المؤلف/ علي محمد الصلابي
* إعلان النفير ضد الصليبيين:
لم يتيسر لنجم الدين إيلغازي لقاء الصليبيين، فقد فارق طغتكين وعاد إلى مادرين لجمع العساكر تمهيداً للعودة للجهاد والالتقاء مع الصليبيين في معركة حاسمة وفي ماردين حشد نجم الدين إيلغازي ما يزيد عن عشرين الفاً من التركمان، بقصد قتال الصليبيين الذين ضيقوا على حلب حتى كادت أن تعدم القوت.
وأرسل إيلغازي رسله إلى بغداد لإعلان النفير ضد الصليبيين وإعلام الخليفة العباسي المسترشد بالله والسلطان السلجوقي محمود بن محمد ملكشاه بما فعله الصليبيون بالديار الجزرية ، وأنهم ملكوا قلعة عند الرها وقتلوا صاحبها بن عطير، وكان نجم الدين إيلغازي قد تواعد مع ظهير الدين طغتكين في سنة "512ه/1118م" على ملاقاة الصليبيين في شهر صفر من السنة التالية"513ه/1119م" بالشام، وتوجه إيلغازي قبل الموعد المحدد إلى الرها وشدد عليها الحصار، مما اضطر من بها من الصليبيين إلى مصالحته لقاء تنازلهم عن الأسرى المسلمين الموجودين بها، فأجابهم إيلغازي واشترط عليهم عدم التوجه لمساعدة أمير أنطاكية في حالة حدوث قتال معه فأجابوه، وقد كانت هذه خطوة صائبة من إيلغازي تمكن بموجبها من عزل إحدى قوى الصليبيين عن مد يد العون للقوى الأخرى، وهذا دليل واضح على ضعف رضوخ الصليبيين في منطقة الجزيرة إلى مطالب الأمراء المسلمين.
* معركة ساحة الدم:
وبعد أن اطمأن إيلغازي إلى أنه لن يتعرض إلى طعنة الصليبيين من الخلف، توجه بلاد الشام، وقد انضم إليه أسامة بن المبارك بن شبل الكلابي والأمير طغان أرسلان صاحب بدليس وارزن، وواصل سيره حتى بلغ قريباً من الأثارب بأرض سرمدا في ربيع الأول سنة "513ه/1119م" وهناك انتظر وصول ظهير الدين طغتكين، وكان الصليبيون بقيادة روجر صاحب أنطاكية قد نزلوا بتل عقرين وشرعوا في بناء حصن لهم هناك ولم يدر بخلدهم أن نجم الدين إيلغازي سيباغتهم هناك لضيق الطريق، ثم لتوهمهم أن المسلمين سينالون من الأثارب أو زردنا، حتى أن الغرور قد أصابهم لاعتقادهم بحصانة موقعهم، فأرسلوا إلى إيلغازي يقولون له: لا تتعب نفسك بالمسير إلينا فنحن واصلون إليك، ولما طال انتظار إيلغازي لوصول حليفه، لبى رغبة الأمراء الذين كانوا معه في التعجيل بمباغتة الصليبيين، فما شعر الصليبيون إلا ورايات المسلمين قد أقبلت وأحاطت بهم من كل جانب، وذلك يوم الجمعة السادس عشر من ربيع الأول من السنة "513ه/1119م"، وخرج قاضي حلب أبو الفضل ابن الخشاب وخطب في المسلمين خطبة بليغة استنهض فيها عزائم المسلمين على الجهاد، فحمل المسلمون على الصليبيين حملة واحدة من جميع الجهات، فكانت السهام على الصليبيين كالجراد، في الوقت الذي أخذتهم السيوف من سائر نواحيهم، فلم يفلت منهم غير يسير، بينما كان الباقون بين قتيل وجريح، وكان ضمن القتلى روجر صاحب أنطاكية الذي كان قد تعجل لقاء المسلمين قبل وصول قوات بيت المقدس وطرابلس وغيرها، ووقع في الأسر نيفاً وسبعين من فرسان الصليبيين ومقدميهم، وحاولوا أن يفتدوا نفوسهم بمبلغ ثلاثمائة ألف دينار فلم يقبل منهم نجم الدين إيلغازي بل أمر بقتلهم جميعاً، وقد عرفت هذه الواقعة عند المؤرخين اللاتينيين، ومن نقل عنهم من المؤرخين المحدثين باسم: "ساحة الدم" لكثرة ما قتل فيها من الصليبيين والتي لم يقتل فيها من المسلمين سوى العدد القليل.
