;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس ..الحلقة الرابعة عشرة 1295

2008-09-08 09:08:17

المؤلف/ علي محمد الصلابي

د- حملة مودود ضد إمارة بيت المقدس:

معركة الصَّنَّبرة : ظل مودود متمسكاً بفكرة جهاد الصليبيين، وهي المهمة التي عهد إليه بها السلطان محمد السلجوقي، بوصفه ممثله في إقليم الجزيرة وبلاد الشام، فتحرك في مطلع عام "507ه/ شهر" حزيران عام "1113م" على رأس تحالف إسلامي لقتال الصليبيين في بيت المقدس بناءً على استنجاد طغتكين أتابك دمشق به، بعد أن تعرضت إمارته لهجمات شديدة من صليبيي بيت المقدس، الذين نفذوا من وادي التيم إلى البقاع، ووصلوا إلى بعلبك، وانضم : تميرك صاحب سنجار، وأباز بن إيلغازي أمير ماردين إلى هذا التحالف وكان هدف المسلمين منطقة فلسطين.

فنجحوا في استدراج الملك بلدوين إلى أراضي دمشق حتى جسر الصنبرة، الواقع في المجرى الأعلى لنهر الأردن، وفي الثالث عشر من شهر محرم حدث اللقاء الذي انتهى بانتصار المسلمين، ونزلت بالصليبيين هزيمة ساحقة، فارتد ملك بيت المقدس إلى طبرية، ولم يلبث أن وصل لنجدته روجر أمير أنطاكية، وبونز أمير طرابلس، في حين لم يستطع أمير الرها الحضور لأن إمارته كانت بحاجة إلى حماية دائمة، ومضى المسلمون في زحفهم بعد المعركة حتى بلغوا طبرية، غير أنهم لم يغامروا بمواجهة التحالف الصليبي، وخاصة أنه دخل فصل الشتاء، فقرروا الانسحاب إلى دمشق.

وكان ذلك أول مرة تتعاون الموصل ودمشق في حرب الصليبيين في مملكة بيت المقدس.

وتكمن أهمية الأتابك مودود في أنه: أعاد للمسلمين الثقة بأنفسهم، فتحولوا من الدفاع إلى الهجوم في علاقاتهم مع الصليبيين وبلور فكرة الاتحاد بين المسلمين، وأعطاها بُعداً سياسياً وعسكرياً، فأضحى أمراؤهم على استعداد للتعاون المثمر بنوايا صادقة.

ه- مقتل مودود:

سيَّر مودود وحليفه رسولاً إلى السطان السلجوقي في أصفهان يبشرانه بما تمّ على أيديهما من فتح، وبعثوا مع الرسول بعض ما غنموه، وعدداً من أسرى الفرنج ورؤؤسهم، إلا أن بعُد المسلمين عن بلادهم، وانقطاع الإمداد والتموين عنهم، واشتداد البر عليهم، اضطرهم إلى وقف عملياتهم في المنطقة والعودة إلى دمشق في الحادي والعشرين من ربيع الأول على أمل الرجوع ثانية لقتال الصليبيين عند حلول الربيع، وبعد أن يتلقى مودود جواب السلطان على رسالته، والتعليمات التي سيصدرها لهذا الصدد، ودخل جامع دمشق يوم الجمعة في ريبع الأول، ليصلي به وطغتكين، فلما فرغوا من الصلاة وخرج إلى صحن الجامع ويده في يد طغتكين، وثب عليه باطني فضربه فجرحه أربع جراحات وقتل الباطني، وأخذ رأسه، فلم يعرفه أحد فأحرق، وكان مودود صائماً، فحمل إلى دار طغتكين، واجتهد به ليفطر فلم يفعل وقال: لا لقيت الله إلا صائماً، فمات من يومه "رحمه الله"، وتأثر المسلمون لمصرع بطل من كبار أبطال الجهاد، واشتهر بإخلاصه وتفانيه وجرأته، وحزنوا حزناً عميقاً لا ختفائه السريع، بعد الانتصار العظيم الذي حققه مع حليفه في قلب البلاد الصليبية، وقد عبرت جماهير دمشق عن حزنها وغضبها، حيث شهدت المدينة إضراباً لم تشهد له مثيلاً منذ فترات بعيدة، ولم يهدئ من روع الناس سوى أملهم بنجاة القائد من الجراح التي أثخنته، لكنهم ما إن سمعوا نبأ استشهاده بعد ساعات قلائل، حتى عادوا - ثانية - إلى ما كانوا عليه، وكتب ملك الفرنج في بيت المقدس كتاباً إلى طغتكين جاء فيه: إن أمة قتلت عميدها، يوم عيدها، في بيت معبودها، لحقيق على الله أن يبيدها !! غير أن ملك الفرنج وغيره من أمراء الصليبيين تجاهلوا أو تعمدوا التجاهل آنذاك.

