المؤلف/ علي محمد الصلابي
وقال آخر:
يا معز الدين عش في رفعة
وسرور واغتباط وجذل
أنت أرضيت النبي المصطفى
وعتيقاً في الملاعين السفل
وجعلت القتل فيهم سنة
بأقاصي الأرض في كل الدول
واستمر المعز بن باديس في التقرب إلى العامة وعلمائهم وفقهائهم من أهل السنة وواصل السير في تخطيطه للانفصال الكلي عن العبيديين في مصر، فجعل المذهب المالكي هو المذهب الرسمي لدولته، وأعلن انضمامه للخلافة العباسية، وغيَّر الأعلام إلى العباسيين وشعاراتهم وحرم أعلام الدولة الفاطمية وشعاراتهم، وأمر بسبك الدراهم والدنانير التي كانت عليها أسماء العبيديين والتي استمر الناس يتعاملون بها 145 سنة وأمر بضرب سكة أخرى كتب على أحد وجهيها: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وكتب على الآخر: "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (85)" [آل عمران: 85] وقضى المعز بن باديس على كل المذاهب المخالفة لأهل السنة من الصفرية والنكارية والمعتزلة، والإباضية.
وفي سنة "443ه" انضمت برقة كلها إلى المعز بن باديس بعد أن أعلن أميرها جبارة بن مختار الطاعة له، وكان أول من قاد حملة التطهير على الشيعة الإسماعيلية في طرابلس وحارب تقاليدهم الباطلة ودعوتهم المضللة هو العلامة علي بن محمد المنتصر وكنيته: أبو الحسن المتوفى عام "438ه".
6- جهود السلاجقة في حماية العراق من التشيع الرافضي الباطني:
كانت الدولة الفاطمية تسعى للسيطرة على العراق والمشرق، ولذلك قامت بإرسال الدعاة إليها ، فقد واصل الخلفاء الفاطميون جهودهم في نشر دعوتهم مستغلين الاضطراب الذي ساد بلاد العراق، فأرسل الخليقة الفاطمي الظاهر لإعزاز دين الله الفاطمي الدعاة إلى بغداد سنة "425ه"، فاستجاب لهم كثير من الناس، وازداد نشاط الدعاة في بلاد المشرق الإسلامي على عهد المستنصر بالله الفاطمي، فعهد إلى دعاته بالرحيل إلى فارس وخراسان وما وراء النهر، ومن أشهر دعاة وفلاسفة المذهب الشيعي الإسماعيلي الفاطمي: المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي وعُرف أحياناً بالمؤيد فقط، وقد نجح هذا الداعية في التأثير على البساسيري أحد القادة العسكريين في الدولة العباسية، وقد استطاع البساسيري أن يستولي على بغداد ويزيح الخليفة القائم بأمر الله وإقامة الخطبة فيها للفاطميين، وانقطعت دولة بني العباس من بغداد، وأخرج الخليفة وحُمل إلى الأنبار وحبس بالحديثة عند صاحبها مهارش بن مجلي العقيلي، فتولى خدمة الخلفية بنفسه وكان أحد وجوه بني عقيل، وخطب لبني عبيد - الفاطميين في بغداد أربعين جمعة في ولاية المستنصر.
وحاول البساسيري نقض الاتفاق الذي عقده مع قريش بن بدران وعزم على أخذ الخليفة العباسي وترحيله إلى مصر، إلا أن قريشاً تصدى لهذه المحاولة وعهد على بن عمه الأمير محيي الدين بن مهارش العقيلي - صاحب حديثة - بالتحفظ على الخليفة وتأمين حياته، وعلى الرغم من ذلك فلم يسمح البساسيري للخليفة القائم بأمر الله بالرحيل إلى حديثة إلا بعد أن أرغمه على كتابة اعترافه بعدم أحقية بني العباس في الخلافة الإسلامية مع وجود بني فاطمة الزهراءء عليها السلام ولم يكتف البساسيري بذلك بل استولى على ثوب الخليفة وعمامته وشباكه، وأنفذها إلى الخليفة المستنصر بالله الفاطمي، وكان البساسيري قد شرع في استخدام طائفة من العوام ودفع إليهم السلاح من دار الخلافة وجمع العيّارين وأطمعهم في نهب دار الخلافة، ونهب أهل الكوخ - الشيعية - دور أهل السنة بباب البصرة، ونهبت دار قاضي القضاة الدّمغاني، وهلك أكثر السجلات والكتب الحكيمة وبيعت للعطارين ، ونهبت دور المتعلقين بالخليفة وأعادت الروافض الأذان بحيَّ على خير العمل، وأذَّن به في سائر جوامع بغداد في الجُمعُات والجماعات، وخطب ببغداد للخليفة الفاطمي، وضربت له السَّكة على الذهب والفضة وحوصرات دار الخلافة واعتقل رئيس