المؤلف/ علي محمد الصلابي
خامساً: أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها:
استطاع عماد الدين زنكي أن يحقق قسطاً كبيراً من برنامجه، وأن يكون لنفسه مكانة خاصة في التاريخ الإسلامي كسياسي بارع وعسكري متمكن ومسلم واع أدرك الخطر الذي أحاط بالعالم الإسلامي من قبل الصليبيين، فقد استطاع أن يوجه الظروف التاريخية القائمة لصالح المسلمين، وذلك بتجميعه القوى الإسلامية بعد القضاء على عوامل التجزئة والانقسام وتوحيد المدن والإمارات المنفصلة في نطاق دولة واحدة، استطاع بمقدرته أن يستغل أقصى ما يمكن أن تقدمه من إمكانات في سبيل تحقيق برنامجه المزدوج من تشكيل الجبهة الإسلامية وضرب الصليبيين، وقد فصلت ذلك في حديثي عن عماد الدين زنكي في كتابي عن الدولة الزنكية.
ويعتبر فتح الرها من أهم إنجازات عماد الدين زنكي، فقد كانت إمارة الرها الصليبية أولى الإمارات التي تأسست في الشرق سنة "491ه/1097م" بزعامة بلدوين الأول الذي استمر في حكم هذه الإمارة حتى سنة "494ه/1100م" حين انتقل إلى حكم بيت المقدس عقب وفاة جورفري ملك بيت المقدس، وقد تميزت الرها عن بقية الإمارات الصليبية في بلاد الشام وذلك لقربها من الخلافة العباسية ثم لوقوفها في وجه التركمان الذين كانت تعج بهم منطقة الجزيرة عقب التفكك الذي أصاب السلاجقة في بلاد الشام والعراق عقب وفاة السلطان ملكشاه "485ه/1092م"، ولم تقتصر أهمية الرها على موقعها الإستراتيجي وكونها خط الدفاع الأول عن بقية الإمارات الصليبية في بلاد الشام، بل إنها شكلت خطراً أساسياً على خطوط المواصلات الإسلامية بين الشام وآسيا الصغرى والعراق ومنطقة الجزيرة، وعلى الرغم من أن الرها لم تقع في نطاق الأراضي المقدسة في فلسطين، فقد عدها الصليبيون من أشرف المدن عندهم بعد بيت المقدس وأنطاكية والقسطنطينية، فقد كانت وفيرة الثروات ساعدت أمراء الرها على توسيع رقعتهم فامتدت إمارة الرها الواقعة على ضفتي نهر الفرات من راوندان وعين ثانية غرباً إلى مشارق ومن بهنسي وكيسوم شمالاً إلى منبج جنوباً، واكتسبت الرها أهمية بما تهيأ لها من حكام اتصفوا بالقوة والشجاعة واستطاعت الصمود في وجه المقاومة الإسلامية على الرغم من أن الرها كانت تعاني من نقطتين ضعف واضحتين أحدهما: الحدود الطبيعية إذ لا توجد لها موانع طبيعية تحميها وتكسبها وقاية ومناعة، وثانيها: عدم وجود تجانس بين سكانها إذ كانوا خليطاً من المسيحيين الشرقيين "السريان والأرمن اليعاقبة" ومن الصليبيين الغربيين فضلاً عن المسلمين الذين تركزوا في مدن بكاملها كسروج والبيرة التي خضعت للصليبيين، ولم تقتصر أهمية الرها على الجانب الصليبي، بل كانت في نظر المسلمين من أهم المواقع التي يجب السيطرة عليها، فقد ذكر ابن الأثير مكانتها في بلاد الجزيرة بسبب موقعها بين الموصل وحلب، ووصفها بأنها من الديار الجزرية عينها ومن البلاد الإسلامية حصنها مما جعل القوى الإسلامية سواء في العراق أو الشام ترغب في السيطرة عليها.
1- أوضاع إمارة الرها الداخلية:
كانت ظروف الرها الداخلية مؤاتية لعماد الدين زنكي، إذ اتصف أميرها جوسلين الثاني بضعف الشخصية وانسياقه وراء العواطف والأهواء وعدم امتلاكه مقدرة سياسية، وبعد نظر، الواقع أن جوسلين الثاني تاثر في نشأته بالميول الأرمينية بفعل أن والدته كانت منهم، فترعر وفي نفسه ميل إلى الأرمن وغيرهم من السكان الأصليين من الطوائف النصرانية الشرقية، وفضلهم على النصارى الغربيين الأمر الذي أثار الفرسان الصليبيين وأوجد نوعاً من عدم الاستقرار داخل الإمارة.
