل من أبطال الحروب الصليبية ورائداً من رواد الجهاد الأولين.
أ - حملة مودود الأولى ضد الرها:
في عام "503ه/1109م" بعد أشهر قليلة من استتباب الأمر له في الموصل، وبعد أن تلقَّى أمراً من السلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه بالتحرك لقتال الصليبيين فبدأ مودود بتشكيل تحالف إسلامي ضم الأمير إيلغازي الأرتقي أمير ماردين بعساكره من التركمان، وسقمان القطبي أمير أرمينية المعروف باسم شاه الأرمن وعدد كبير من المتطوعين، وكانت هذه أول مرة يجتمع فيها هذا العدد من الأمراء المسلمين لقتال الصليبيين، ولهذا تعد هذه الحملة فاتحة عهد جديد من النضال ضد الصليبيين، ونقطة تحول هامة من التفرق والتخاذل إلى التجمع والهجوم، وما إن علم الصليبيون في الرها بحشود المسلمين حتى أنفذ بلدوين دي بورج رسولاً إلى بيت المقدس يلتمس النجدة العاجلة من الملك بلدوين، متجاهلاً الاستعانة ب"تانكرد" صاحب أنطاكية، إذ كان يشك في نواياه، وباتفاقه مع المسلمين ضد الرها، وكان الملك بلدوين آنذاك يحاصر مدينة بيروت، ولم يتحرك إلا بعد أن استولى عليها، فأسرع بالمسير نحو الشمال، وصحبه برترام أمير طرابلس، وانضم إليه قرب سميساط بعض زعماء الأرمن وعلى رأسهم كوغ باسيل، فوصل إلى الرها في آخر شهر ذي الحجة/ أواخر شهر تموز، وظل الأتابك مودود يحاصر الرها مدة شهرين دون أن يتمكن من اختراق استحكاماتها، فلما تراءى له جيش بيت المقدس، رفع الحصار عنها وتراجع
إلى حران وفق خطة عسكرية محكمة، وانضم إليه طغتكين أتابك دمشق، وقرّر الملك بلدوين مطاردة الجيوش الإسلامية، إلا أنه كان عليه أن يوحَّد كلمة الصليبيين قبل أن يقوم بهذا العمل ، فاستدعى تانكرد صاحب أنطاكية، ونجح في تحقيق المصالحة بينه وبين أمير الرها، وكان مودود قد أمعن في انسحابه لاستدراج الصليبيين إلى مكان بعيد عن قاعدتهم، ثم تطويقهم بعد أن ينحرف فجأة إلى الشمال، لكن عملية المطاردة توقفت فجأة، وانفرط عقد التحالف الصليبي، فقد تضافرت عدة دوافع جعلت الصليبيين يتوقفون عن المطاردة ويتراجعون من المنطقة لعل من أهمها:
* لقد تلقى الملك بلدوين تحذيراً مبكراً بخطة مودود، ففك الحصار عن قلعة شناو التي تقع إلى الشمال الغربي من حران، كما تلقى إنذاراً من بيت المقدس بتحرك فاطمي ضد بيروت، فقرر التخلي عن الحملة.
* راجت شائعات في الأوساط الصليبية بأن رضوان صاحب حلب يستعد لمهاجمة أنطاكية في ظل غياب أميرها، فاضطر تانكرد إلى التخلي عن الحملة.
* وبناء على نصيحة الملك بأن لا جدوى من محاولة حماية الجهات الواقعة شرقي نهر الفرات، أوعز بلدوين إلى السكان بالجلاء إلى الجهات الواقعة على الضفة اليمنى، واحتفظ بحاميات عسكرية في حصن الرها وسروج الكبيرين، وبعض القلاع الصغيرة، مع تدعيم الإمكانات الدفاعية لها، أما مودود فقد اكتفى بمهاجمة مؤخرة الصليبيين العابرين وعاد إلى الموصل.
