;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس ..الحلقة السابعة عشرة 1148

2008-09-11 03:19:41

المؤلف/ علي محمد الصلابي

ج- أعمال استفزازية صليبية ضد أهالي حلب:

بدأ الغزاة بشن هجماتهم الدورية على حلب، وقطعوا أشجارها، وأفسدوا بساتينها وزروعها في محاولة لتدمير اقتصادياتها التي تعتمد على الزراعة بالدرجة الأولى، كما قاموا بتخريب مشهد المسلمين ونبشوا قبور موتاهم، وسلبوا أكفانهم، وجعلوا من توابيتهم أوعية يتناولون بها طعامهم وعمدوا على من لم تتقطع أوصاله منهم فربطوا في أرجلهم الحبال وسحبوهم أمام أنظار المسلمين المحاصرين في حلب، يصيحون: هذا نبيكم محمد !! وأخذت جماعة منهم مصحفاً من المشاهد المحيطة بحلب وصاحوا: يا مسلمين أبصروا كتابكم !! ثم ثقبه أحدهم بيده ثم شده بخيطين وربط بأسفل برذون قريب فراح هذا يروث عليه. . وكلما أبصر صاحبه الروث يتساقط على المصحف الشريف صفق بيديه وضحك عجباً وزهواً.

د- المقاومة الحلبية الشعبية:

لم يكتف الصليبيون بهذا بل راحوا يمثلون بكل من يقع بأيديهم من المسلمين، فاضطر هؤلاء إلى مجاراتهم بالمثل، وكان يقود المقاومة الإسلامية القاضي أبو الفضل بن الخشاب الذي كان قد تمرّس على أعمال الدفاع منذ بداية العقد، وكان يملك شعبية واسعة في حلب، فأصدر أوامره بتوجيه ضربات مباشرة في قلب معسكرات الغزاة فكانت جماعة من مقاتلي حلب تخرج سراً لتغير على هذه المعسكرات، فتقتل وتأسر وتقفل عائدة من حيث أتت. . .

وفي الوقت نفسه كانت الرسال تتردد بين الطرفين للتواصل إلى اتفاق ولكن دون جدوى.

ه- استنجاد أهالي حلب بأمير ديار بكر:

ضاق الأمر بالمسلمين في حلب واعتصرهم الإرهاق والجوع، فاتفق أميرهم بدر الدين الأرتقي جماعة من كبار المسؤولين على إرسال وفد من زعماء حلب إلى ديار بكر للاستنجاد بأميرها حسام الدين تمرتاش، وتسلَّل أعضاء الوفد الثلاثة ليلاً ومضوا إلى ماردين - قاعدة ديار بكر - ليستغيثوا بأميرها علَّه يولي اهتماماً لما تعانيه حلب من ويلات، وعندما وصلوا إلى هناك كان حسام الدين منهمكاً في الاستيلاء على بلاد أخيه سليمان الذي كان توفي في تلك السنة، الأمر الذي دفعه إلى إهمال شؤون حلب وعدم الاستجابة لمطالب وفدها، وقد بقي أعضاء هذا الوفد فترة من الوقت في ماردين يحثون حسام الدين على التوجه على حلب لإنقاذها من الحصار، وهو يعدهم ويمنيهم ويماطلهم دون أن يقدم على أي إجراء، فأعلموه أنهم لا يريدون سوى أن يصل بنفسه، والحلبيون يكفونه أمر الغزاة إلا أن مساعيهم فشلت، وفي نهاية المطاف تمكن الوفد

الخلاص من مراقبة حسام الدين التي فرضها عليهم حتى لا يغادرون ماردين للاستنجاد بأمير آخر، خوفاً من ازدياد ضعف مركزه وفقدانه مدينة حلب، واستطاع الوفد الاتصال بوالي الموصل السلجوقي آقسنقر البرسقي.

و- آقسنقر البرسقي واستجابته لاستغاثة أهل حلب:

وكان البرسقي حيذاك مريضاً، وكان الضعف قد بلغ منه مبلغاً عظيماً، فمنع الناس الدخول عليه إلا الأطباء ووصل إلى دبيس من أخبره بذلك، فأعلن البشائر في عسكره وارتفع عنده التكبير والتهليل، ونادى بعض أصحابه أهل حلب: قد مات من أملتم نصره، فكادت أنفس الحلبيين تزهق، وعندما استؤذن للوفد الحلبي بالدخول أذن البرسقي لهم، فدخلوا عليه واستغاثوا به وشرحوا له الأخطار التي تحيق بحلب ومدى الصعوبات التي يعانيها أهل المدينة، فأجابهم الرجل: إنكم ترون ما أنا الآن فيه من المرض ، ولكن قد جعلت لله عليَّ نذراً لئن عافاني من مرضي هذا لأبذلن جهدي في أمركم والذب عن بلدكم وقتال أعدائكم.