الرؤساء أبو القاسم بن المسُلمة، ووبخه البساسيري ولامه لوماً شديداً، ثم ضربه ضرباً مبرحاً وأعتقله مهاناً عنده، ونهبت العامة دار الخلافة، فلا يُحصى ما أخذوا منها من الجواهر والنَّفائس والدَّيباج والأثاث والثياب وغير ذلك مما لا يُعدُّ ولا يُوصف، وفي يوم عيد الأضحى في سنة "450ه" ألبس البساسيري الخطباء والمؤذنين البياض، وعليه هو وأصحابه كذلك وعلى رأسه الألوية المستنصرية والمطارد المصرية، وخطب للمستنصر صاحب مصر، والشيعة الرّافضة في غابة السرور والأذان في سائر العراق بحيَّ على خير العمل، وانتقم البساسيريُّ من أعيان أهل بغداد انتقاماً عظيماً، وغرَّق خلقاً ممَّن كان يعاديه وبسط على آخرين الأرزاق والعطايا ، ولما كان يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ذي الحجة أحضر إلى بيت يديه الوزير أبو القاسم بن المسلمة الملقّبُ برئيس الوزراء وعليه جُبَّة صوف وطرطور من لبد أحمر وفي رقبته مخنقة
من جلود كالتعاويذ، فأركب جملاً، وطيف به في البلد وخلفه من يصفعه بقطعة من جلد، وحين اجتاز بالكرخ نثروا عليه خلقان المداسات وبصقوا في وجهه ولعنوه وسبوه - وهذه هي عادتهم عندما يتمكنون من مخالفيهم في كل زمان ومكان - وأوقف بإزاء دار الخلافة وهو في ذلك يتلو: "قل اللهم ملك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شىء قدير (26)" [آل عمران: 26] فألبس جلد ثور بقرنيه وعلق بكلوب في شدقيه ورفع إلى الخشبة حيَّا، فجعل يضطرب إلى آخر النهار، فمات رحمه الله وكان آخر كلامه: الحمد لله الذي أحياني سعيداً وأماتني شهيداً.
من الخصائص النفسية الشيعية الرافضية الباطنية الثابتة عبر التاريخ اتباع أسلوب التذلل والتمسكن والتورد عند الضعف، ولكن متى استشعروا القوة، فإنها تمارس أشد أنواع الطغيان والنهب والبطش والانتقام، وكان طغرل بك السلطان السلجوقي الذي أزاح البويهيين كان خارج العراق بجيوشه يحارب المنشقين عنه ويمكن لدولته، ولما قضى على الفتن كرَّ بجيوشه على بغداد وأعاد الخليفة العباسي إلى الخلافة بعد فكاكه من أسره، واستطاع ملاحقة البساسيري وقتله وعادت العراق إلى الخلافة العباسية السنية من جديد، وقد فصلت هذه الأحداث التاريخية في كتابي" دولة السلاجقة والمشروع الإسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي".
وقد أدرك السلاجقة الخطر الذي يتهددهم من وراء الدعوة الفاطمية في بلدان الخلافة العباسية، لذلك اتبعوا سياسة حكيمة بعد أن قبضوا على زمام الأمور في بغداد تتمثل في مناهضة الدعوة الفاطمية ودعاتهم بالحزم والشدة فتعقبوا دعاة الفاطمية - الذين قاموا بنشر الدعوة الفاطمية في بلاد فارس - كما قاموا بإقصاء الموظفين المتشيعين للمذهب الإسماعيلي على دواوين الحكومة والوظائف الدينية وعينوا من أهل السنة بدلاً منهم.
7- المدارس النظامية ودورها في الإحياء السني والتصدي للفكر الشيعي الرافضي:
بدأ التفكير الفعلي في إنشاء هذه المدارس النظامية للوقوف أمام المد الشيعي الإمامي والإسماعيلي الرافضي عقب اعتلاء السلطان ألب أرسلان عرش السلاجقة في عام "455هط فقد استوزر هذا السلطان رجلاً قديراً وسنياً متحمساً هو الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي الملقب بنظام الملك، فرأى هذا الوزير أن الاقتصار على مقاومة الشيعة الإمامية والإسماعيلية الباطنية سياسياً لن يكتب له النجاح على المدى البعيد إلا إذا وازى هذه المقاومة السياسية مقاومة فكرية، ذلك أن الشيعة إمامية كانوا أو إسماعيلية نشطوا في هذه الفترة وما قبلها إلى الدعوة لمذهبهم بوسائل فكرية متعددة، وهذا النشاط الفكري ما كان ينجح في مقاومته إلا نشاط سني مماثل يتصدى له بالحجة والبرهان فقد كانت الدولة الفاطمية تقوم بإعداد الدعاة من خلال جامع الأزهر الذي جعلوا منه مؤسسة تعليمية تُعنى بنشر مذهبهم في عام "378ه".