ب - حملة مودود الثانية ضد الرها:
جاءت الجولة الثانية بعد أقل من سنتين، إثر الاستنفار الذي دعا إليه وفد من أهالي حلب، قدم إلى بغداد للدعوة إلى الجهاد، بعدما رأوا من تمادي رضوان في إذعانه للصليبيين، والهزائم المتتالية التي مُنِيَ بها مسلمو الشام والتي سقط على إثرها عدد من المواقع بأيدي الأعداء، وقد استفز نداء الوفد الحلبي جماهير بغداد وفقهاءها، فقاموا بتظاهرة واسعة طالبوا المسؤولين خلالها من خلفاء وسلاطين بضرورة إعلان الجهاد وتسيير الجيوش لوقف الزحف الصليبي،. . وقد أسرع الخليفة بإعلام السلطان السلجوقي بما جرى، وطلب منه الاهتمام بالأمر والإسراع بالاستجابة لنداءات المسلمين، فأصدر هذا أوامره على الفور إلى واليه على الموصل الأمير مودود بتشكيل تحالف إسلامي جديد جاعلاً القيادة الإسلامية لابنه الملك مسعود، واجتمع تحت قيادة مودود، حاكم الموصل، جميع حكام الأقليم في دولة السلاجقة، سقمان القبطي صاحب خلاط، تبريز، وبعض ديار بكر، وإيلغازي الأرتقي الذي أناب عنه ابنه أياز، والأميران الكرديان أحمديل صاحب
مراغة، وأبو الهيجاء صاحب إربل، فضلاً عن بعض أمراء فارس بزعامة الأميرين أيلنكي وزنكي ابني برسق أمير همذان.
بدأت قوات التحالف عملياتها العسكرية في شهر محرم عام "505ه" شهر تموز عام "1111م" بفتح عدة مواقع صليبية شرقي الفرات ثم اتجه أفرادها لحصار الرها، أثارت الحملة الذعر بين السكان ، لكن في الحقيقة لم تغير الموقف فيها، فقد أعيت المسلمين بسبب مناعتها وصمود أهلها، عندئذ رأى مودود أن يعبر الفرات لمهاجمة تل باشر، فتحولت قوات المسلمين إليها كي يجرّوا أعداءهم إلى عبور الفرات فيتمكنوا منهم، إلا أن هذا كان خطأ من قادة المسلمين، لأن الصليبيين تمكنوا لدى عبورهم الفرات من نقل مقادير كبيرة من الميرة والأعتدة والأقوات إلى الرها فقويت من بعد ضعف كاد يوقعها بأيدي المسلمين لو استمروا على حصارهم لها.
وما لبث جوسلين صاحب تل باشر، الذي تعرض لضغط القوات الإسلامية، أن تمكن من رشوة القائد الكردي أحمديل الذي كان الجزء الأكبر من قوات المسلمين بمعيته فانسحب متراجعاً بالرغم من معارضة سائر الأمراء.
ولم يمض وقت طويل حتى استنجد رضوان بمودود واستدعى قواته للقدوم إلى حلب كي يعملوا سوية من هناك ضد المواقع الصليبية، فغادر مودود تل باشر متجهاً إلى حلب على رأس قواته، وتمكن وما أن ابتعدوا عن تل باشر حتى خرج إليهم جوسلين، على رأس قوة من فرسانه، وتمكن من مهاجمة مؤخرتهم، وقتل ما يقرب من ألف رجل منهم، وعاد إلى بلده مثقلاً بالغنائم، ولم تكن دعوة رضوان لمودود صادقة، فلم تكد القوات الإسلامية تقترب من حلب حتى أقفل رضوان بوجهها الأبواب، واتخذ من إجراءات الحيطة لمنع المظاهرات أن أمر باعتقال عدد كبير من أعيان المدينة واتخذهم رهائن، ولم يسع مودود إلا أن يتحرّك بجيشه جنوباً إلى شيزر بعد أن أعار على عدد من المواقع الصليبية في الشمال، وفي شيزر اجتمع به طغتكين الذي كان قد توجّه إلى بغداد طالباً المساعدة لاستعادة طرابلس، إلا أنه خاف أن تؤخذ منه دمشق فشرع في مهادنة الصليبيين سراً، وأما تانكرد الذي عسكر أمام شيزر فإنه تراجع إلى أفامية، وأرسل إلى المسلك بلدوين يستنجد به، فاستجاب له هذا وبعث إلى سائر الفرسان في الشرق الصليبي ليلحقوا به، فانضم إليه عدد كبير منهم ، كما قام تانكرد باستدعاء أتباعه من سائر جهات أنطاكية.
وأما مودود فقد تحصن خلف أسوار شيزر قبل أن يكتمل حشد الصليبيين الذين بلغ عددهم نحو سته عشر ألف مقاتل كان على رأسهم ملك بيت المقدس، وأمراء الرها وأنطاكية وطرابلس، ورفض مودود أن يجره أعداؤه إلى معركة حاسمة.
إلا أن الأمور لم تجر على نحو طيب في جيشه، إذ أن طغتكين لم يشأ أن يبذل له المساعدة إلاَّ بعد أن تعهد مودود بالمضي في حملته إلى الجنوب لقتال الصليبيين في فلسطين رغم خطورة هذه المحاولة من الناحية العسكرية، وأمام برسق الكردي فأصابه المرض وأراد أن يعود إلى بلاده، ومات سقمان القطبي فجأة فانسحبت عساكره صوب الشمال حاملة جثمانه، وبادر أحمديل إلى الانسحاب بعساكره محاولاً انتزاع جانب من ممتلكات سقمان، ولم يعد بوسع مودود القيام بالهجوم نظراً لتناقض قواته يوماً بعد يوم، كما أنه لم يكن راغباً في أن يقضي الشتاء بعيداً عن الموصل، فقفل عائداً إليها.
كان لتلك البوادر السيئة من قبل بعض الأمراء أثرها المباشر على إمكان تحقيق أي نصر حاسم ضد الصليبيين، كذلك الذي حققه جكرمش وسقمان في معركة البليخ.
وقد أظهرت هذه الأحداث مدى تفكك القيادات الإسلامية وعدم وحدتها، في الوقت الذي تجمعت فيه القوى الصليبية في شمالي الشام وجنوبه، وحققت لبلدوين ملك بيت المقدس نوعاً من الزعامة على سائر أمراء الصليبيين.
كانت سياسة رضوان في إمارة حلب شراً كلها، فقد هادن الإسماعيلية والصليبيين، وحالفهم ضد خصومهم من المسلمين، إذ انضم إلى صاحب أنطاكية الصليبي ضد صاحب الموصل جاولي عام "501ه" وعند ما هاجم الأمير مودود صاحب الموصل أنطاكية وتل باشر رفض رضوان مساعدته وأغلق مدينة حلب في وجهه، بل تحالف مع "تنكرد" الصليبي صاحب أنطاكية ضد المجاهدين، وبقيت أبواب المدينة مغلقة سبع عشرة ليلة في وجه الجيش الإسلامي، ولم يحفظ له الصليبيون هذه المواقف فحاصروا حلب عام "504ه" واشتد الحصار، حتى أكل الناس الميته وورق الشجر، وفرضوا على رضوان مبلغاً من المال كان يحمله إليهم سنوياً، وحصل الإسماعيلية الباطنية الرافضية على مكانة مرموقة في حلب، بفضل تشيع رضوان لآرائهم ومساعدته لهم، ومن ثم صار يستخدمهم في اغتيال خصومه السياسيين، وكان يميل إلى الفاطميين، فخطب للمستعلي في بلاده، ولوزيره الأفضل، ودامت الخطبة لها عامين في حلب، وكان ذميم السيرة، قرب الباطنية، وعمل لهم دار دعوة في حلب فكثروا، وهلك سنة "507ه"، وصفه المؤرخ أبو المحاسن فقال : كان شحيحاً إليهم ، خلفه ابنه ألب أرسلان المعروف بالأخرس، فنكب الإسماعيلية وقتل زعيمهم أبا طاهر الصائغ، وبقية زعماء تلك الطائفة.
ج- حملة مودود الثالثة ضد الرها:
ومع أن مودوداً وجد نفسه وحيداً في حركة الجهاد إلا أنه قام في شهر ذي القعدة 505ه/شهر أيار 1112م بمهاجمة الرها فجأة، وحاصرها لكن المدينة صمدت في وجه الحصار، فرأى عندئذ
أن يترك حولها قوة عسكرية ويهاجم سروج في شهر محرم عام "506ه/شهر تموز عام "1112م" بوصفها المعقل الثاني للصليبيين شرقي الفرات، وبهذه الخطة العسكرية يكون مودود قد قسم قواته، وأضعفها متخلياً عن حذره في مواجهة الصليبيين، وكانت النتيجة أن لحق به جوسلين صاحب تل باشر وهزمه وقتل عدداً كبيراً من رجاله، فلم يسعه عند ذلك إلا التراجع نحو الرها، لكن جوسلين سبقه إليها لمساعدة بلدوين دي بورج في الدفاع عنها، وفي الوقت الذي كانت تدور فيه هذه الأحداث، تآمر الأرمن في الرها ضد بلدوين، واتصلوا بمودود ليخلصهم من حكم الصليبيين، وجرى الاتفاق على أن يساعدوه في الاستيلاء على قلعة تسيطر على القطاع الشرقي من المدينة، مما يمكنه بعد ذلك من الاستيلاء على بقية المدينة بسهولة، لكن وصول جوسلين السريع حال دون تنفيذ الاتفاق ورُد المسلمون على أعقابهم، فلم يتمكنوا من انتزاع المدينة من أيدي الصليبيين.
صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.