ولم تمض ثلاثة أيام على مقابلته تلك حتى فارقته الحمى، وتماثل للشفاء، وسرعان ما ضرب خيمته بظاهر الموصل، ونادى قواته لأن تتأهب لقتال الصليبيين وإنقاذ حلب، وفي غضون أيام معدودات غدا جيشه على أهبة الاستعداد فغادر الموصل متجهاً إلى الرحبة، وأرسل من هناك إلى طغتكين أمير دمشق وخيرخان أمير حمص يطلب منهما مساعدته في إنجاز مهمته، فلبى هذان الأميران دعوته وبعثا عساكرهما للانضمام إلى جيش البرسقي الذي كان قد تحرك آنذاك صوب بالس القريبة من حلب وأرسل من هناك إلى مسؤوليها وشرط عليهم - مسبقاً - تسليم قلعة حلب لنوابه لكي يحتمى بها في حالة انهزامه أمام الصليبيين فأجابوه إلى طلبه، وما إن استتب الأمر لؤلاء النواب واطمأن الرجل إلى وجود حماية أمنية في حالة تراجعه، حتى بدأ زحفه صوب مواقع القوات الصليبية التي تطوق حلب.

وصلت قوات طلائع البرسقي حلب يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي الحجة من سنة "518ه" وما إن اقترب البرسقي بقواته المنظمة حتى أسرع الصليبيون في التحول إلى منطقة أفضل من الناحية الدفاعية، فعسكروا في جبل جوسن على الطريق إلى أنطاكية، وهكذا غدوا في حالة الدفاع بعد أن كانوا مهاجمين، وخرج الحلبيون إلى خيامهم فنالوا منها ما أرادوا، بينما اتجه قسم آخر منهم لا ستقبال البرسقي والاحتفاء به لدى وصوله، وقد أدرك الرجل ما يرمي إليه الصليبيون بانسحابهم واتخاذهم موقفاً دفاعياً، فلم يتسرع بمهاجمتهم قبل أن يعيد تنظيم قواته من جديد، خوفاً من نزول هزيمة فادحة بعساكره قد تعرض حلب للسقوط، وأرسل طلائعه الكشفية لرد القوات المتقدَّمة إلى معسكراتها في حلب، وقال موضحاً خطته هذه: ما يؤمننا أن يرجعوا

علينا ويهلك المسلمون؟ ولكن قد كفى الله شرهم، فلندخل إلى البلد ونقويه وننظر إلى مصالحه، ونجمع لهم إن شاء الله، ثم نخرج بعد ذلك إليهم.

ومن ثم دخل البرسقي حلب، وبدأ بحل مشاكلها ورفع مستواها الاقتصادي والاجتماعي، فنشر العدل وأصدر مرسوماً برفع المكوس والمظالم المالية وإلغاء الصادرات وعمَّت عدالته الحلبين جميعاً بعد ما منوا به من الظلم والمصادرات وتحكم المتسلطين طيلة فترة الحصار الصليبي، لوم يكتف البرسقي بذلك، بل قام بنشاط واسع لجلب المؤن والغلال إلى المدينة كي يخفف من حدة الغلاء، ويقضي على الضائقة التي يعانيها الحلبيون، وما لبث النشاط الزراعي في منطقة حلب أن عاد إلى حالته الطبيعية، حيث استأنف المزارعون العمل في الأراضي التي شردوا عنها، كما عاد النشاط التجاري إلى سابق عهده اعتماداً على ما تمتعت به المنطقة من أمن واستقرار، وهكذا استطاع البرسقي أن يحكم الطوق الذي أحاط به الصليبيون حلب، وأن يخلَّص هذا المواقع الهام من أخطر محنة جابهته طيلة الحروب الصليبية ويوحده مع الوصول لأول مرة منذ بدء هذه الحروب، الأمر الذي أتاح لهذا القائد ولعماد الدين زنكي من بعده أن يفيد من هذه الوحدة لتحقيق انتصارات عديدة ضد الغزاة، يقول المؤرخ الإنكليزي المعاصر ستيفن رنسمان:. . . سرعان ما غدت الإمارة التي شكلها البرسقي نواة لما قام بعدئذ بالشام من دولة إسلامية متحدة زمن الزنكيين والأيوبيين والمماليك، ولم يكن الصليبيون الذين وحد بينهم نظام الملكية في بيت المقدس ، يواجهون قبل ذلك سوى بلاد تنازعتها في الشام قوى عديدة وإقطاعات متفرقة الإسلامية التي قدر لها أن تقضي في يوم من الأيام على قوة الصليبيين في الشام.