* الأبعاد التي حققها الانتصار على الصليبيين في معركة ساحة الدم: إن أهمية ما حل بالصليبيين لم يقف عند حد النصر العسكري الذي حققه نجم الدين إيلغازي عليهم، بل تعداه إلى أنه قد صاحب هذا النصر قيام جبهة إسلامية متحدة من الأمراء المسلمين في الشام والجزيرة، إضافة إلى أنها جعلت حلب في منأى عن أخطار الصليبيين خصوصاً بعد استيلاء نجم الدين إيلغازي على حصن قريب من الأثارب في السنة نفسها، فضلاً عن أنها كانت كارثة فادحة حرمت أنطاكية من زعيمها روجزر وجيشها، مما جعل السريان والأرمن بأنطاكية يتشككون في موقعهم إلى جانب الصليبيين، وهذا على ما يبدو ما دفعهم إلى التآمرللخلاص من الصليبيين الغربيين فيما بعد، وذكر ابن العديم أن نجم الدين إيلغازي نزل بعد انتهاء المعركة إلى خيمة روجر ليسلم إليه المسلمون الغنائم التي حصلوا عليها، ولكنه رد جميع الغنائم إلى المقاتلين ولم يأخذ منهم إلا سلاحاً يهديه لملوك الإسلام ليبعث في نفوسهم حب الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين، واستطاع إيلغازي أن يحقق سلسلة من الانتصارات في شمال الشام هيأت للمسلمين جواً من الهدوء والاستقرار، فقد استطاع المسلمون أن يلحقوا بالنجدة الصليبية التي أتت بزعامة بلدوين ملك بيت المقدس لنجدة روجر صاحب أنطاكية هزيمة ساحقة، ولم يكتف نجم الدين إيلغازي بهذا بل اجتمع في أرتاح بحليفه طغتكين واتفقا على مهاجمة الأثارب وزردنا، فاستطاعا الاستيلاء عليها من الصليبيين، ثم سار إيلغازي إلى دانيث بنفر قليل من المسلمين والتقى ببلدوين ملك بيت المقدس وروبرت صاحب زردنا، ودارت بين الطرفين معركة في جمادي الأولى من السنة "513ه/1119/" أسفرت عن انتصار نجم الدين إيلغازي وهزيمة الصليبيين الذين احتموا بحصن هاب بعد مطاردة نجم الدين لهم، ثم عاد نجم الدين إيلغازي إلى حلب بينما التقى رجاله في طريق عودتهم بصاحب زردنا وبرت الأبرص وبصحبته قوة من الصليبيين، فهاجمتهم قوة إيلغازي مما اضطر من سلم من الصليبيين إلى العودة إلى حصن هاب، في الوقت الذي وقع فيه الأبرص أسيراً في أيدي المسلمين فحملوا إلى إيلغازي بحلب، وأنفذه بدوره إلى طغتكين بدمشق حيث قتله صبراً، وفي أواخر جمادي الأولى سنة "513ه/1119م" غادر إيلغازي حلب إلى ماردين بسبب الضائقة المالية التي مر بها، إضافة إلى أن حلب كانت من الضعف بحيث جعلته لا يستطيع البقاء فيها.
* حصار أنطاكية وعقد الهدنة مع ملك بيت المقدس: وبالرغم من انشغال نجم الدين إيلغازي ببعض الأمور الإدارية في ماردين، فقد جمع جيشاً من التركمان عبر بهم الفرات إلى بلاد الشام في سنة "514ه/1120م" واجتمع طغتكين وسارا إلى أنطاكية حيث ضرب عليها حصاراً، فلم يتمكنا منه، فدخلا إلى قنسرين، وحاصراها يوماً وليلة، ولم ينالا منها شيئاً، وعندما أشار ظهير الدين طغتكين على صاحبه برفع الحصار عنها وأن يعود كل منهما إلى بلده، فقبل نجم الدين إيلغازي مشورة صاحبه، وعاد إلى حلب بعد أن أدرك ما عليه بيت المقدس بلدوين الثاني على أن يكون للصليبيين المعرة وكفر طاب والبارة وضياع من جبل السماق، وعلى أن يكون أمد هذه الهدنة نهاية السنة.
* نقض الهدنة:
لم يتقيد الصليبيون بهذه المعاهدة، فقد أغار جوسلين صاحب تل باشر في السنة نفسها"514ه/1120م" على بعض البلاد التابعة لحلب، مما اضطر أهل حلب إلى إرسال احتجاج شديد اللهجة إلى بلدوين الثاني ملك بيت المقدس يخبرونه فيه باعتداءات جوسلين على المسلمين، ولكنه رد عليهم بقوله: مالي على جوسلين يد.
ولم يقف الصليبيون عند هذا الحد بل أغار الصليبيون بأنطاكية على بلد شيزر وأسروا جماعة من المسلمين وطالبوا أمي شيزر العربي أبو العساكر سلطان بن منقذ ببعض المطالب التعسفية، مما اضطره إلى مصالحتهم على مال يدفعه إليهم.
وبالإضافة إلى ذلك فقد استغل الصليبيون فرصة خلو حلب من إيلغازي فشنوا في صفر من سنة"515ه/1121م" هجوماً على الأثارب وأحرقوا ما بها من الدور والغلال وأغاروا على حلب نفسها، وسار بلدوين الثاني وفرض عليها حصاراً شديداً أدى إلى وقوع خمسين أسيراً من أهلها في أيديهم ونجح الحلبيون في استنقاذ إخوانهم وأجبروهم على التراجع عنها إلى أنطاكية وعلى ما يبدو فإن نجم الدين إيلغازي النائب عنه في حلب يأمره بعقد صلح مع الصليبيين، حصل الصليبيون بموجبه على سرمين وبلدة ليلون وبعض الجهات الزراعية المحيطة بحلب، والأثارب.
* تمرد سليمان بن إيلغازي على أبيه:
وعلى الرغم من أن الصلح الذي عقده سليمان ابن إيلغازي مع الصليبيين لم يكن في صالح المسلمين، فإن سليمان بن إيلغازي لم يسع إلى علاج ما استجد بحلب من الفوضى والاضطراب، بل أعلن عصيانه على والده وأعلن استقلاله بحلب، وقد شجعت هذه الخطوة من قبل سليمان بن إيلغازي الصليبيين على مضايقة حلب والاستيلاء على بعض المواقع المحيطة بها في جمادى الآخرة من سنة"515ه/1121م"، ومطالبة صاحبها سليمان بالتنازل عن الأثارب لبلدوين الثاني ملك بيت المقدس، ولكن سكان الأثارب من المسلمين رفضوا الخضوع للصليبيين، الأمر الذي أجبر بلدوين على التراجع إلى أنطاكية ومنها إلى بيت المقدس.
* القضاء على التمرد:
وأما نجم الدين إيلغازي، فإنه ما إن سمع بعصيان ابنه بحلب حتى قدم إليها على وجه السرعة ، فعاقب من كان وراء عصيان ابنه، فلما رأى سليمان ما حلَّ بأعوانه من عقاب شديد خاف على نفسه وهرب إلى دمشق، وطلب من صاحبها طغتكين حق اللجوء، ولما تم لإيلغازي القضاء على الفتنة بحلب استناب بها ابن أخيه بدر الدولة سليمان ابن عبد الجبار بن أرتقن، وعقد هدنة جديدة مع الصليبيين لمدة سنة كاملة، وكان هدف إيلغازي من عقد تلك الهدنة مع الصليبيين هو كسب الوقت حتى يتمكن من العودة إلى ديار بكر وحشد ما يمكن حشده من قوات ليعيد الكرة على الصليبيين، إضافة إلى خوفه من قيام الصليبيين بغارة على حلب فلا يستطيع ابن أخيه صدهم، وفي ماردين استطاع نجم الدين إيلغازي أن يحشد أكبر عدد من التركمان ثم سار بهم إلى بلاد الشام في شهر ربيع الآخر سنة "516ه/1122م"، مستغلاً في ذلك الشقاق الذي حصل بين بلدوين ملك بيت المقدس ويونز صاحب طرابلس، ولكن نجم الدين إيلغازي لم يستطع أن يحقق نصراً حاسماً على الصليبيين، وبالرغم من انضمام بلك بن بهرام بن أرتق وظهير الدين طغتكين إلى جانبه غير أنه لم يمكّن الصليبيين بأن يمدوا نفوذهم وسيطرتهم على حلب.
* وفاة إيلغازي وأثر ذلك على المسلمين:
في شهر رمضان من سنة "516ه/1122م" أحس إيلغازي بتدهور صحته فعاد إلى ميافارقين حيث وافته منيته هناك، وبقدر ما كانت وفاة نجم الدين إيلغازي خسارة فادحة للمسلمين في بلاد الشام والجزيرة عامة، فإن المصيبة كانت أعظم على أهل حلب الذين عظمت عليهم وفاته، لأن نجم الدين إيلغازي كان قد قطع أمل زعماء الصليبيين في الاستيلاء عليها، ولم تقف أهمية وفاة نجم الدين إيلغازي إلى هذا الحد، بل أدت إلى أن إمارته قد تفككت وقسمت بين أولاده حسام الدين تمرتاش الذي حصل على ماردين، وابنه سليمان الذي حصل على ميافارقين، بينما بقيت حلب من نصيب ابن أخيه سليمان بن عبدالجبار بن أرتق، واحتفظ بلك بن بهرام بن أرتق بقلعة خرتبرت وضم إليها حران فيما بعد، ويضاف إلى ذلك أن حلب التي كانت تعتمد على عساكر التركمان الذين كان يحشدهم إيلغازي من شمال الجزيرة قد افتقرت هذا العنصر البشري الذي رجّح كفة المسلمين على الصليبيين في عهد إيلغازي مما جعلها عرضة لغارات الصليبيين، وضعف مركز صاحبها سليمان بن عبدالجبار بن أرتق عن دفع الصليبيين الذين استغلوا وفاة نجم الدين وأغاروا قيادة بلدوين الثاني ملك بيت المقدس على بزاعة وبالس على نهر الفرات، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل استطاع الملك الصليبي الاستيلاء على قلعة البيرة، حتى أصبحت حلب محاطة بالصليبيين من جميع الجهات، مما حتم على سليمان بن عبدالجبار أن يعقد مع الصليبيين صلحاً سنة "517ه/1123م" تنازل بموجبه لهم عن حصن الأثارب.
صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.