المؤلف/ علي محمد الصلابي
4- موقف رجال الدين المسيحي من الحملة الصليبية الثانية:
أما عن موقف رجال الدين المسيحي من خروج الحملة الصليبية الثانية إلى الشرق، فإنه لم يكد نبأ سقوط الرها - في يد عماد الدين زنكي سنة "539 - 1144م" يتردد في عواصم غرب أوروبا حتى أثار مخاوف وقلقاً شديدين، وأدرك الصليبيون أن ذلك يمثل بداية النهاية لبقية الإمارات الصليبية في الأراضي المقدسة بالمسؤولين عن إمارة أنطاكية، واستقر الرأي على إرسال وفد إلى البابا يوجنيوس الثالث "540ه - 548ه/ 1145 - 1153م" ليدعو إلى حملة صليبية جديدة، فقامت بالفعل في أوروبا حركة كبيرة تدعو بكل حماس إلى سرعة القيام بهذه الحملة لإعادة إمارة الرها إلى المسيحيين، وبادر البابا يوجنوس الثالث بدعوة لويس السابع ملك فرنسا، وكونراد الثالث إمبراطور ألمانيا ليتزعما تلك الحملة.
وقد رحب لويس السابع بطلب البابا، ودعا أتباعه للاجتماع به للنظر فيما يتخذ من الترتيبات، ولما لم يبد هؤلاء أي حماس للاشتراك في هذه الحملة، قرر الملك لويس السابع تأجيل تنفيذ دعوة البابا لمدة ثلاثة شهور، ولجأ إلى أحد أعلام الدين المسيحي في مملكته، وهو القديس برنارد - رئيس دير كليرفو - الذي كان يتمتع بشهرة كبيرة ويفوق الملك في السلطة - على حد تعبير المؤرخ الإنجليزي رانسيمان - فقد كان له قدرة عظيمة على الإقناع والتأثير في الناس، ولم يكد الملك لويس السابع والبابا يوجنيوس يطلبان منه القيام بالدعوة للحملة الصليبية حتى أسرع القديس برنارد لتلبية هذا الطلب والعمل بكل قواه من أجل إنجاح هذا المسعى، وكما وقف البابا أوربان الثاني في كليرمونت يدعو للحملة الصليبية الأولى قبل ذلك بخمسين سنة وقف القديس برنارد خارج كنيسة فيزيليه في شوال "540ه/ مارس 1146م" يدعو للحملة الصليبية الثانية، ونفذ ببلاغته إلى قلوب متعطشة للحرب والمغامرة فتشتعل ناراً، فلما استمع الناس لسحر بيانه وبلاغته وفصاحته، أخذوا يصيحون طالبين الصلبان، وعندئذ خلع القديس برنارد أردينه الخارجية فقطعت وحيكت صلباناً، وظل هذا القديس ومساعدوه يخيطون الصلبان لكل الذين تطوعوا للاشتراك في هذه الحملة.
وبعد عدة أيام كتب القديس برنارد رسالة إلى البابا يتضح منها مدى تأثير رجال الدين المسيحي في الناس ومدى طاعة الناس لهم في ذلك الوقت فيقول فيها: لقد أمرتهم، فأُطعت، وما كان لمن أصدر الأمر من سلطة، جعلت طاعتي مثمرة، فلم أكد أفتح فمي وأتحدث حتى تكاثر الصليبيون،
فلا حصر لعددهم، فالقرى والمدن هجرها سكانها، فلا يكاد يوجد رجال واحد لكل سبع نساء، ويصادفك في كل مكان الأرامل اللاتي لا زال أزواجهن أحياء.
وبعد ذلك أخذ الحماس يزداد عند القديس برنارد بعد النجاح الذي أحرزه في فرنسا، فأخذ يطوف أقاليم ألمانيا مؤملاً أن يجتذب الألمان للاشتراك في هذه الحملة، وقد نجح إلى حد كبير في التأثير على كونراد الثالث ملك ألمانيا للانضمام إلى الحرب المقدسة، ويطلب منهم أن يقوموا بشرح الإعلان البابوي الذي بعث به البابا إلى كافة مدن أوروبا من أجل أن يتحمل الجميع مسؤولية مساعدة الأرض المقدسة بفلسطين والعمل على تحريرها، واستقر رأي المشاركين في هذه الحملة على مهاجمة دمشق واحتلالها، واشترك رجال الدين المسيحي جنباً إلى جنب مع الجند في حصار دمشق، فكان مع الملك الألماني كونراد قسيس عجوز يدعى إلياس، طويل اللحية، يعتقدون به، فلما حاصروا دمشق، ركب هذا القسيس حماره وعلق على عنقه صليباً وحمل في يده صليباً وجمع القساوسة بالصلبان وركب الملوك والفرسان بين يديه، ولم يتخلف من الصليبيين المشاركين في الحصار أحد إلا من تركوه لحفظ الخيام.
