المؤلف/ علي محمد الصلابي
ه- مقاومة شعراء أهل السنة:
إلى جانب وسيلة التأليف كانت هناك وسيلة نظم الشعر لهجو بني عبيد وذمهم، وقد برز في هذا الميدان كثير من الشعراء منهم: أبو القاسم الفزاري، فقد وصفهم ووصف سلوكهم فقال:
عبدوا ملوكهم وظنوا أنهم
نالوا بهم سبب النجاة عموما
وتمكن الشيطان من خطواتهم
فأراهم عوج الضلال قويما
رغبوا عن الصديق والفاروق في
أحكامهم لا سلموا تسليما
واستبدلوا بهما ابن الأسود نابحاً
وأبا قدارة واللعين تميما
تبعوا كلاب جهنم وتأخروا
عمن أصارهم الإله نجوما
أمن اليهود؟ أم النصارى؟ أم هم
دهرية جعلوا الحديث قديما
أم هم من الصابئين أم من عصبة
عبدوا النجوم وأكثروا التنجيما
أم هم زنادقة معطلة رأوا
أن لا عذاب غداً ولا تنعيما
أم عصبة ثنوية قد عظموا
النورين عن ظلماتهم تعظيما
سبحان من أبلى العباد بكفرهم
وبشركهم حقباً وكان رحيما
يارب فالعنهم ولقهم
بأبي يزيد من العذاب أليما
ومن أشهر ما قاله قصيدته الرائية التي انتشرت في الآفاق والبلدان والتي قال فيها :
عجبت لفتنة أعمت وعمت
يقوم بها دعي أو كفورُ
تزلزلت المدائن والبوادي
لها وتلونت منها الدهور
وضاقت كل أرض ذات عرض
ولم تغن المعاقل والقصور
فنجى القيروان وساكنيها
إله دافع عنها قدير
أحاط بأهلها علماً وخبراً
وميز ما اكتنه الصدور
وجللهم بعافية وأمن
وأسبل فوقها ستر ستير
وأثبت جلة العلماء فيها
بحار لا تعد ولا بحور
ومنها سادة العلماء قدماً
إذا عدوا وليس لها نظير
وفيها القوم عباد خيارا
فقد طاب الأوائل والأخير
هم افتكّوا سبايا كل أرض
وفادوا ما استبد به المغير
كفيناهم عظائمها جميعاً
فزالت عنهم تلك الشرور
وسكَّنّا قلوباً خافقات
أمات عروقها ضر ضرير
وآوينا وآسينا وكنا
لهم أهلاً وأكثرهم شطير
فبات طعامنا لهم طعاماً
هناك ودُورنا للقوم دور
وكان لنا ثواب الله ذُخراً
وقام بشكرنا منهم شكور
ولولا القيروان وساكنوها
لغاب طعامهم والمخ ريرُ
وليس لنا كما لهم حصون
ولا جبل أعاليه وعور
ولا سور أحاط بنا ولكن
لنا من حفظ رب العرش سُورُ
ولا نأوي إلى بحر وإنا
إذا قضى القضا تُنحَى البحُورُ
ولكنا إلى القرآن نأوي
وفي إيماننا البيض الذكور
عقائق كالبوارق مرهفات
بها تحمي الحرائم والثغور
وسُمر في أعاليهن شهب
بها ظمأ مواردها النحور
إلى أن قال:
وإنا بعد من خوف وأمن
نحب إذا تشعبت الأمور
رسول الله والصديق حبا
به ترجى السعادة والحبور
وبعدهما نحب القوم طُرَّا
وما اختلفوا فربهم غفور
ألا بأبي وخالصتي وأمي
محمد البشير لنا النذير
سأهدي ما حييت له ثناء
مع الركبان ينجد أو يغور
4- المعز لدين الله الفاطمي ودخوله مصر:
كان يتابع أحوال وأمراء مصر عن كثب، وأصبحت نفسه تسول له الاستيلاء على مصر، وبموت كافور الإخشيدي في سنة "355ه" اضطربت الديار المصرية، فاقتنص المعز الفرصة ولم يجعلها تمر مر السحاب، فعزم ودبر وأقدم على حفر الآبار والقصور فيما بين القيروان إلى حدود مصر، وحشد الجيوش العظيمة، وجمع الأموال الجزيلة واختار جوهر الصقلي قائداً لتلك الجيوش التي كانت تزيد عن مائة ألف، وأمر المعز كل أمرائه وولاته أن يسمعوا ويطيعوا ويترجلوا في ركاب جوهر الصقلي، وتحركت الجيوش العبيدية لنقل المذهب الباطني إلى مصر لتيخلص من الأزمات والثورات والصراعات العنيفة التي قادها علماء أهل السنة في خمسة عقود متتالية في الشمال الأفريقي، رافضين المذهب الباطني معلنين عقائد أهل السنة والجماعة ، فاستفاد المعز من ضعف الحكم الإخشيدي التابع للدولة العباسية فرمى بسهامه المسمومة ، ودفع إليها جيوشه المحمومة طلباً من أعوانه وسعياً للقضاء على الدولة العباسية، وفي جمادى الآخرة سنة "358ه" استطاعت جيوش المعز دخول مصر بقيادة جوهر الصقلي الذي لم يجد أي عناء في ضمها لأملاك العبيديين، وجوهر الصقلي هذا هو الذي بنى الأزهر الذي تم بناؤه سنة "361ه" ليكون محضناً لإعداد دعاة المذهب الإسماعيلي الباطني، وبعد أن مهدت مصر للمعز الفاطمي العبيدي أمرها، فأسند زعامة الشمال الأفريقي إلى الأمير الصنهاجي بلكين بن زيري وضم المعز إلى مصر كلاً من طرابلس وسرت وبرقة، وكان معه شاعره - الذي غالى في مدح المعز - محمد بن هانئ الأندلسي الذي قال:
فكأنما أنت النبي محمد
وكأنما أنصارك الأنصار
ما شئت أنت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
هذا الذي تجدي شفاعته غداً
حقا وتُخمد إن تراه النار
ومن شعره في المعز:
النور أنت وكل نور ظلمة
والفوق أنت وكل فوق دون
فارزق عبادك فضل شفاعة
وأقرب بهم زلفى فأنت مكين
ومنه:
تدعوه منتقماً عزيزاً قادراً
غفاراً موبقة الذنوب صفوحا
أقسمت لولا أن دُعيت خليفة
لدُعيت من بعد المسيح مسيحا
شهدت بمفخرك السماوات العلا
وتنزل القرآن فيك مديحا
ومنه:
وعلمت من مكنون سر الله ما
لم يؤت في الملكوت ميكائيلا
لو كان آتى الخلق ما أوتيته
لم يخلق التشبيه والتأويلا
وكانت بداية رحلة المعز مصر في عام "362ه" وقتل ابن هانئ في برقة في رجب سنة "362ه" وهو في الثانية والأربعين من عمره، ووجدوا جثته مرمية رمي الكلاب على ساحل بحر برقة، وتأسف المعز على قتله، وقال: هذا الرجل كنا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق فلم يقدر لنا ذلك، واستمر المعز في سيره حتى قارب الحدود المصرية، ووصل الإسكندرية يوم 33 من شعبان سنة "362ه" واستقبلته وفود عظيمة من أعيان القادة والزعماء والحكام في مصر، وامتد ملك المعز من سبته بالمغرب إلى مكة بالمشرق يأتمر بأوامره سكان سواحل المحيط الأطلنطي، وبقي المعز في مصر سنتين ونصف وتوفي بالقاهرة في السابع من ربيع الأول سنة "365هط ودامت ولايته بإفريقية ومصر ثلاثاً وعشرين سنة.
قال الذهبي: ظهر في هذا الوقت الرفض وأبدى صفحته وشمخ بأنفه في مصر والشام والحجاز والغرب بالدولة العُبيدية، وبالعراق والجزيرة والعجم بني بُويَه، وكان الخليفة المطبع ضعيف الرتبة مع بني بويه، وضعف بدنه ثم أصابه فالج، وخَرَس فعزلوه، وأقاموا ابنه الطائع لله ، وله السكة والخطبة، وقليل من الأمور فكانت مملكة المعز أعظم وأمكن.
5- زوال الدولة الفاطمية من شمال أفريقيا:
استطاع بعض فقهاء المالكية أن يصلوا إلى ديوان الحكم في دولة صنهاجة التابعة الفاطمية بمصر وأثروا في بعض الوزراء والأمراء - الذين كان لهم الفضل بعد الله في تخفيف ضغط الدولة على علماء أهل السنة - واستطاع العلامة أبو الحسن الزجال أن يؤثر في الأمير المعز بن باديس الصنهاجي في تربيته على منهج أهل السنة، وأعطت هذه التربية ثمارا بعدما تولى المعز أفريقية في ذي الحجة سنة "406ه"، وكان عمل العلامة أبو الحسن في السر بدون أن يعلم به أحد من الشيعة الرافضة، وكان هذا العالم فاضلاً ذا خلق ودين وعقيدة سلمية ومبغض للمذهب الشيعي الباطني، واستطاع أن يغرس التعليم الصحيحة في نفسية وعقلية وفكر المعز بن باديس الذي تمّ على يديه القضاء على مذهب الشيعة الإسماعيلية في الشمال الأفريقي، وقد وصف الذهبي المعز باديس فقال: وكان ملكاً مهيباً، وشجاعاً عالي الهمة، محباً للعلم، كثير البذل، مدحه الشعراء وكان مذهب الإمام أبي حنيفة قد كثر بأفريقية فحمل أهل بلاده على مذهب مالك حسماً لمدة الخلاف، وكان يرجع إلى الإسلام، فخلع طاعة العبيدية وخطب للقائم بأمر الله العباسي، فبعث إليه المستنصر يتهدده فلم يخفه، ورد المعز بن باديس على خطاب المستنصر الفاطمي بمصر الذي هدده فيه وقال له: هلا اقتفيت آثار آبائك في الطاعة والولاء في كلام طويل، فأجابه المعز: إن آباءك وأجدادي كانوا ملوك المغرب قبل أن يتملكه أسلافك ولهم عليهم من الخدم أعظم من التقديم ولو أخروهم لتقدموا بأسيافهم، وبينت لنا كتب التاريخ أن المعز بن باديس تدرج في عدائه للشيعة الرافضة الباطنية ولحكام مصر وظهر ذلك في عام "435ه" عندما وسع قاعدة أهل السنة في جيشه وديوانه ودولته، فبدأ في حملات التطهير للمعتقدات الباطنية ولمن يتلذذ بسبَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوعز للعامة وللجنوده بقتل من يظهر الشتم والسب لأبي بكر وعمر رضي الله عنه فسارعت العامة في كل الشمال الأفريقي للتخلص من بقايا العبيديين ليصفى الشمال الأفريقي من المعتقدات الفاسدة الدخليه عليه، وأشاد العلماء والفقهاء بهذا العمل الذي أشرف على تنفيذ المعز بن باديس رحمه الله وذكر الشعراء أشعاراً في مدح المعز، فقد قال القاسم بن مروان في تلك الحوادث:
وسوف يقتلون بكل أرض
كما قتلوا بأرض القيروان
صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.