وعُرف عن صاحب الرها أنه كان من ذلك النوع الذي يؤثر الراحة والعافية، حتى أنه في الوقت الذي هاجم فيه عماد الدين زنكي إمارته اختار أن يترك مدينته ليقيم في تل باشر على الضفة الغربية للفرات، وإذا أضفنا إلى ذلك أن المسلمين أحاطوا بهذه الإمارة من كل جانب، وفصلها نهر الفرات عن بقية الممتلكات الصليبية في بلاد الشام، لا ستطعنا أن نكوّن فكرة عامة عن العوامل التي ساعدت على سقوطها، والجدير ذكره أن هذه الإمارة شكَّلت خطراً كبيراً على المواصلات الإسلامية بين حلب والموصل وبغداد وسلاجقة الروم في آسيا الصغرى، كما كانت عائقاً حال دون قيام الوحدة الإسلامية في بلاد الشام الجزيرة بسبب تدخلها المستمر لصالح خصوم عماد الدين زنكي من الأمراء المسلمين في المنطقة، فكان فتحها ضرورة سياسية وعسكرية واقتصادية ودينية.
2- عمليات الفتح :
استغل عماد الدين زنكي الظروف السابق ذكرها وسعى إلى تدبير خدعة تتيح له تحقيق هدفه من أقصر طريق.
وكان يلعم أنه لن يستطيع أن ينال غرضه من الرها دام جوسلين وقواته موجودين بها ، وهكذا انصب اهتمامه على إيجاد وسيلة تدفع غريمة إلى مغادرة مقر إمارته، فاتجه إلى آمد، وأظهر أنه يعتزم حصارها، وأنها هدفه دون غيرها، وبث عيونه - في الوقت نفسه - في منطقة الرها ليطلعوه - أولاً بأول - على تحركات أميرها الذي ما إن رأى انهماك زنكي بجيوشه في ديار بكر وعدم تفرغه للهجوم على المواقع الصليبية، حتى غادر مقر إمارته على رأس قواته، بعد أن اتخذ إجراءاً احتياطياً بأن عقد هدنة مع فرار أرسلان صاحب حصن كيفا الذي كان قد التجأ إليه بعد تهديد زنكي لإمارته، ومن ثم اتجه إلى تل باشر الواقعة على الضفة الغربية للفرات، كي يتخلص هناك، من كل مسؤولية، ويتفرغ للملذاته، تاركاً حماية الرها لأهاليها من الأرمن والسريان والنساطرة واليعاقبة، وكان معظمهم من التجار الذين لا خبرة لهم بشؤون الحرب والقتال بينما تولى الجند المرتزقة مهمة الدفاع عن القلعة، جاءت عيون عماد الدين زنكي لتطلعه على النبا الذي كان يتحرق إليه، فأسرع بالتوجه إلى الرها مستعينا على السرعة بركوب النجائب الإبل مستنفراً كل قادر على حمل السلاح من مسلمي المنطقة للجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله، وما لبث أن انهالت عليه جموع المتطوعين، فطوق بهم الرها من جهاتها الأربع، وحاول في البدء أن يتوسل بالطرق السلمية عليها تحقق هدفه دون اضطرار إلى رفع السيف، فراسل أهالي الرها، باذلاً لهم الأمان، طالباً منهم أن يفتحوا له الأبواب قبل أن يجد نفسه مضطراً إلى تدمير أسوار بلدهم وإخلاء دياره، إلا أنهم أبوا قبول الأمان، وحينئذ اشتد زنكي في التضييق على الحصن مستخدماً آلات الحصار الضخمة التي جلبها معه لتدمير أسواره، منعاً أن تتاح الفرصة لتجمع الصليبيين والتقدم لإنقاذ هذا المواقع الخطير، وأرسل جوسلين لدى سماعه نبأ الهجوم - في طلب نجدة مستعجلة من كافة الإمارات الصليبية في الشام، فلم يستجب له سوى "مليزاند" الوصية على بيت المقدس، التي وصلت نجدتها بعد فوات الأوان، كما أنه قام بمحاوله للدخول إلى المدينة، أو إرسال نجدة لتعزيز دفاعها فحيل بينه وبيت ذلك، وفي السادس والعشرين من جمادى الآخرة "539ه" وبعد مرور ثمان وعشرين يوماً على بدى الحصار انهارت بعض أجزاء الصحن، إثر الضرب المركز الشديد الذي تعرضت له ، فاجتاحت قوات المسلمين المدينة، ثم م البثت القلعة أن استسلمت بعد يومين، وقام القس اليعقوبي برصوما بإجراءات تسليم الرها لزنكي.
3- سياسة عماد الدين زنكي في الرها:
رأى عماد الدين زنكي، بعد أن فتح الرها، أن ذلك البلد لا يجوز في السياسة تخريب مثله وأصدر أوامره إلى جنده بإيقاف أعمال القتل والأسر والسلب، وإعادة ما استولوا عليه من سبي وغنائم، فإعيدوا ولم يفقد إلا الشاذ النادر، وأعقب ذلك بإصدار أمر آخر بالإسراع في تنظيم ما اضطرب من أمور الرها، وتعمير ما تهدم خلال أسابيع طويلة من القتال ورتَّب من رآه أهلاً لتدبير أمرها وحفظها والاجتهاد في مصالحها، ووعد أهلها بإجمال السيرة وبسط العدالة مستهدفاً من وراء ذلك استمالة سكانها الأصليين من المسيحيين الشرقيين ضد الصليبيين الكاثوليك، الأمر الذي يؤكده قيامه بتدمير عدد من الكنائس الكاثوليكية، واحتفاظه بكنائس الشرقيين.
4- العوامل التي ساعدت عماد الدين على استعادة الرها:
هناك العديد من العوامل التي ساعدت عماد الدين على تحرير الرها منها:
- تنامي حركة الجهاد الإسلامية حتى عصره وحصاد تجربة المسلمين في ذلك المجال، فلا ريب في أن التجارب السابقة أثبتت أن إمارة الرها مرشحة أكثر من غيرها لكي تكون أولى الإمارات الصليبية المعرضة للسقوط في أيدي قادة الجهاد الإسلامي حينذاك، وقد أجهدها أمر الإغارات المستمرة من جانب أتابكة الموصل على نحو خاص طوال ما يزيد على أربعة عقود من الزمان على نحو مثّل موتاً بطيئاً لها إلى أن تم الإجهاز عليها في العام المذكور.
- ويضاف إلى ذلك براعة عماد الدين زنكي العسكرية الذي فاجأ تلك الإمارة الصليبية بالهجوم، بعد أن اطمأن الصليبيون إليه وتصوروا أنه لن يهاجمهم فاستغل فرصة غياب أميرها جوسلين الثاني عنها ووجَّه لها ضربته القاضية التي انتهت بإسقاطها، وهكذا أثبت ذلك القائد المسلم الكبير أنه اختار التوقيت الملائم لذلك العمل العسكري العظيم.
- زد على ذلك: أن الخلاف الواقع بين إماراتي الرها وأنطاكية أَثَّربدوره على إمارة الرها، وأدى إلى إجهادها واستهلاكها سياسياً وعسكرياً، على نحو أثبت أن الخلافات التي كانت تحدث بين القيادات الصليبية أثَّرت بدورها على كياناتهم السياسية وها هي - لحسن الحظ - إمارة الرها تدفع الثمن بأن سقطت في قبضة من استحقها من قادة الجهاد الإسلامي في ذلك الحين.
- ولا نغفل - من ناحية أخرى شخصية أمير الرها جوسلين الثاني الذي لم يكن على نفس القدر من الكفاءة السياسية والعسكرية التي اتصف بها والده جوسلين الأول، وكان أميل إلى حياة الخلاعة والمجون والسعي الحثيث إلى الملذات، بل إن كثيراً ما غادرت مدينة الرها فيه المسلمون تلك الزاوية فأحسن قائدهم الإفادة منها وهاجم الرها وقت أن غاب عنها جوسلين الثاني، فأصابها في مقتل.
- ويبدو أن الجيل الصليبي الذي حل بعد الجيل الأول الذي أسس الكيان الصليبي وحافظ عليه، لم يكن قادراً على الحفاظ على ما شيده السابقون، بل لم يكن يدرك أهمية دوره التاريخي في ذلك الموقع الشديد الحساسية الذي أحاطه المسلمون من كل جانب، وهكذا شارك جوسلين الثاني - دون أن يدري - في إنجاح حركة الجهاد الإسلامية جينذاك قيادة قائدها الكبير عماد الدين زنكي.
- وعلى أية حال: من الممكن أن من المؤرخين الغربيين من حاول إظهار عوامل الضعف الداخلي في إمارة الرها، وجعل تلك العوامل وحدها هي التي أدت إلى إسقاطها، وهدفهم من وراء ذلك إضعاف فعاليات المسلمين السياسية والحربية، غير أن المنطق التاريخي يدعونا إلى تصور أن العوامل الداخلية تعاونت معاً من أجل صنع انتصار عام "539ه/ 1144م"، ومهما كان أن شأن عوامل " النحر والانتحار" الداخلية ونتائجها في الرها فإنها ما كانت لتسقط دون الفعاليات العسكرية لقائد موهوب مثل عماد الدين زنكي، وجنوده من خلفه.
صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.