هذا بالإضافة إلى برنامج التعليمية التي كانت تعد بعناية خاصة في عاصمة الدولة الفاطمية لإعداد وتثقيفهم ثقافة مذهبية واسعة قبل إرسالهم إلى البلاد الإسلامية لنشر المذهب الإسماعيلي، وكان لذلك أثر في رواج هذا المذهب في بعض مناطق الشرق الإسلامي نتيجة لهذه الجهود المستمرة في نشر هذه الدعوة، لذلك كله فكر نظام الملك في أن يقاوم النفوذ الشيعي بنفس الأسلوب الذي ينتشر به، ومع ذلك رأى أن يقرن المقاومة السياسية للشيعة بمقاومة فكرية أيضاً، وتربية الأمة على كتاب على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقيدة أهل السنة والجماعة المستمدة من الوحي الإلهي، ومن هنا كان تفكيره في إنشاء المدارس النظامية التي نسبت إليه؛ لأنه الذي جد في إنشائها وخطط لها، وأوقف عليها الأوقاف الواسعة، واختار لها الأكفاء من الأساتذة، فكان من الطبيعي أن تنسب إليه من دون السلاجقة.
وقد وفق الله نظام الملك توفيقاً قل نظيره في التاريخ السياسي والعلمي والديني، فقد عاشت مدارسه أماً طويلاً وعلى الخصوص نظاميه بغداد التي طاولت الزمن زهاء أربعة قرون،إذ كان آخر من عرفنا ممن درس فيها صاحب القاموس الفيروز أبادي المتوفي سنة "817ه" حيث زالت في نهاية القرن التاسع الهجري وأدت رسالتها من تخريج العلماء على القضاء والحسبة والاستفتاء وهي من أهم وظائف الدولة في ذلك العصر، وانتشر هؤلاء في العالم الإسلامي حتى اخترقوا حدود الباطنية في مصر وبلغوا الشمال الأفريقي ودعموا الوجود السني بها، ولقد تخرج من هذه المدارس جيل تحقق على يديه معظم الأهداف التي رسمها نظام الملك، فوجدنا كثيراً من الذين تخرجوا منها يرحلون إلى أقاليم أخرى ليقوموا بتدريس الفقه الشافعي والحديث الشريف، ونشروا عقيدة أهل السنة في الأمصار التي انتقلوا إليها أو يتولوا مجالس القضاء والفتيا، أو يتولوا بعض الوظائف الإدارية الهامة في دواوين الدولة، وينقل السبكي عن أبي إسحاق الشيرازي أول مدرس بنظاميه بغداد بقوله: خرجت إلى خراسان فما بلغت بلدة ولا قرية إلا وكان قاضيها أو مفتيها أو خطيبها تلميذي أو من أصحابي، وقد ساهمت هذه المدارس في إعادة دور منهج السنة في حياة الأمة بقوة، وكان من أبرز آثارها أيضاً: تقلص نفوذ الفكر الشيعي وخاصة بعد أن خرجت المؤلفات المناهضة له من هذه المدارس، وكان الإمام الغزالي على قمة المفكرين الذين شنوا حرباً شعواء على الشيعة الرافضة، وقد مهدت المدارس النظامية بتراثها ورجالها وعلمائها السبيل وبسرته أمام نور الدين زنكي والأيوبيين كي يكملوا المسيرة التي من أجلها أنشئت النظاميات، وتتمثل في العمل على سيادة الإسلام الصحيح وخاصة في المناطق التي كانت موطناً لنفوذ الشيعة في تلك المرحلة، كالشام ومصر وغيرها.
إن من الأخطار العظيمة التي تواجه الأمة اليوم المشروع الباطني الجديد النشط في أنحاء المعمورة، وقد استهدف عقيدة الأمة وكتاب ربها وسنة نبيها وتاريخها وعظمائها، فهل نستلهم الدروس ونستخرج العبر ونعمل بالسنن والقوانين الإلهية في الدعوة إلى الإسلام الصحيح الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون من حكامنا مثل ألب أرسلان في شجاعته، ومن وزرائنا كنظام الملك في همته وغيرته، ومن علمائنا كالجويني والغزالي والبغوي والجيلاني وعلماء المغاربة الأفذاذ في دفاعهم عن الكتاب والسنة والصحابة، وقضايا الفكر الإسلامي الصحيح، ونوظف الوسائل الحديثة في بث عقائد الإسلام الصحيحة وتاريخه الموثق وفكره البديع من خلال الفضائيات والإنترنت والمطابع والجرائد والمجلات والكتب والندوات والمؤتمرات والمناهج والمدارس والجامعات ووسائل الدعوة بأنواعها، نريد بذلك وجه الله والدار الآخرة ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.