إن ماهو أكثر عوناً لهم وأشد خطراً على كل محاولة إسلامية لقتالهم، ليست هي الأمة التي ظنوا أنها قتلت عميدها في بيت معبودها - فقد عرفنا موقف هذه الأمة من مقتل بطلها المجاهد - إنما هي تلك الفرقة الباطنية الرافضية الحاقدة - التي قامت على مذهب جديد، شديد الميل إلى التدمير كان قد أنشأه في بلاد فارس، شخص يدعى الحسن بن الصباح وقد تحدثنا عنه وقد دعمته الدولة الفاطمية الرافضية الباطنية - ولم تكن كراهية الحشاشين هؤلاء للمسيحيين تزيد على بغضهم للمسلمين السنيين، وما نشاهده اليوم خير دليل على ذلك.

و- ما ترتب على حملات بطل الإسلام مودود من نتائج:

وعلى الرغم من الإخفاق الذي حل بحملات بطل الإسلام مودود إلا أنها تمخضت عن عدد من النتائج المهمة في مسار تاريخ حركة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين، ويمكن إجمالها في الآتي:

- إن إمارة مودود - على قصر مدتها - تعد نقطة تحول في تاريخ الصراع الإسلامي - الصليبي خلال تلك المرحلة المبكرة، فقد صارت فكر ة الجهاد حقيقة واقعة، ووجدت فارسها المخلص الذي حمل لواءها ما يقرب من نصف المدة التي تولى فيها أمر إمارة الموصل.

- يمكن اعتبار حملات مودود مقدمة لحملات عماد الدين زنكي مع عدم إغفال الفارق الزمني في صورة الثلاثة عقود الفاصلة بين إنجاز كل منهما والتي أدت إلى سقوط إمارة الرها الصليبية عام "1144م/ 539ه" حيث أن مودود وجه حملاته الأولى إلى الرها وتل باشر، وعمل على إرهاق أهلها على نحو نصفه بأنه المقدمة الأولى لجهود زنكي ضدها، على اعتبار أن قافلة الجهاد متصلة قائداً من بعد قائد.

- كشفت حملات مودود عن الضعف الذي كانت عليه القوى الإسلامية في بلاد الشام والجزيرة وعدم إخلاص بعضها لقضية الجهاد ضد الغزاة الصليبيين.

وعلى الرغم من الدور الرائد الذي قام به مودود، إلا أننا نجد البعض يرى أن عماد الدين زنكي هو الذي وضع أساس حركة الجهاد ضد الصليبيين، وفي هذا إجحاف بدور تلك القيادة السلجوقية وواقع الأمر: أن المؤرخين الذين أرخوا لتلك المرحلة من تاريخ الصراع الإسلامي الصليبي انبهروا بحجم الإنجاز الكبير الذي قام به عماد الدين زنكي من حيث إسقاط أول إمارة صليبية أقيمت في المنطقة، فتصوروا أن المراحل السابقة عليه ليست قيمة كبيرة على الرغم من أنها كانت الممهدة الحقيقية لإنجاز عام "1144م/ 539ه" ولا نغفل أيضاً أن الدعاية السياسية الناجحة والفعالة التي قدمها المؤرخ العراقي الفذ ابن الأثير من خلال كتابه الباهر لمؤسس البيت الزنكي قد جعلت المؤرخين يتأثرون بها بصورة أو بأخرى، على نحو جعل سقوط عماد الدين زنكي في مثل ذلك - الموقف - من حيث تقويم دورهم التاريخي، ويكفي مودود فخراً أنه نجح في ضرب الوجود الصليبي في الجليل، وهي منطقة لم تصل إليها فعاليات المسلمين مُنذ قرابة عقدين من الزمان، ويكفيه أنه ألحق الهزيمة بمؤسس مملكة بيت المقدس الصليبين ونستطيع أن نصل إلى رؤية محددة من خلال أن قادة الجهاد الإسلامي كل يكمل الآخر، ولا خصومة بينهم، وما قام به مودود أفاد - فيما بعد - القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي، ولذا فبالإمكان القول ، اليوم الصنبرة وغداً حطين، وهذا ما أثبته السياق العام لتاريخ تلك المنطقة في القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي.

وعلى أية حال عند مقارنة جهد مودود بسابقيه في صورة كربوغا، وجكرمش، وجاولي سقاوة سيتضح لنا أنها أدوار متدرجة ومتصارعة، فكربوغا انحصر أمره في نجدة أنطاكية وجكرمش زاد الأمر من خلال نحو تسعة أعوام فقط تم إلحاق هزيمتين كبير تين بالصليبيين، غير أن العقبة القائمة تمثلت في عدم الإفادة من كل من الانتصارين في اجتياح مناطق الأعداء، وتحقيق انتصار سريع خاطف يصعب على الصليبيين تعويض خسائرهم من جرائه، غير أن بقايا ظاهرة التشرذم السياسي، والتباغض بين القيادات الإسلامية كان عائقاً دون تحقيق ذلك.

6- نجم الدين إيلغازي صاحب ماردين:

ارتبطت حركة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين ارتباطاً شديداً بزعماء الموصل الذين كانوا تحت طاعة السلاجقة، وأدت وفاة السلطان محمد بن ملكشاه سنة"512ه/ 1117م" إلى ازدياد تدهور أحوال السلاجقة في العراق، فسعى السلطان محمود بن محمد ملكشاه إلى استدعاء آقسنقر من الموصل لتوليته شحنكية بغداد، الأمر الذي أفقد الموصل مكانتها القيادية في بعث حركة الجهاد الإسلامية ضد الصليبيين مؤقتاً، وانتقال هذه القيادة إلى نجم الدين إيلغازي صاحب ماردين، واستهل إيلغازي أعماله بالاستيلاء على حلب سنة "511ه/ 1117م"، لأهميتها بالنسبة لأية قيادة عسكرية وسياسية تسعى لمجابهة الصليبيين، وذلك لما كانت تتمتع به من مركز استراتيجي حيوي من النواحي البشرية والعسكرية والسياسية والاقتصادية، وكانت حلب تقع بين إمارتين صليبيتين هما : الرها وأنطاكية، وفي نفس الوقت يمكنها الاتصال بالقوى الإسلامية التركمانية المنتشره في منطقة الجزيرة.

لذا كان الاستيلاء عليها بمثابة فتح الطريق لقيادة حركة الجهاد، وذلك ماحدث فعلاً بالنسبة لنجم الدين إيلغازي وابن أخيه بلك بن بهرام ومن بعدهما آقسنقر البرسقي وعماد الدين زنكي ونور الدين محمود فيما بعد.

وأما عن تفاصيل استيلاء نجم الدين إيلغازي على حلب سنة "511ه/ 1117م" فقد تجدد بها من الحوادث ما أطمع الصليبيين في الاستيلاء عليها حيث بلغت حداً من الضعف والضائقة الاقتصادية مما أعجز أهلها عن تقديم القوات لدوابهم، ولكن خوف أهلها من أن تسقط بيد الصليبيين قد أجبرهم على استدعاء نجم الدين إيلغازي وتسليمه حلب في السنة المذكورة، واستهل إيلغازي أعماله بحلب بفرض سيطرته على بعض المواقع التابعة لها كبالس، ومصادرة بعض رجال حلب للحصول منهم على مال يهادن به الصليبيين، فاستوحش منه أهل حلب وجندها - على حد قول ابن العديم - مما اضطره إلى مغادرتها إلى ماردين بعد أن استخلف على حلب ابنه حسام الدين تمرتاش. واستغل الجند المقيمون في بالس موجة الغلاء التي مروا بها في نفس السنة "511ه/ 1117م"، فأرسلوا إلى الصليبيين ليسلموها إليهم فاضطر إيلغازي إلى العودة على رأس قوة من التركمان إلى حلب، فلما شعر الصليبيون بالخطر، انسحبوا عنها فتسلمها إيلغازي للمرة الثانية، وعاد إلى ماردين بعد أن عقد معهم هدنة بعدم اعتداء أي منهما على ممتلكات الطرف الآخر.

* نقض الصليبيين للهدنة:

ولكن الصليبيين وجدوا الفرصة سانحة بعد خروج إيلغازي وأغاروا على عزاز وشددوا الحصار عليها حتى اضطر من بها من المسلمين إلى التسلميم، واضطر أهل حلب إلى مراسلة الصليبيين وطلبوا منهم التمسك بالهدنة التي كان قد عقدها معهم إيلغازي وأن يسلموهم - أي أهل حلب - تل هراق ويؤدوا لهم القطيعة المقررة على حلب عن أربعة أشهر ومقدارها ألف دينار، ويكون لهم من حلب شمالاً وغرباً. وغضب نجم الدين إيلغازي لما وصلت إليه أخبار حلب، ولكنه لم يستطع العودة إليها وإنقاذها مما هي فيه لقلة عساكرها، فاتجه إلى شرق منطقة الجزيرة بقصد جمع العساكر، في الوقت الذي إبلغ فيه ظهير الدين طغتكين عن رغبته في الاجتماع به سنة "512ه/1118م" واجتمعا على قلعة دوسر بهدف القيام بدفع الصليبيين عن حلب ولكن ذلك لم يتيسر لهما، الأمر الذي دفع الصليبيين إلى إحكام السيطرة على مداخل حلب بعد أن استولوا على بزاغة فتردت الأحوال بحلب حتى بلغت حد التلف على حد قول ابن العديم، ولم يجد أهل حلب بداً من الاستعانة بالخلافة العباسية والدولة السلجوقية في بغداد، إلا أنهم لم يغاثوا نظراً لانشغال السلاجقة بالمنازعات الأسرية فيما بينهم من جهة، وضعف الخلافة العباسية من جهة أخرى.

صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.

ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.

 

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد