المؤلف/ علي محمد الصلابي
عجز الكيان الصليبي بإمكاناته المحلية عن تغيير واقع عام "539ه/1144م":
وحتى مع الاعتماد على الوطن الأم عجز أيضاً، وتعليل ذلك إلى جانب أخطاء الصليبيين إلى درجة لن تستطيع أن تعود معها عقارب الساعة إلى الوراء، بل من الآن فصاعداً سيأتي الإنجاز وراء الآخر حتى يتم طرد الصليبيين نهائياً من المنطقة لتصحيح خطأ الانقسام الإسلامي الذي مهد للغزاة القدوم للمنطقة.
* بروز نجم نور الدين محمود:
فالحملة المذكورة دعمت وجود نور الدين محمود في حلب إلى حد كبير، فعلى الرغم من خشية الدماشقة من تطلعاته السياسية، إلا أنهم صاروا على علاقة ودية معه أفضل من قبل تلك الأحداث، وتدعم وضعه السياسي في شمال الشام بصورة أقوى، فقد اعترف الدماشقة ضمنياً بقوة نفوذه السياسي، وطلبوا منه العون ضد مملكة بيت المقدس، حليفة الأمس.
ضعف حكام دمشق:
والحملة المذكورة تلقي الضوء على مدى الضعف الذي وصلت إليه أتابكية دمشق، إذ أنها لم تتمكن من مواجهة الزحف الصليبي عليها، ولذلك طلبت العون العسكري الخارجي ولا ريب في أن ذلك الوهن أدركه نور الدين محمود بصورة مؤكدة على نحو جعله يخطط أكثر من ذي قبل من أجل الجبهة الإسلامية وضم دمشق.
* تدمير حصن العريمة:
استغل نور الدين محمود أول فرصة سنحت له للعمل المشترك مع معين الدين أنر فقد استعان رايموند أمير طرابلس بنور الدين ضد أحد أمراء الفرنجة الذين حضروا مع الحملة الفرنجية الثانية من ضمن الجيش الفرنسي هو برتراند كونت تولوز، لم يرجع هذا الأمير مع الجيش الفرنسي إلى فرنسا بعد انتهاء الحملة، وإنما توجه إلى الشمال في البحر محاذياً للشاطئ حتى إذا صار بمحاذاة إمارة طرابلس نزل إلى البر ومعه فرسانه، فاقتحم حصن العريمة التابع لإمارة طرابلس وتحصن فيه وأعلن عن نيته في الاستيلاء على طرابلس معتبراً نفسه أحق بها من أميرها رايموند، ولم يتمكن رايموند أمير طرابلس من التغلب عليه، فحاول الاستعانة بباقي الإمارات الفرنجية، وعندما لم يجد منهم استجابة بعث يستنجد بنور الدين ومعين الدين اللذين بادرا بسرعة لحصار الحصن بقواتهما واستوليا عليه وأسرا كل من كان فيه ثم دمرا
الحصن حتى استوى مع الأرض، وعاد كل منهم إلى مدينته، وتدل هذه الحادثة على مدى الأثر السيىء الذي أحدثه فشل الحملة الفرنجية الثانية على وضع الإمارات الفرنجية في المشرق الإسلامي.
* كسر هيبة الصليبيين في نفوس المسلمين:
يعتبر العديد من المؤرخين فشل الحملة الصليبية الثانية تلك نقطة تحول في تاريخ الصراع الإسلامي - المسيحي، فبالإضافة إلى أنها أدت إلى انحطاط هيبة الصليبيين في الشام مما شجع القوى الإسلامية على الغارة بجرأة على الإمارات الصليبية، ثم إنها كانت المناسبة التي ظهر فيها نجم آخر من نجوم الجهاد الصليبي هو نور الدين محمود زنكي الذي أحيا مشروع أبيه لتوحيد الجبهة الإسلامية ضد الصليبيين وهو المشروع الذي سيستكمله صلاح الدين فينجح في التمهيد لإنهاء الحروب الصليبية، ولقد نجح نور الدين في استغلال الظروف التي أعقبت فشل الحملة الصليبية الثانية في توحيد الشام تحت قيادته هذه المرة على حساب حاكم دمشق، ثم استأنف جهاده للصليبيين بنجاح مما شجع القوى الإسلامية الأخرى مثل سلاجقة الروم والأراتقة والتركمان على التقدم لمواجهة الصليبيين بخاصة في الرها وأنطاكية، بل وتحالفوا أيضاً في جهودهم حتى استطاع نور الدين زنكي أن يوحد بلاد الشام كلها تحت قيادته من الرها شمالاً حتى حوران جنوباً، فقامت دولة إسلامية موحدة مركزها دمشق، وكانت هذه هي الخطوة الأولى نحو تكوين الجبهة التي ستمتد من الفرات إلى النيل للتصدي بحق لهذا الخطر الصليبي.
هذه هي أهم النتائج.
المبحث الرابع
فقه نور الدين في التعامل مع الدولة الفاطمية
أولاً: جذور الشيعة الإسماعيلية والدولة الفاطمية:
بعد موت الإمام جعفر بن محمد الصادق افترقت الشيعة إلى فرقتين ممن نسبوا أنفسهم إلى جعفر الصادق: فرقة: ساقت الإمامية إلى ابنه موسى الكاظم، وهؤلاء هم الشيعة الاثني عشرية.
وفرقة: نفت عنه الإمامة وقالت: إن الإمام بعد جعفر، هو ابنه إسماعيل وهذه الفرقة عرفت بالشيعة الإسماعيلية.
قال عبد القاهر البغدادي في شأن الإسماعيلية: وهؤلاء ساقوا الإمامة إلى جعفر وزعموا أن الإمامة بعده لابنه إسماعيل.
وقال الشهر ستاني: الإسماعيلية امتازت عن الموسوية وعن الاثني عشرية بإثبات الإمامة لإسماعيل بن جعفر وهو ابنه الأكبر المنصوص عليه في بدء الأمر قالوا: ولم يزوج الصادق رحمه الله على أمته - أم إسماعيل - بواحدة من النساء ولا تسرى بجارية كسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق خديجة رضي الله عنها، وكسنة علي رضي الله عنه في حق فاطمة رضي الله عنها.
فالإسماعيلية إحدى فرق الشيعة وهي تنسب إلى إسماعيل ابن جعفر الصادق ولهم ألقاب كثيرة عرفوا بها غير لقب الإسماعيلية منها : الباطنية ، وإنما اطلق عليهم هذا اللقب لقولهم بأن لكل ظاهر باطناً، ولكل تنزيل تأويل، ومنهم القرامطة والمزدكية، وقد عرفوا بهذين اللقبين في بلاد العراق، ويطلق عليهم في خراسان العليمية الملحدة وهم لا يحبون أن يعرفوا بهذه الأسماء، وإنما يقولون: نحن الإسماعيلية لأنا تميزنا عن فرق الشيعة بهذا الاسم.
وقد قامت الدولة الفاطمية الرافضية عام "296/ه909م" في الشمال الأفريقي على يدي أبو عبدالله الشيعي بعد سقوط القيروان أمام قواته وهروب زيادة التغلبي إلى مصر في جماد الآخرة عام "296ه"، وكانت بيعة عبيد الله المهدي في القيروان عام "297ه/910م" وانتهت ولاية أبي عبيد الله الشيعي بعد أن دامت عشر سنوات على قول بعض المؤرخين.
1- عبيد الله المهدي الخليفة الشيعي الرافضي الأول:
هو عبيد الله أبو محمد أول من قام من الخلفاء الخوارج العبيدية الباطنية الذين قلبوا الإسلام، وأعلنوا بالرفض، وأبطنوا مذهب الإسماعيلية يستغوون الجبليَّة والجهلة، وذكر الذهبي ما قيل عنه في نسبه ثم قال: والمحققون على أنه دعيّ بحيث إنَّ المعزَّ منهم لما سأله السيد ابن طباطبا عن نسبه، قال: غداً أخرجه لك، ثم أصبح وقد ألقى عرمة من الذهب، ثم جذب نصف سيفه من غمده فقال: هذا نسبي، وأمرهم بنهب الذهب، وقال: هذا حسبي.
