;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس ..الحلقة الواحدوالثلاثون 894

2008-09-27 22:17:48

المؤلف/ علي محمد الصلابي

وفعلاً تمّ الاتفاق بين الرجلين على الخروج من مصر في شهر ذي الحجة، شهر تشرين الأول وسار الجيشان الإسلامي والصليبي في طريقين متوازيين عبر شبه جزيرة سيناء بعد أن تركا شاور يسيطر على مقاليد الحكم وكان شيركوه آخر من غادر البلاد للحاق بجيشه. وكان شاور الفائز الحقيقي في هذا الصراع الذي انتهى لمصلحته، فتخلَّص من الجيوش الإسلامية الشامية والصليبية على السواء، كما تخلَّص من ضرغرام، وأضحى طوال العامين التاليين صاحب الأمر والنهي والمتحكم في مقاليد البلاد، ووضع أسد الدين شيركوه نفسه بعد عودته من مصر تحت تصرف نور الدين محمود وأصبحت مصر محور تفكير أسد الدين شيركوه وحديثه في مجالسه ومحور أفكاره، ولم ينقطع عن تبادل الآراء مع أصدقائه فيها الذين كانوا يزودونه بأخبارها، وأرسله نور الدين محمود في تلك الأثناء بمهمة إلى بغداد، فاستغل وجوده في عاصمة الخلافة ليثير حماس الخليفة المستنجد بالله حيث راح يقص عليه أخبار مصر وأحوالها، وما شاهده وخبره بنفسه، فتأثر الخليفة بما سمعه وشجَّعه على العودة إليها.

وعلى الرغم من أن حملة أسد الدين شيركوه لم تحقق أهدافها في مصر، إلا أن النتيجة النهائية هي أن أملاك نور الدين محمود قد تدعَّمت في بلاد الشام، وارتفع شأنه في العالم الإسلامي وأصبح من القوى الإقليمية الكبرى في المنطقة، بينما تراجعت أملاك الصليبيين إلى الساحل واستبد اليأس بهم، ومهما يكن من أمر، فقد غادر كل من شيركوه وعموري الأول أرض مصر، وقد وقف كل منهما على أوضاعها السياسية المتردية وسوء أحوالها الاقتصادية، بالإضافة على ما تتمتع به من ثروة وفيرة وموارد بشرية هائلة ترجِّح كفة من يضع يده عليها.

وانتهز شاور فرصة خروجهما فعاد إلى سيرته الأولى، يظلم ويقتل، ويصادر أموال الناس، بحيث لم يبقِ للخليفة الفاطمي العاضد معه أمر ولا نهي، ولما ثقلت وطأته عليه كتب إلى نور الدين محمود يستنجد به ليخلَّصه منه.

4- الحملة النورية الثانية:

أعدّ نور الدين محمود القوات اللازمة وأرسلها إلى مصر في شهر ربيع أول عام "562ه/ شهر كانون الثاني عام 1167م" بقيادة أسد الدين شيركوه وصحبه ابن أخية صلاح الدين وسيَّر معه جماعة من الأمراء، وبلغ تعداد هذه القوات ألفي فارس، ورافقه نور الدين حتى أطراف البلاد خوفاً من تعرَّض الصليبيين له، وسار أفراد الحملة في طريق محفوفة بالأخطار، فالصليبيون الذين كانوا على طريقهم رابضين في الكرك والشوبك قد ينقضون عليهم وينكلون بهم، وهم بعيدون عن مناطقهم، والبدو يلاحقونهم وينقلون أخبارهم إلى الصليبيين، وكان عليهم أن يغيِّروا طريق سيرهم أحياناً للتخفي، كما عرقلت الطبيعة زحفهم، إذ أن عاصفة رملية عنيفة هبَّت عليهم وقضت على عدد من الرجال وبعض الزاد، وعلى الرغم من ذلك واصلوا رحلتهم إلى مصر.

وتوافر لشاور من الوقت ما جعله يستنجد مجَّدداً بعموري الأول، إذ أيقن من استقراء الأحداث، أن أسد الدين شيركوه إذا قدم إلى مصر هذه المرة، فإنه سوف يبقى فيها ولا يغادرها، لذلك فإنه لم يتوان عن الاتصال بملك بيت المقدس والتفاوض معه، موضحاً له الخطر الذي يمثله نور الدين محمود على ممكلة بيت المقدس لو نجح في امتلاك مصر.

رحب عموري الأول بدعوة شاور طمعاً في امتلاك مصر وإبعاد نور الدين محمود وجيوشه عنها، حتى لا يتمكن من تطويق مملكته التي ستصبح في وسط ممتلكات نور الدين محمود، وقبل أن تستكمل الاستعدادات وردت الأنباء بأن أسد الدين شيركوه يجتاز صحراء سيناء، فلم يسع عموري الأول إلا أن يرسل ما تيسر الحصول عليه من الجند لعرقلة تقدمه، غير أن هذا التدبير جاء متأخراً، وعلى الرغم من أن جيش أسد الدين شيركوه تعرض لعاصفة رملية عرقلت تقدمه، وكادت تقضي على أفراده فإنه وصل سالماً إلى برزخ السويس في شهر "ربيع الآخر/أوائل شهر شباط" وعلم أسد الدين شيركوه بأن جيشاً صليبياً شرع في الزحف باتجاه مصر، عندئذ اجتاز الصحراء باتجاه الجنوب الغربي ليتفادى مواجهة مبكرة مع الصليبيين حتى بلغ نهر النيل عند إطفيح على مسافة أربعين ميلاً جنوبي القاهرة ثم عبر إلى الضفة الغربية والتزمها في سيره حتى وصل إلى الجيزة وعسكر بمواجهة الفسطاط، وتصرَّف في البلاد الغربية وحكمها نيفاً وخمسين يوماً.

أ - حملة عموري الثالثة على مصر والمفاوضات الصليبية الفاطمية: خرج عموري الأول من بيت المقدس في شهر ربيع الأول عام "562ه/شهر كانون الثاني" عام "1167م" متوجهاً إلى مصر في حملته الثالثة على هذا البلد، واجتاز الطريق المألوف من غزة إلى العريش، ثم اخترق الصحراء إلى بلبيس، وارتاع شاور من ظهوره المفاجئ وساوره القلق لعدم التنسيق معه، ويبدو أنه لم يكن على علم بوصول شيركوه إلى إطفيح، ولم يطمئن إلا عندما أرسل كشافته إلى الصحراء للوقوف على حقيقة الوضع، عندئذ خرج لاستقبال الملك الصليبي والتقى به، وأنزله عموري الأول في معسكره على الضفة الشرقية لنهر النيل على مسافة ميل واحد من أسوار القاهرة، وأجرى مع شاور مباحثات تعهد شاور خلالها بأن يدفع أربعمائة ألف دينار مقابل طرد أسد الدين شيركوه من مصر على أن يجري دفع نصف هذا المبلغ على الفور، ثم يبذل النصف الآخر فيما بعد، واشترط أن يقسم عموري الأول على ذلك، ولدعم هذه الاتفاقية، وإعطائها صفة رسمية أرسل عموري الأول كلاً من هيو سيد قيسارية، وجفري، مقدم فرسان الداوية إلى الخليفة الفاطمي للحصول منه على الموافقة الرسمية عليها، فاستُقبل الرسولان استقبالاً حافلاً في القصر الفاطمي وتم التصديق على المعاهدة، وكان من الطبيعي أن يرحب الصليبيون بهذه الاتفاقية التي تجعل منهم حماة لمصر والخلافة الفاطمية، وتبعد أسد الدين شيركوه بوصفه المنافس الوحيد لهم في السيطرة على هذا البلد.

ب - معركة البابين: كان أسد والعسكر الدين والعسكر النُّوري قد ساروا إلى الصَّعيد، فبلغوا مكاناً يعرف بالبابين، وسارت العساكر المصرية والفرنج وراءهم فأدركوهم به في الخامس والعشرين من جمادي الأولى، وكان قد أرسل إليهم جواسيس، فعادوا وأخبروه بكثرة عَدَدهم وعُددهم، وجدهم في طلبه، فعزم على لقائهم وقتالهم، وأن تحكم السيوف بينه وبينهم، إلا أنه خاف من أصحابه أن تضعف نفوسهم عن الثبات في هذا المقام الخطر الذي عطبهم فيه أقرب من السلامة، لقلة عددهم وبعدهم عن بلادهم، فاستشارهم، فكلهم أشار عليه بعبور النيل إلى الجانب الشرقي والعود إلى الشام وقالوا له: إن نحن انهزمنا وهو الذي لا شك فيه فأين نلتجئ وبمن نحتمي، وكل من في هذه الديار من جندي وعامي وفلاح عدو لنا ويؤدون لو شربوا دماءنا؟ وحق لعسكر عدتهم ألفاً فارس قد بعدوا عن ديارهم ونأى ناصرهم أن يرتاع من لقاء عشرات الألوف مع أن كل أهل البلاد عدو لهم، فلما قالوا ذلك قام إنسان من المماليك النورية يقال له شرف الدين بزغش، وكان من الشجاعة بالمكان المشهور وقال: من يخاف القتل والجراح والأسر فلا يخدم الملوك، بل يكون فلاحاً أو مع النساء في بيته، والله لئن عدتم إلى الملك العادل من غير غلبة وبلاء تعذرون فيه ليأخذن إقطاعاتكم وليعودن عليكم بجميع ما أخذتموه إلى يومنا هذا، ويقول لكم: أتأخذون أموال المسلمين وتفرون عن عدوهم، وتسلمون مثل هذه الديار المصرية يتصرف فيها الكفار؟ قال أسد الدين: هذا رأيي وبه أعمل، ووافقهما صلاح الدين يوسف بن أيوب، ثم كثر الموافقون لهم على القتال، فاجتمعت الكلمة على اللقاء، وهذا يبين هيبة نور الدين في قلب وقادة عسكره وجنوده، فأقام بمكانه حتى أدركه المصريون والفرنج وهو على تعبئة، وهنا برزت عقلية أسد الدين شيركوه وخبرته العسكرية، فقد جعل الأثقال في القلب يستكثر بها، ولأنه لم يمكنه أن يتركها بمكان آخر فينهبها أهل البلاد، ثم إنه جعل صلاح الدين ابن أخيه في القلب وقال له ولمن معه: إن الفرنج والمصريين يظنون أنني في القلب فهم يجعلون جمرتهم بإزائه وحملتهم عليه، فإذا حملوا عليكم فلا تصدقوهم القتال ولا تهلكوا نفوسكم واندفعوا بين أيديهم، فإذا عادوا عنكم فارجعوا في أعقابهم، واختار من شجعان أصحابه جمعاً يثق إليهم ويعرف صبرهم وشجاعتهم، ووقف بهم في الميمنة، فلما تقابل الطائفتان فعل الفرنج ما ذكره أسد الدين وحملوا على القلب ظناً منهم أنه فيهم، فقاتلهم من به قتالاً يسيراً، ثم انهزموا بين أيديهم، فتبعوهم، فحمل حينئذ أسد الدين فيمن معه على من تخلف من الفرنج الذين حملوا على القلب المسلمين والفرنج فهزمهم ووضع السيف فيهم فأثخن، وأكثر القتل والأسر، وانهزم الباقون، فلما عاد الفرنج من أثر المنهزمين الذين كانوا في القلب رأوا مكان المعركة من أصحابهم بلقعاً ليس بها منهم ديار، فانهزموا أيضاً وكان هذا من أعجب ما يؤرخ: أن ألفي فارس تهزم عساكر مصر وفرنج الساحل.

ج- حصار الإسكندرية: ثم سار أسد الدين إلى ثغر الإسكندرية وجبى ما في طريقها من القرى والسواد من الأموال، ووصل إلى الإسكندرية فتسلمها من غير قتال؛ سلمها أهلها إليه، فاستناب بها صلاح الدين ابن أخيه، وعاد إلى الصعيد وتملكه وجبى أمواله وأقام به حتى صام رمضان، وأما المصريون والفرنج فإنهم عادوا إلى القاهرة وجمعوا أصحابهم وأقاموا عوض من قتل منهم، واستكثروا، وحشدوا، وساروا إلى الإسكندرية وبها صلاح الدين في عسكر يمنعونها منهم، وقد أعانهم أهلها خوفاً من الفرنج، فاشتد الحصار وقل الطعام بالبلد، فصبر أهلها على ذلك، ثم إن أسد الدين سار من الصعيد نحوهم، وكان شاور قد أفسد بعض من معه من التركمان، ووصله رسل المصريين والفرنج يطلبون الصلح.

د- المفاوضات النورية - الصليبية بشأن الجلاء عن مصر: وبعد مفاوضات بين الطرفين تم عقد صلح على الأسس التالية:

* رفع الحصار عن الإسكندرية.

* تبادل الأسرى.

* إطلاق سراح الجند النوري داخل الإسكندرية.

* يخرج شيركوه مع عسكره من مصر.

* عدم التعرض لهم في الطريق من قبل القوات الصليبية.

إن قراءة متأنية لسير الوقائع، كما جرت على الأرض والعروض المتبادلة بشأن عقد الصلح وما حدث بعد إبرام الاتفاقية يمكن رصد الملاحظات التالية: فقد وافق الجانبان النوري والصليبي الفاطمي على:

* خروج القوات النورية والصليبية من مصر.

* تبادل الأسرى.

* يتعهد شاور بألا يعاقب رعاياه في الإسكندرية وفي غيرها من الجهات الذين ساندوا أسد الدين شيركوه.

ومهما يكن من أمر، فقد دخل عموري الأول مدينة الإسكندرية في شهر شوال/شهر آب، في حين غادرها صلاح الدين في موكب عسكري حافل على الرغم مما أصاب السكان من ضيق لرحيله، والتقى الرجلان وأعجب كل منهما بالآخر، حتى لقد قام ملك بيت المقدس بإمداد صلاح الدين ببعض المراكب لنقل الجرحى المسلمين إلى بلاد الشام، على أن متاعب السكان لم تنته، فلم يكد أتباع شاور يدخلون المدينة حتى ألقوا القبض على كل من جرى الاشتباه في أنه تعاون مع صلاح الدين، وقد احتج هذا الأخير لدى عموري الأول الذي نصح شاور بأن يطلق سراح الأسرى، وكانت هذه هي المرة الثانية التي يغدر فيها شاور، وقد علمت صلاح الدين درساً قاسياً، حتى إنه لم يتركها تتكرر، واقتص بنفسه من شاور عندما عادت القوات الشامية إلى مصر عام "564ه/1168م".

صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.

ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد