المؤلف/ علي محمد الصلابي
سادساً: حصيلة الدور السياسي والعسكري الذي لعبه عماد الدين على مسرح التاريخ الإسلامي:
يمكن القول بأن عماد الدين زنكي استطاع أن يحقق قسطاً كبيراً من برنامجه وأن يكون لنفسه مكانة خاصة في التاريخ الإسلامي كسياسي بارع وعسكري متمكن ومسلم واع أدرك الخطر الذي أحاط بالعالم الإسلامي من قبل الصليبيين، فقد استطاع أن يوجه الظروف التاريخية القائمة لصالح المسلمين، وذلك بتجميعه القوى الإسلامية، بعد القضاء على عوامل التجزئة والانقسام وتوحيد المدن والإمارات المنفصلة في نطاق دولة واحد استطاع بمقدرته أن يستغل أقصى ما يمكن أن تقدمه من إمكانات تستطيع أن توقف الزحف الصليبي، ومن ثم تبدأ بالهجوم المنظم على قواعد الصليبيين.
هذه العوامل التي دفعت زنكي إلى اتباع سياسة الهجوم، والتي تخللتها أحياناً علاقات سلمية ومعاهدات استدعتها طبيعة الظرف الذي كان يمر فيه، وفي نفس الوقت عمل زنكي على تأمين حدود إمارته باتجاه الشرق والشمال الشرقي، حيث يشكل الأكراد والتركمان في هذه المناطق عناصر خطر بالغة ضد إمارته، لا سيما عند تأزم علاقاته بالإمارات الغربية، أو عند توغله بعيداً عن مقره في الموصل.
ومن ثم تبدو لنا واضحة أهمية الدور الذي لعبه زنكي في التاريخ الإسلامي، إذ يعتبر أول قائد قام بتجميع القوى الإسلامية وفق برنامج معين ليجابه بها تزايد الخطر الصليبي الذي لم توقفه المحاولات الجدية التي سبقت زنكي، وبخاصة تلك التي تمت على يد كل من مودود بن التونتكي "502 - 507ه" وإيلغازي وبلك الأرتقيين "512- 518ه" ومن المرجح أنه لو تمكن زنكي من فتح دمش وإنجاز محاولته لتوحيد الشام، ولو لم يقتل - وهو في قمة انتصاراته ضد الصليبيين - لكان قد استطاع أن يستكمل الأجزاء المتبقية من برنامجه، ولتكاملت أمام الباحث الحديث الصورة الواضحة للدور الذي قام به في التاريخ الإسلامي، وهو دور فاصل تتضح خطواته، إذا عرفنا أن نور الدين محمود، ومن بعده صلاح الدين لم تكن جهودهما سوى إتمام العمل الذي بدأه عماد الدين زنكي وفي نفس الطريق.
سابعاً: الحملة الصليبية الثانية:
كان لسقوط الرها في أيدي المسلمين ردة فعل عنيفة في الغرب الأوروبي، وباعثاً على السرعة في إرسال حملة صليبية جديدة، بعد أن أثار سقوطها الرعب في النفوس، لا بسبب المكانة الدينية التي تتمتع بها هذه المدينة في تاريخ النصرانية فحسب، بل لأنها كانت أيضاً أول إمارة أسسها الصليبيون في الشرق الأدنىن فجاء سقوطها إيذاناً بتزعزع البناء الكبير الذي شيَّده الصليبيون في الحملة الصليبية الأولى في الشرق الأدنى، وأدرك الغرب الأوروبي أنه إذا لم يسارع إلى ترميم ذلك البناء فإنه لن يلبث أن ينهار، وكانت نداءات الاستغاثة قد وصلت إلى البابا يوجنيوس الثالث من فرنج الشرق، فقد بعثت ملكة بيت المقدس بوفد رفيع المستوى إلى البابا لطلب النجدة بعد سقوط الرها وأرسل البابا رسلاً إلى إمبراطور ألمانيا كلف أحد رجال الدين المشهورين في فرنسا اسمه برنارد بالدعوة للحرب ضد المسلمين في الشرق، فقام هذا القس بالدور الذي قام به البابا أوربان الثاني عام "490ه/1095م" أثناء الدعوة للحملة الفرنجية الأولى، لبى الإمبراطور كونراد الثالث ولويس السابع ملك فرنسا دعوة البابا، وخرجا كلَّ بجيشه عبر أوروبا باتجاه القسطنطينية ومن هناك عبرا مضيق البوسفور غلى أسيا الصغرى.