ووقف هذا القسيس أمام الجميع وهو يتقدمهم قائلاً: لقد وعدني المسيح أني أفتح اليوم دمشق ولا يردني أحد. ولكن باءت نبوءته بالفشل إذ هاجمه أحد شباب المجاهدين فقتله وقتل حماره.
5- انتصار دمشق على الحملة الصليبية الثانية:
في ربيع الأول سنة ثلاثة وأربعين وخمسمائة "543م" نازلت الفرنج دمشق في عشرة آلاف فارس وستين ألف راجل، فخرج المسلمون في دمشق للمصاف فكانوا مائة وثلاثين ألف رجل وعسكر البلد، فاستشهد نحو المائتين، ثم برزوا في اليوم الثاني فاستشهد جماعة، وقتل من الفرنج عدد كثير، فلما كان في اليوم الخامس وصل غازي بن أتابك، وأخوه نور الدين في عشرين ألفاً إلى حماه، وكان أهل دمشق في الاستغاثة والتضرّع إلى الله تعالى، وأخرجوا المصحف العثماني إلى صحن الجامع، وضجَّ الناس والنساء والأطفال - مشكوفي الرؤوس وصدقوا الافتقار إلى الله، فأغاثهم وقال تعالى: "أمن يجيب المضطر إذا دعاه" [النمل: 62].
وكان من أسباب الله تعالى التي جعل فيها النصر لأهل دمشق: وصول جيوش الموصل وحلب في الوقت المناسب، فقد اتصل كل من سيف الدين غزي وأخوه نور الدين بمعين الدين أنر لتنسيق التعاون بينهم ضد الفرنجة، وكان معين الدين أنر حاكم دمشق لا يرغب بدخول سيف الدين ونور الدين دمشق،ي وكان في الوقت نفسه يهدد الفرنجة بتسليم دمشق لسيف الدين أو لنور
الدين إذا حاولوا اقتحامها، وراسل حكام القدس ووعدهم بتسليم حصن بنياس له إذا أقنعوا الإمبراطور طونراد والملك لويس بالانسحاب عن دمشق، وترافقت هذه الاتصالات مع حدوث خلاف بين الفرنجة أنفسهم حول من سيحكم دمشق بعد احتلالها.
قبل حكام القدس عرض عين الدين أنر، وأقنعوا الإمبراطور كونراد والملك لويس بضرورة الانسحاب خوفاً من تسليمها لسيف الدين غازي " ملك الشرق"، الذي إن تسلمها طمع باحتلال القدس وباقي الإمارات الفرنجية فيما بعد فيزول الوجود المسيحي كله من البحر غلى القسطنطينية في طريق عودته لألمانيا، بينما تأخر الملك لويس عدة أشهر ثم غادر بطريق البحر إلى فرنسا.
وهكذا انتهت أكبر حملة فرنجية إلى الفشل الذريع بسبب تضامن الإمارات الإسلامية، كالموصل وحلب مع دمشق وسلاجقة الروم في وجه العدوان، وبسبب توفر إرادة المقاومة والقاتل في نفوس القادة، بعكس الوضع الذي حصل خلال الحملة الفرنجية الأولى التي حققت أهدافها باحتلال معظم بلاد الشام بسبب اختلاف هذه الإمارات وعدم توفر إرادة القتال وضعف روح المقاومة في نفوس الحكام، كان نور الدين محود المستفيد الرئيس من فشل الحملة الفرنجية الثانية "بعد حاكم دمشق" فقد برزت أهمية الدور الذي قام به وأخوه سيف الدين غازي في إرغام الفرنجة على الانسحاب عن دمشق خائبين، وظهرت بالتالي أهمية التعاون والتضامن بين الإمارات الإسلامية في حمايتها من أطماع الفرنجة وهذا ما كان نور الدين محمود يسعى لتحقيقه باعتباره الخطوة الأولى على طريق الوحدة التي كانت تمثل الهدف الإستراتيجي له في سبيل تحرير البلاد من الاحتلال الفرنجي، أدرك نور الدين محمود بعد فشل الحملة الفرنجية الثانية الأهمية الكبيرة لدمشق في مواجهة الفرنجة سواء من حيث موقعها الجغرافي المواجه الأكبر وأقوى الإمارات الفرنجية "مملكة القدس" أم من حيث إمكانياتها وكثرة مواردها وقوتها البشرية، فترسخت فكرة الاستيلاء عليها في نفسه وأخذ يسعى لتحقيق ذلك معتمداً الوسائل السلمية ومستفيداً من تجربة والده في هذا المجال.
