المؤلف/ علي محمد الصلابي
ب- المقاومة الجدلية:
كانت المقاومة الجدلية هي أقوى وأوسع أنواع المقاومة التي قام بها علماء السنة المغاربة ضد الشيعة الرافضة، وقد سطع في سماء هذه المساجلات العلمية والمناظرات العقدية عدد كبير من العلماء، وكانوا لسان أهل السنة الناطق والذاب عن بيضة هذا الدين، وممن لمع نجمه في ميدان المناظرة: الشيخ عبد الله بن التبان "371 ت"، وقد اشتهر بسبب مناظرته لبني عبيد حتى ضربت إليه أكباد الإبل من الأمصار المختلفة لعلمه بالذب عن مذهب أهل السنة، وكان هذا الإمام - فضلاً عن براعته في الجدل والمناورة - شجاعاً مقداماً لا يهاب الموت، من ذلك ما ذكره المالكي والدباغ من أن عبد الله المعروف بالمحتال، صاحب القيروان قد شدد في طلب العلماء، فاجتمعوا بدار ابن أبي زيد القيرواني فقال لهم ابن تبان: أنا أمضي إليه، أبيع روحي لله دونكم، لأنه إن اتى عليكم وقع على الإسلام وهن عظيم.
وفعلاً ذهب إليه وأقام عليه الحجة هو وجماعته الذين جاء بهم ليناظروه، وبعد أن هزمهم في مجلس المناظرة لم يخجلوا أن يعرضوا عليه أن يدخل في نحلتهم ولكنه أبى وقال: " شيخ له ستون سنة يعرف حلال الله وحرامه ويرد على اثنتين وسبعين فرقة يقال له هذا؟ لو نشر تموني في اثنتين ما فارقت مذهبي"، ولما خرج من عندهم بعد بأسهم منه تبعه أعوان الدولة الفاطمية العبيدية وسيوفهم مصلتة عليه ليخاف من يراه من الناس عن تلك الحال، فإذا به وهو تحت الضغط يهدي الناس ويقدم لهم النصحية، ويقول لهم دون خوف ولا وجل: تشبثوا، ليس بينكم وبين الله إلا الإسلام، فإن فارقتموه هلكتم.
وكان يخشى على العامَّة من فتنة بني عبيد ويقول: والله ما أخشى عليهم الذنوب، لأن موالاهم كريم، وإنما أخشى عليهم أن يشكوا في كفر بني عبيد فيدخلوا النار.
وممن اشتهروا بالذب عن الإسلام وأشهروا حجج الحق وبراهين العدل وإقامة الحجة على دعاة الدولة الفاطمية، أبو عثمان سعيد بن الحداد "302ه" لسان أهل السنة وابن حنبل المغرب قال عنه السلمي: كان فقيها صالحاً متعبداً أوحد زمانه في المناظرة والرد على الفرقة.
وقال عنه الخشني: كان يرد على أهل البدع المخالفين للسنة " وله في ذلك مقامات مشهوده وآثار محمودة ناب عن المسلمين فيها أحسن مناب، حتى مثله أهل القيروان بأحمد بن حنبل".
وقال عنه المالكي: وكانت له مقامات في الدين مع الكفرة المارقين أبي عبيد الله الشيعي وأبي العباس أخيه وعبيد الله أبان فيها كفرهم وزندقتهم وتعطيلهم، حاولت الدولة الفاطمية بالمغرب إجبار الناس على مذهبهم بطريقة المناظرة وإقامة الحجة مرة والتهديد بالقتل مرة أخرى، فارتاع الناس من ذلك ولجؤوا إلى أبي سعيد وسألوه التقية فأبى وقال : قد أربيت عن التسعين، ومالي في العيش حاجة، ولا بد لي من المناظرة عن الدين أو أن أبلغ في ذلك عذراً، ففعل وصدق، وكان هو المعتمد عليه بعد الله في مناظرة الشيعة، ومن أشهر هذه المناظرات:
* التفاضل بين أبي بكر وعلي رضي الله عنه:
وأول هذ المناظرات كما يذكر صاحب المعالم حول التفاضل بين أبي بكر وعلي رضي الله عنه فبعد الاجتماع بين ابن الحداد وأبي عبيد الله الشيعي، سأل أبو عبد الله الشيعي ابن الحداد: أنتم تفضلون على الخمسة أصحاب الكساء غيرهم - ؟ يعني بأصحاب الكساء: محمداً صلى الله عليه وسلم وعلياً وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهما، ويعني بغيرهم: أبا بكر رضي الله عنه، فقال أبو عثمان: أيما أفضل؟ خمسة سادسهم جبريل عليه السلام؟ أو اثنان الله ثالثهما؟ فبهت الشيعي.
* موالاة علي رضي الله عنه:
في هذه المناظرة أراد عبيد الله الشيعي
أن يثبت أن الموالاة في قوله عليه الصلاة والسلام: "من كنت مولاه فعلي مولاه".
بمعنى العبودية : قال له: فما بال الناس لا يكونون عبيداً لنا؟ فقال ابن الحداد: لم يرد ولاية رق وإنما أراد ولاية الدين، ونزع بقوله تعالى:" ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لى من دون ولكن كونوا ربنين بما كنتم تعلمون الكتب وبما كنتم تدرسون (79) ولا يأمركم أن تتخذوا الملكة والنبين أرباباً أيارمكم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون(80)" [آل عمران : 79- 80] فما لم يجعله الله لنبي لم يجعله لغير نبي، وعلي رضي الله عنه لم يكن نبياً وإنما كان وزيراً للنبي صلى لله عليه وسلم.
هذه إشارات عابرة وهي جزء صغير من مجموع المناظرات التي دارت بين الفريقين.
ج - المقاومة المسلحة:
لم يكتف علماء المغرب بالمقاومة السلبية والمقاومة الجدلية، بل منهم من حمل السلاح وخرج ليقاتلهم، فهذا جبلة بن حمود الصدفي ترك سكن الرباط ونزل القيروان، فلما كلم في ذلك قال: كنا
نحرس عدواً بيننا وبينه البحر، والآن حل هذا العدو بساحتنا، وهو أشد علينا من ذلك وقال: جهاد هؤلاء أفضل من جهاد أهل الشرك.
واستدل بقول تعالى: "يأيها الذين أمنوا قتلوا الذين يلونكم من الكفار" ومنهم الإمام: أبو القاسم الحسن بن مفرج "ت 309ه" الذي كان من أوائل من خرج على العبيديين ومات شهيداً، قتله عبيد الله المهدي وصلب هو ورجل يدعى أبا عبد الله السدري الذي كان من الصالحين، وكان قد بايع على جهاد عبيد الله وجعل يحث الناس على جهاده فبلغ خبره عبيده الله ، فأمر بقتله.
ثم إن العلماء خطوا خطوة أكبر بإصدار فتوى بوجوب قتال الدولة الفاطمية العبيدية، وكان ذك بعد اجتماع وتشاور بين علماء السنة وتحالفوا مع أهل القبلة ضد الفاطميين الذين حكموا عليهم بالكفر لمعتقداتهم الفاسدة، قال الشيخ الفقيه أبو بكر بن عبدالرحمن الخولاني: خرج الشيخ أبو إسحاق السبائي رحمه الله مع شيوخ افريقية إلى حرب بني عبيد مع أبي يزيد، فكان أبو إسحاق يقول - ويشير بيده إلى عسكر أبي يزيد - : هؤلاء من أهل القبلة وهؤلاء ليسوا من أهل القبلة - يريد عسكر بني عبيد - فعلينا أن نخرج مع هذا الذي من أهل القبلة لقتال من "هو" على غير القبلة - فإن ظفرنا بهم لم ندخل تحت طاعة أبي يزيد، لأنه خارجي، والله عز وجل يسلط عليه إماماً عادلاً فيخرجه من بين أظهرنا ويقطع أمره عنا.
والذين خرجوا معه من الفقهاء والعباد: أبو العرب ابن تميم، وأبو عبد الملك مروان نصروان وأبو إسحاق السبائي وأبو الفضل وأبو سليمان ربيع بن القطان وعيرهم كثير.
وفي الموعد المحدد خرج العلماء ومن ورائهم وجوه القوم وعامتهم في أعداد غفيرة لا يحصيهم عد، ولم يتخلف من العلماء والصلحاء أحد إلا العجزة، ومن ليس عليهم حرج، وكان ربيع القطان من طليعة الصفوف راكباً فرسه، وعليه آلة الحرب متقلداً مصحفه وهو يقول: الحمد لله الذي أحياني حتى أدركت عصابة من المؤمنين اجتمعوا لجهاد أعدائك وأعداء نبيك.
وقد أبلى العلماء في تلك المواجهة بلاء حسناً، وقدموا صوراً حقيقية للجهاد في سبيل الله لأعداء الإسلام، واستشهد منهم ما لا يقل على الثمانين عالماً، منهم ربيع القطان والمميس وغيرهما، وحققوا انتصاراً باهراً وكادوا يستولون على المهدية، لولا أن ساعة الغدر حلت ورجعت الكرة عليهم، حين خدعهم أبو يزيد وأسفر عن وجهه القبيح المنادئ لأهل السنة وأمر جنده أن ينكشفوا عنهم بقوله: إذا التقيتم مع القوم فانكشفوا عن أهل القيروان حتى يتمكن أعداؤكم من قتلهم لا نحن فنستريح منهم.
وكان غرضه من تلك الفعلة الشنيعة والخدعة المنكرة: الراحة منهم لأنه فيما ظن إذا قتل شيوخ القيروان وأئمة الدين تمكن من أتباعهم فيدعوهم إلى ما شاء الله فيتبعونه فهزم شر هزيمة حيث انضم عدد غير قليل من جنده إلى صفوف عدوه ولم يبق له من الجند إلا القليل ، وقتل شر قتلة، وكانت نهايته يوم 30 محرم سنة "336ه"، وقد أثرت هذه المواجهة بين السنة والشيعة على الساحة المغربية فيما بعد، حيث استمرت المقاومة فيمن جاء بعدهم حتى بعد خروج بني عبيد من المغرب ، فكانوا يبحثون عن مراكز وجود الشيعة، فإذا عثروا عليهم قتلوهم وسلبوا أموالهم، فقد ذكر ابن عذاري في البيان المغرب أنه: كان بمدينة القيروان قوم يتسترون بمذهب الشيعة من شرار الأمة انصرفت العامة إليهم من فورهم، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً رجالاً ونساءً وانبسطت أيدي العامة على الشيعة وانتهبت دورهم وأموالهم، ويصف القاضي عياض هذه الحادثة: وكان ابتداء ذلك اليوم الجمعة منتصف المحرم، قتلت العامة الرافضة أبرح قتل بالقيروان واحرقوهم ونهبوا أموالهم، وهدموا دورهم وقتلوا نساءهم وصبيانهم، وجروهم بالأرجل، وكانت صيحة من الله سلطها عليهم، وخرج الأمر من القيروان على المهدية وإلى سائر بلادهم فقتلوا وأحرقوا بالنار، فلم يترك أحد منهم في أفريقية إلا من اختفى.
وهكذا كان هذا النوع من المقاومة هو أشد الأنواع وأنكاها، طهر الله به أرض المغرب من البدع.
د- المقاومة عبر التأليف:
وكانت المقاومة عبر التأليف من الوسائل المجدية والنافعة في مقاومة الشيعة والتي كان لها أثر طيب في إقلاقهم وقض مضاجعهم وإعلانهم الحرب على من يفعل ذلك ، كما كان لها أثر في تبصير العامة بالحق وإرساء دعائم السنة وكانت هذه المؤلفات تنقسم إلى نوعين:
- المؤلفات التي تتناول مسائل العقيدة جملة وفق منهج أهل السنة والجماعة، ومن بين المسائل التي تتناولها: مسألة الإمامة عند أهل السنة وأفضلية أبي بكر وعمر وعثمان وعلى رضي الله عنهما، وشرعية خلافة الثلاثة خلافاً للشيعة الرافضة، والترضي على أصحاب رسول الله جميعاً من غير تفريق بينهم، واعتبارهم جميعاً عدولاً خلافاً للشيعة الذين يكفرونهم ويفسقونهم عدا نفر قليل منهم ، فهذا النوع من التأليف كان له أثر عميق في تبصير الناس بدينهم ونشر المذهب الحق فيهم، حتى أصبحوا يعتبرون كل من خالف هذه العقيدة مخالفاً للإسلام وخارجاً عن جماعة المسلمين يجب فيه كل ما يجب في الكافر من المعاداة والقتال والمقاطعة وغير ذلك من المعاملة، لعله يرتدع ويرجع ويتوب.
- والنوع الثاني:
المؤلفات التي ألفت للرد على الشيعة خاصة وعلى عقائدهم : وهذا النوع من التأليف - كما سبق الحديث عنه - جاء نتيجة ظروف خاصة أو جبت على أهل السنة الرد عليهم ، وتفنيد شبههم ودحض باطلهم، من هذا الصنف من المؤلفات نذكر كتابي : "الإمامة" اللذين ألفهما الإمام محمد بن سحنون، وهما أعظم ما ألف في هذا الفن، يقول عيسى بن مسكين: وما ألف في هذا الفن له أيضاً، وكتاب الإمامة للإمام إبراهيم بن عبد الله الزبيدي، وكتاب الرد على الرافضة له أيضاً، واللذان كانا السبب في محنته وسجنه وضربه من قبل الدولة الفاطمية العبيدية، فهذا النوع كان له أثره في المقاومة.
صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.