السلاجقة يقضون على الجيش الألماني:
كان الجيش الألماني يتقدم الجيش الفرنسي عدة أيام، وعندما بلغ منطقة دور بليوم شرق مدينة نيقيه - نفس الموقع الذي انتصر فيه فرنج الحملة الأولى على السلاجقة بقيادة قلج أرسلان قبل خمسين عاماً - وقع الجيش الألماني في قبضة جيش السلطان مسعود أمير سلاجقة الروم في آسيا، فقد تراجع السلطان مسعود وفق خطة عسكرية ذكية حتى واصل الجيش الألماني تقدمه إلى قلب فريجيا، وكان السلطان مسعود قد نشر قواته على قمم الجبال المحيطة بهم، ولمَّا وصل الجنود الألمان إلى نهر باتيس قرب دوريليوم داهمهم السلجوقي، وكان قد استبدل بهم التعب والظمأ فختلت قيادتهم، وحاولوا الاحتماء في شعاب الجبال، لكن السلاجقة أحاطوا بهم وأمطروهم وابلاً من السهام، وفقد الجنود الألمان ميزة الانسحاب والعودة من حيث أتى، لكن السلاجقة لم يتركوه وشأنه فهاجموا مؤخرة جيشه ومقدمته وقلبه، فدبَّت الفوضى في صفوفه وتعَّرض أفراده لأفدح الخسائر بين قتل وأسر، والواقع أن القتال لم يكن سوى مذبحة مروعة، قتل فيها تسعة أعشار الجيش، وأصيب كونراد الثالث نفسه بجرحين أحدهما في رأسه، وقد حاول كونراد الثالث عبثاً جمع شتات جيشه إلا أنه ترك ساحة المعركة عند المساء في الفرار مع من تبقى من الغنائم، فقد غنموا كل ما في معسكرهم من مواد وخيول وأسراوا أعداداً كبيرة منهم، ظلت الغنائم تباع في أسواق المدن الإسلامية عدة شهور وبهذه الهزيمة الساحقة يمكننا التأكيد بأن الجيش الألماني قد فشل في تحقيق الغابة التي أتى من أجلها إلى الشرق، مما سيكون له أثر سيئ على الحملة الصليبية الثانية.
سلاجقة الروم يعرقلون تقدم الجيش الفرنسي:
خرج الجيش الفرنسي بقيادة الملك لويس السابع متأخراً عن الجيش الألماني، وكانت القوات الفرنسية مساوية في العدد تقريباً للجيش الألماني إنما كان أكثر تنظيماً، واصطحب لويس السابع معه زوجته إليانور، وفي الوقت الذي كان يجري فيه القتال بين السلاجقة والقوات الألمانية، عبرت القوات الفرنسية البوسفور إلى آسيا الصغرى، ووصلت إلى نيقيه، وعلم الملك الفرنسي بهزيمة الإمبراطور الألماني، فأسرع لمواساته ومساعدته.
وعلى الرغم من الاحتياطات التي اتخذها الملك الفرنسي فقد فاجأه السلطان السلجوقي مسعود في مدينة ديكير فيوم قرب أنطاكية وراح يناوئ الصليبيين حتى بلغ خلالها شق طريق لهم على الجسر، عند ذلك تراجع مسعود إلى داخل أسوار المدينة، وتمكَّن الصليبيون بعدها من متابعة طريقهم، ولم يغامر مسعود بالهبوط إلى السهل لمطاردتهم، إلا أن القبائل التركمانية البدوية الضاربة في المناطق الحدودية، تصدَّت لهم وأمطرتهم وابلاً من السهام، كما طاردتهم وتخطَّفت بالقتل جنود المؤخرة والشاردين والمرضى، ولم يُنج الجيش الصليبي من الفناء الشامل سوى هبوط الظلام حيث انسحب التركمان، ولم يصل الجيش الفرنسي إلى أنطاكية إلا بعد أن تكبد خسائر هائلة، وبعد أن شفي الإمبراطور الألماني من مرضه أكمل رحلته إلى أنطاكية فلسطين بحراً على سفن الأسطول البيزنطي، والتقى الإمبراطور الألماني والملك الفرنسي مملكة القدس، وبحث الجميع موضوع الهدف الذي ستتوجه الحملة لاحتلاله وقرروا أن يكون هدفهم الأول : دمشق.
الهجوم الصليبي على دمشق:
توجهت الجيوش الفرنجية المتحالفة نحو دمشق التي كان يحكمها آنذاك معين الدين أثر، أتابك الملك مجير الدين آبق بن محمد بن بوري، الذي كان أكثر الأمراء المسلمين قرباً من الفرنج وتعاوناً معهم، ولذلك لم يكن يتوقع أن يكون الضحية الأولى لهذه الجيوش الفرنجية الضخمة، لكنه لما علم بنوايا الفرنجة ومسيرهم نحو دمشق اتخذ جميع الإجراءات اللازمة للدفاع عن المدينة، وأرسل يسأل المساعدة من نور الدين محمود وسيف الدين غازي.