ونلاحظ حرص عامَّة المسلمين على الاندماج في كيان إسلامي سني بغض النظر عن القيادة سواء كانت تركية أو عربية أو غيرها وإنما المهم من يقوم بواجب الدفاع عن الإسلام والمسلمين تحت راية أهل السنة.

ز- مقتل البرسقي:

في سنة "520ه" الثامن من ذي القعدة، قتل قسيم الدولة آقسنقر البرسقي صاحب الموصل، بمدينة الموصل، قتلته الباطنية يوم جمعة بالجامع، وكان يصلي الجمعة مع العامة، وكان قد رأى تلك الليلة في منامه أن عدة من الكلاب ثاروا به، فقتل بعضها، ونال منه الباقي ما آذاه فقص رؤياه على أصحابه، فأشاروا عليه بترك الخروج من داره عدة أيام فقال: لا أترك الجمعة لشيء

أبداً، فغلبوا على رأيه، ومنعوه من قصد الجمعة، فعزم على ذلك، فأخذ المصحف يقرأ فيه ، فأول ما قرأها "وَكَانّ أّمّرُ اٌللَّهِ قَدَراً مَّقدُوراً" [الأحزاب: 38]، فركب إلى الجامع على عادته، وكان يصلي في الصف الأول، فوثب عليه بضعة عشر نفساً عدة الكلاب التي رآها، فجرحوه بالسكاكين، فجرح هو بيده منهم ثلاثة وقتل رحمه الله، وكان مملوكاً تركياً خيراً، يحب أهل العلم والصالحين، ويرى العدل ويفعله، وكان من خير الولاة يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ويصلي من الليل متهجداً.

ح- الباطنية من أخطر معوقات حركة الجهاد:

أثبت الباطنية عداءهم الكامل لقادة الجهاد الإسلامي في ذلك العصر، وكأن خناجرهم المسمومة كانت تشق للصليبيين طريقاً نحو تثبيت أقدامهم في بلاد الشام والجزيرة على حساب المسلمين، وهكذا أثبتت وقائع التاريخ كيف التقى قادة الجهاد الإسلامي في ذلك العصر في بعض الأحيان - في الشهادة - فمن قبل اغتيل شرف الدين مودود، والآن نجد آق سنقر البرسقي يلقى نفس المصير، وقد عكس ذلك كله: أن مسلك الإسماعيلية النزارية في ذلك الحين كان من أخطر معوقات حركة الجهاد ضد الغزاة، نظراً لوجود عدوين في وقت واحد أمام القيادات السنية على نحو عكس المشاق البالغة التي واجهت أولئك القادة في الدفاع عن عقيدة الأمة ودينها وأعراضها وأوطانها.

هذا وإن كان آقسنقر البرسقي قد استشهد فإن قائمة المجاهدين عامرة ومتأهبة للقتال في سبيل الله، ففي ربيع الآخر من عام "521ه/1127م" عهد السلطان محمود إمارة الموصل إلى المسلمين والصليبيين، وقد بدأ عماد الدين بتكوين جبهة إسلامية متحدة ضد الصليبيين فسيطر على القلاع القريبة منه مثل جزيرة ابن عمر ونصيبين وسنجار وبلاد الخابور وحران، ثم اتجه تفكيره بعد ذلك للاستيلاء على حلب، أكبر المراكز الإسلامية بشمال الشام، وواتته الفرصة عندما علم باضطراب الأحوال بها وتهديد كل من جوسلين الثاني صاحب الرها وبوهيمند الثاني صاحب أنطاكية، فسارع عماد الدين زنكي إليها فلقيه أهلها بالبشر ودخل البلد في يوم الاثنين 13 جمادي الآخرة سنة "522ه/يونيو 1128م"،واستولى عليه ورتب أموره وأقطع أعماله الجنود والأمراء، ويؤكد ابن الأثير على أهمية هذا الفتح بقوله: ولولا أن الله تعالى من على المسلمين بولاية الشهيد لكان الفرنج استولوا على الشام جميعه.

صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.

ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.

 

 

 

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد