;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس ..الحلقة الثانيةوالثلاثون 904

2008-09-28 23:14:47

المؤلف/ علي محمد الصلابي

ه- الحماية الصليبية على مصر: غادر كل من أسد الدين شيركوه وصلاح الدين مصر في شهر "ذي القعدة/شهر أيلول"، في حين تأخر عموري الأول لبضعة أسابيع؛ لأنه مر بالقاهرة ليثبت الحماية الصليبية على الدولة الفاطمية وشاور، وكانت أهم مظاهرها:

* دفع جزية سنوية قدرها مائة ألف دينار للصليبيين.

* بقاء قوة من فرسانهم تحمي أبواب القاهرة، لتدفع نور الدين محمود إن كرر محاولة الهجوم.

* إقامة مندوب عن الملك الصليبي في القاهرة يشارك في شؤون الحكم.

والراجح أن فكرة تملك مصر كانت لا تزال ناشطة في تفكير عموري الأول السياسي، ولم يعد بوسعه أن يتخلى عنها، وهو ينوي العودة بعد إقرار الأمور في بلاد الشام، وذلك طمعاً في ثروتها وحماية لكيانه في بلاد الشام، ثم عاد الملك إلى فلسطين، وبهذه الاجراءات تأكدت الحماية على مصر، وترتب على هذا استمرار التنافس بين نور الدين محمود وعموري.

5- الحملة النورية الثالثة على مصر: عام "564ه":

سبب هذه الحملة أن الفرنجة كانوا قد جعلوا لهم شحنة في القاهرة، وتسلموا أبوابها، وحكموا المسلمين حكماً جائراً، فلما رأوا أنه ليس في البلاد من يردهم أرسلوا إلى ملكهم عموري في القدس، يستدعونه ليملك مصر، وهونوا عليه أمرها، فتردد خوفاً من سوء العاقبة، ثم سار مع فرسانهم على كره منه حتى وصلوا بلبيس مستهل صفر ونهبوها، وقتلوا وأسروا من فيها، ثم ساروا إلى "الفسطاط" فأمر شاور بإحراقها، فنهبت المدينة وبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوماً، ثم حاصر الفرنجة القاهرة وضيقوا على أهلها، وكان شاور هو المتولي للعساكر والقتال، فضاق به الأمر وضعف عن ردهم، فأخذ إلى الحيلة وراسل ملكهم عموري ووعده بمال عظيم ألف ألف دينار مصرية يعجل بعضها الآن، ودفع لهم منها "مائة ألف دينار"، وسألهم الرحيل عنه ليجمع لهم المال، فرحلوا قريباً، وجعل يجمع لهم المال فلم يستطع أن يجمع إلا خمسة آلاف دينار، حيث أن المصريين كانوا قد احترقت دورهم، ونهبت أموالهم.

أ- العاضد يستنجد بنور الدين محمود: كان حاكم مصر العاضد عقيب حريق مصر أرسل إلى نور الدين يستغيث به ويعرفه ضعف المسلمين عن الفرنج، وأرسل في الكتب شعور النساء وقال له: هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك لتنقذهن من الفرنج وعرض على نور الدين مقابل إنقاذ البلاد من الصليبيين:

* منحه ثلث بلاد مصر.

* منح قادته الإقطاعات.

* يسمح يشيركوه بأن يقيم في مصر.

ب- أسد الدين شيركوه يزحف إلى مصر ويدخل القاهرة: قانون الفرصة:

شرع نور الدين في تجهيز الجيوش وإعدادها إعداداً قوياً، وأعطى قائد الحملة "شيركوه" مائتين ألف دينار، سوى الثياب والدواب والأسلحة، وحكمه في العسكر والخزائن يأخذ حاجته فاختار من العسكر ألفي فارس، وجمع من فرسان التركمان ستة آلاف، وسار نور الدين وشيركوه إلى باب دمشق، ورحلوا إلى رأس الماء، وأعطى نور الدين كل فارس منهم عشرين ديناراً معونة غير محسوبة، وأضاف إلى شيركوه جماعة أخرى من الأمراء، منهم صلاح الدين الأيوبي، وسار أسد الدين مجداً فلما قارب مصر رحل الفرنجة إلى بلادهم بخفي حنين، خائبين مما أملوا، وسمع نور الدين بعودتهم فسره ذلك، وأمضر بضرب البشائر في البلاد، ولما وصل أسد الدين القاهرة دخلها واجتمع بالعاضد، الذي خلع عليه وفرح به أهل مصر، وأجريت على عساكره الجرايات الكثيرة.

ج- مقتل شاور: وأما شاور فلم يفصح عما في نفسه، وشرع يماطل أسد الدين فيما وعد به من المال، ورواتب الجند، وعزم على الغدر أيضاً، فقرر أن يقيم وليمة لأسد الدين وأمرائه ثم يغدر بهم ويقتلهم، فنهاه ابنه الكامل عن ذلك وقال له: والله لئن عزمت على هذا الأمر لأعرفن أسد الدين، فقال له أبوه: والله لئن لم أفعل لنقتلن جميعاً، فقال: صدقت، ولئن نقتل ونحن مسلمون والبلاد بيد المسلمين خير من أن نقتل وقد ملكها الفرنج، فليس بينك وبين عود الفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه، وحينئذ لو مشى العاضد إلى نور الدين لم يرسل فارساً واحداً ويملكون البلاد، فترك ما كان عزم عليه، وأخيراً اتفق صلاح الدين وبعض الأمراء على التخلص من هذا الخائن المراوغ شاور فأسروه، وسمع العاضد بذلك فأرسل إلى شيركوه يطلب رأسه، وأذن أسد الدين بقتله فقتل، وأرسل رأسه إلى العاضد في السابع عشر من ربيع الثاني، عام "643ه".

د- تولي أسد الدين الوزارة للعاضد: دخل أسد الدين القاهرة، وقصد قصر العاضد فخلع عليه الوزارة، ولقبه الملك المنصور، وأمير الجيوش، واستعمل على الأعمال من يثق به من أصحابه وأقطع البلاد لعساكره، وقد مدح الشعراء أسد الدين شيركوه لما حقق من انتصارات فقال العماد:

بلغت بالجد ما لا يبلغ البشر

ونلت ما عجزت عن نيله القدر

أصبحت بالعدل والإقدام منفرداً

فقل لنا: أعلي أنت أم عمر

افخر فإن ملوك الأرض أذهلهم

ما قد فعلت، فكل فيك مفتكر

سهرت إذ رقدوا بل هُجْتُ إذ سكنوا

وصُلت إذ جبنوا، بل طلت إذ قصروا

ه- وفاة أسد الدين: ولم تطل وزارة شيركوه، حيث توفي في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة "564ه" فكانت ولايته شهرين وخمسة أيام رحمه الله رحمة واسعة وخلفه في الوزارة ابن أخيه صلاح الدين، وكان أسد الدين من أكبر قادة نور الدين، وقد ادخره الملك العادل للخطوة الكبرى التي كان يمهد لها، وهي ضم مصر إلى بلاد الشام، وكان رحمه الله كريماً على جنده، صارماً يعرف كيف يقر النظام في عسكره، فهابه جنده وأحبوه، وركبوا معه المخاطر في حملات عظيمة، نفع الله بها الإسلام والمسلمين، وساهمت في تقوية المشروع المقاوم للغزو الصليبي الذي كان يقوده نور الدين ثم من بعده صلاح الدين، وكان شيركوه شجاعاً بارعاً قوياً جلداً في ذات الله، شديداً على الكفار، وطاعته عظيمة، في ذات الله صولته، عفيفاً ديناً، كثير الخير، وكان يحب أهل الدين والعلم، كثير الإيثار، حدباً على أقاربه وأهله، وكان فيه إمساك، وخلف مالاً كثيراً، وخلف من الخيل والدواب والجمال شيئاً كثيراً، وخلف خمسمائة مملوك، وهم الأسدية الذين ساهموا في بناء الدولة الأيوبية.