6- مشاركة فقهاء المغاربة للدفاع عن دمشق:
لم تقتصر المشاركة الفعلية للفقهاء في القتال على فقهاء مدن بلاد الشام وحدهم، إذ تشير بعض الروايات إلى مشاركة أولئك الفقهاء والمغاربة والأندلسيين الذي كانوا يقيمون ببلاد الشام في تلك المعارك، فعندما تعرضت مدينة دمشق عام "543ه/1147م" للغزو الصليبي شارك أولئك الفقهاء جيوش مدينة دمشق لمواجهة ذلك الغزو، وكان منهم الفقيه المغربي حجة الإسلام أبو الحجاج يوسف بن دوناس الفندلاوي والمالكي، والشيخ عبد الرحمن الحلحوني وكان الشيخ الفندلاوي كبيراً زاهداً عابداً، خرج راجلاً، فرآه معين الدين - حاكم دمشق - فقصده وسلم عليه وقال له: يا شيخ، أنت معذور، ونحن نكفيك، وليس بك قوَّة على القتال، فقال: قد بعت واشترى، فلا نُقيلهُ ولا نستقيله يعني قول الله تعالى:
"إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة" [التوبة: 111]، وتقدّم فقاتل الفرنج حتى قتل رحمه الله شهيداً.
واستشهد الشيخ الحلحوني بعد قتل واستبسال ورؤي الشيخ الفندلاوي في المنام بعد استشهاده فقيل له: أين أنت؟ قال: في جنات عدن على سُرر متقابلين.
7- ما قيل من شعر:
قال أبو الندى حسان بن نمير الكلبي في مدح مجير الدين صاحب دمشق:
عرج على نجد لعلك مُنجدِي
بنسيمها وبذكر سُعدى مسعدي
من قاتل الإفرنج ديناً غيره
والخيل مثل السيل عند المشهد
ردَّ الأمان بكل ندب باسل
ومن الجياد بكل نهد أجرَد
ومن السيوف بكلَّ عضب أبيض
ومن العجاج بكل نقع أسود
حتى لوى الإسلام تحت لوائه
وغدا بحمد من شريعة أحمد
سابعاً: نتائج الحملة الصليبية الثانية:
هناك مجموعة من النتائج تمحضت عنها الحملة الصليبية الثانية منها:
* أججت العداء الغرب أوروبي: تجاه الإمبراطورية البيزنطية، إذ أن المعاناة التي لقيها الإمبراطور الألماني كونراد الثالث وكذلك الفرنسي لويس السابع من خلال الطيق البري الذي مر بمناطق بيزنطة أكد العداء المتأصل بين الطرفين وهو عداء سيتراكم طول القرن الثاني عشر الميلادي/ السادس الهجري حتى يصل إلى ذروته مع مطلع القرن الثالث عشر الميلادي ن السابع الهجري.
* أثرت تلك الحملة على طبيعة الوجود الصليبي في الشرق:
فالملاحظ أن الحركة الصليبية ارتبطت بحلف دفاعي إستراتيجي مع الغرب الأوروبي، الذي وفر لها كل دعم مادي ومعنوي من أجل القيام والنمو والازدهار، بل وفر لها كل حماية ممكنة وسط المحيط الإسلامي المعادي، والآن بعد المصير الذي وصلت إليه الحملة الثانية بكل الآمال التي علقت على نجاحها، اتضح لنا بجلاء، إن اعتماد الصليبيين على الدعم الأوروبي الخارجي خلال تلك الحملة الفاشلة، لم يغنهم شيئاً، بل لم يضمن لهم الاستمرار بقوة تمكنهم من احتلال مناطق المسلمين طالما أن أطماعهم لا تحد، وجشعهم ليس له حدود.
لقد ظل الوجود الصليبي في الشرق أشبه شيء برضيع لم يكتب له النمو الطبيعي من خلال ارتباطه المرضي بالوطن الأم في أوروبا، وظل الاعتماد على ذلك الوطن نقطة ضعف لذلك الوليد ليس لها حل حقيقي في آلية الصراع الصليبي الإسلامي، وهذا ما ينطبق على إسرائيل في هذا العصر.
صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.