كان من عادة نور الدين محمود تحليلي الأوضاع الدولية والإقليمية ومتابعة الأحداث الجارية وتتحليلها بعمق، ومن ثم يخرد بالدروس والعبر التي تفيده في تقرير سياسته المستقبلية، وقد شكلت الحملة الصليبية الثانية الحدث الأكبر في المنطقة والعالم كله عام "541ه/1146م"، والذي يمارس عليه سياسته المذكورة، فقد كان نور الدين يتوقع أن تكون إمارته "حلب" الهدف الأول لهذه الحملة، لأنها تشكلت وتوجهت للشرق على خلفية سقوط مدينة الرها عاصمة إمارة الرها الفرنجية عام "539ه/1144م"، على يد عماد الدين ولكن الذي حصل أن الحملة غيَّرت هدفها المتوقع وتوجهت إلى دمشق وحاصرتها محاولة احتلالها، وكان هذا التغيير مفاجأة كبيرة لنور الدين، ومفأجاة أكبر لمجير الدين ىبق حاكم دمشق وأتابكه معين الدين أثر المدبر الحقيقي لشؤون إمارة دمشق إمارة دمشق، كانت مفاجأة نور الدين معروفة الأسباب أما مفاجأة حاكم إمارة دمشق فلأنهم كانوا أصدقاء الفرنجة الوحيدين من المسلمين في المنطقة ، وجرى بين الطرفين تعاون وثيق ضد عماد الدين زنكي عندما كان يحاول الاستيلاء على دمشق، ولم يكن متوقعاً من الفرنجة مهاجمة أصدقائهم في دمشق وترك عدوهم الأول في حلب، ولكن نور الدين محمود استفاد من هذا التغيير المفاجئ في هدف دراسة وتحليل للأوضاع في المنطقة قام بها قادة الحملة في اجتماعات مكثفة اشترك بها ملك بيت المقدس وقادته في مدينة عكا قبل الهجوم على دمشق.
لقد تأكد لنور الدين محمود المغزى الحقيقيي لغزو الفرنجة السابق في الحملة الأولى والحالي في الحملة الثانية والذي لا يمت بصلة إلى استرجاع قبر المسيح عليه السلام من المسلمين وتأمين طريق الحج إلى القدس على طوال الساحل شمالاً إلى القسطنطينية، كما كان يزعم زعماء الدين المسيحي الذي خططوا لهذه الحروب، كما أن الحملة توجهت إلى دمشق حليف الفرنجة في المنطقة لوم تتوجه إلى حلب أو الرها حيث يوجد من يتوجب الانتقام منه، فقد أدرك نور الدين محمود أن هدف الفرنجة الحقيقي هو احتلال المشرق الإسلامي والسيطرة عليه، كما كانت الإمبراطورية الرومانية تسيطر عليه قبل الإسلام، وأنهم لا يميَّزون في عملهم لتحقيق هذا الهدف بين إمارات ودول المسلمين، فالحليف المتعاون معهم سواء عندهم مع المقاوم لسيطرتهم وتوسعهم المجاهد لتحرير البلاد من احتلالهم، فهم يقصدون احتلال الجميع والسيطرة على الجميع، وعلى هذا الأساس فإنه من الأفضل لهم البدء بدمشق التي تعتبر قلب بلاد الشام وأكثر الإمارت الإسلامية فيها مساحة بعيد عنه، فدوره قادم ولو بعد حين، وإذا كان الأمر كذلك فإن نور الدين بما اشتهر به من سياسة بعيدة النظرن لا بد أن يخوض هذه الحرب من بدايتها فدمشق بالنسبة له كحلب تماماً، وهي في الوضع الراهن تشكل الخط الأول للدفاع عن حلب والموصل وباقي بلاد المسلمين، ولذلك نراه يحشد جيشه إلى جانب جيش أخيه سيف الدين غازي أمير الموصل بالقرب من حمص وبعلبك لإجراء التنسيق اللازم مع حكام دمشق حول العمل المشترك لمواجهة الغزو الأجنبي، وكان لهذا الحشد الأثر الرئيس في فشل الهجوم الصليبي على دمشق، وقد خرج نور الدين محمود من هذا الحدث الكبير بدروس مهمة تؤكد قناعاته وتوجهاته السابقة.
من هذه الدروس: الأهمية القصوى للوحدة بين الإمارات الإسلامية لمواجهة الخطر الفرنجي وتحرير البلاد من احتلالهم، ثم الأهمية الإستراتيجية لإمارة دمشق في المواجهة مع الفرنجة، وضرورة الاستيلاء عليها بأي ثمن، ومنها وضع التدخل الأوروبي في الصراع مع الإمارات الفرنجية في الاعتبار.
صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.