وأما مفتي الديار الليبية رحمه الله الشيخ طاهر الزاوي فقد قال في ترجمة عبيد الله المهدي: هو مؤسس الدولة العبيدية وأول حاكم فيها وهو عراقي الأصل، ولد في الكوفة سنة "260ه" واختبأ في بلدة سلميَّة بؤرة الإسماعيلية الباطنية في شمال الشام.
ومن يوم أن ولد إلى أن استقر في سلميَّة كان يعرف باسم سعيد بن أحمد بن محمد بن عبد الله ابن ميمون القداح، وفي منطقة سَلَميَّة مقر الإسماعيلية مزارات سرية، وقرروا نقل محمد ابن
إسماعيل بن جعفر الصادق، وأقام له الإسماعيلية مزارات سرية، وقرروا نقل الإمامة من ذرية إسماعيل بن جعفر الصادق إلى ابنهم بالنكاح الروحي، ثم قال: هذا أصل عبيد الله المهدي ،وهذا أصل العبيديين المنسوبين إليه ويذكر أن عبيد الله الشيعي عندما دخل أفريقيا "يعني تونس": أظهر التشيع وسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه حاشا علي بن أبي طالب والمقداد وعمار بن ياسر وسلمان الفارسي وأبا ذر الغفاري ، وزعم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ارتدوا بعده غير هؤلاء الذين ذكروا.
وكان أهل السنة بالقيروان أيام بني عبيد في حالة شديدة من الاهتضام والتستر كأنهم ذمة تجري عليهم في كثير من الأيام محن شديدة، ولما ظهر بنو عبيد أمرهم ونصبوا حسيناً الأعمى أعلن السباب في الأسواق والسب بأسجاع لقنها يتوصل منها إلى سب الرسول صلى الله عليه وسلم في ألفاظ حفظها مثل : العنوا الغار وما وعى والكساء وما حوى. . . وغير ذلك، والغار المقصود منه غار ثور الذي اختفى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكرب رضي الله عنه عن أعين المشركين التي كانت تطاردهم "قصة الهجرة"، وهذا اللفظ فيه سب للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر على حد سواء وكذلك فيه سب لآل البيت الذين حواهم الكساء.
وعلقت رؤوس الأكباش والحمر على أبواب الحوانيت ، عليها قراطيس معلقة مكتوب عليها أسماء الصحابة، واشتد الأمر على أهل السنة ، فمن تكلم أو تحرك قتل ومُثَّل به.
2- من جرائم العبيديين في الشمال الإفريقي:
ارتكب الشيعة الرافضة الإسماعيلية جرائم نكرة منها:
أ - غلو بعض دعاتهم في عبيد الله المهدي:
حتى أنه أنزله منزلة الإله وأنه يعلم الغيب، وأنه نبي مُرسل، يقول بدر الدين بن قاضي شهبة: وكان له "أي المهدي" دعا بالمغرب يدعون الناس إليه، وإلى طاعته، ويأخذون عليهم العهود ويلقون إلى الناس من أمره بحسب عقولهم، فمنهم من يلقون إليه أن المهدي ابن رسول الله وحجة الله على خلقه، ومنهم من يلقون إليه أنه الله الخالق الرازق وأما زعمهم بأنه إله فيظهر من أفعال دعاته وأقوالهم وأشعارهم، فقد كان هناك رجل يدعى: أحمد البلوي النحاس، يصلي إلى رقادة أيام كان عبيد الله بها، - وهي منه - إلى المغرب، فلما انتقل إلى المهدية - وهي منه - إلى الشرق صلى إليها باعتبار أنها مكة المكرمة - شرفها الله - وهذا الاعتقاد كان سائداً عند كثير من الناس يومها، فهذا أحد شعراء بني عبيد يقول في المهدية بعد انتقال المهدي إليها:
ليهنك أيها الملك الهمام
قدوم فيه للدهر ابتسام
لقد عظمت بأرض الغرب دار
بها الصلوات تقبل والصيام
هي المهدية الحرم الموقى
كما بتهامة البلد الحرام
كأن مقام إبراهيم فيه
ترى قدميك إن عدم المقام
وإن لثم الحجيج الركن أضحى
لنا بعراص قصركم التثام
لك الدنيا ونسلك حيث كنتم
فكلكم لها أبداً إمام
صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.