ثالثاً: وزارة صلاح الدين في مصر والمهام التي أنجزها:

كان صلاح الدين قد أظهر كفاءة خلال صحبته لعمه أسد الدين شيركوه، أثناء حملاته على مصر، فتولى الوزارة بعد وفاة عمه وهو في الحادية والثلاثين من عمره اختاره العاضد؛ لأنه كان أصغر الأمراء سناً، ولعله يكون أكثر طواعية له، إلا أن الملك الناصر - كما لقبه العاضد - خيب ظن الفاطميين، فشرع يستميل قلوب الناس إليه كما بذل لهم من الأموال التي قد جمعها عمه، فمال الناس إليه وأحبوه وسيطر على الجند سيطرة تامة، وكانت المهام التي أنجزها صلاح الدين في عهد نور الدين عظيمة وضخمة واستطاع القضاء على مراكز القوة.

1- مؤامرة مؤتمن الخلافة:

جرى من الأحداث في مصر بعد تولية صلاح الدين منصب الوزارة أن البلاد كانت تجتاز مرحلة خطيرة في تاريخها، فالدولة الفاطمية لا زالت موجودة يساندها الجيش الفاطمي وكبار الدولة، والخطر الصليبي لا يزال جاثماً على مقربة من أبواب مصر الشرقية، فكان عليه أن يثبت أقدامه في الحكم ليتفرغ لمجابهة ما قد ينشأ من تطورات سياسية، ولم يلبث أن أظهر مقدرة كبيرة في إدارة شؤون الدولة، وبدا أنه عازم على الاستئثار بكافة الاختصاصات حتى التي تخص منصب الخلافة ونفذ عدة تدابير كفلت له الهيمنة التامة منها:

* استمال قلوب سكان مصر بما بذل لهم من الأموال فأحبوه.

* أخضع مماليك أسد الدين شيركوه، وسيطر بشكل تام على الجند بعد أن أحسن إليهم.

* قوى مركزه بما كان يمده به نور الدين محمود من المساعدات العسكرية وقد وصل أخوه شمس الدولة توران شاه بن أيوب مع إحدى هذه المساعدات العسكرية، وقد أدت التدابير التي نفذها صلاح الدين إلى تقوية قبضته على مقدرات الدولة، وزادت من تراجع نفوذ العاضد وبالتالي مركز الإمامة، وأثارت استياء كبير الطواشية مؤتمن الخلافة، وهو نوبي، وقائد الجند السودان، وقد أدرك أن نهج صلاح الدين في الحكم سوف يقضي في حال استمراره على الدولة الفاطمية إن عاجلاً أو آجلاً، ويبدو أنه كان من بين الطامعين في خلافة شاور، ولما لم يفلح راح يحيك الدسائس للإطاحة بصلاح الدين وحاول الاتصال بعموري الأول ملك بيت المقدس لتحريضه على مهاجمة مصر، آملاً في حالة الاستجابة أن يخرج صلاح الدين إلى لقائه، فيقبض هو على من يبقى من أصحابه في القاهرة، ويثبت على منصب الوزارة وتتقاسم البلاد مع الصليبيين، غير أن صلاح الدين علم بخيوط المؤامرة حين ارتاب أحد أتباعه في شكل الخفين اللذين اتخذهما رسول مؤتمن الخلافة إلى عموري الأول، فأخذهما ونزع خياطتها، فاكتشف الرسالة بداخلها، فقبض على مؤتمن الخلافة، وانتهز الفرصة للتخلص منه، غير أن أنباء اهتزاز مركزه في مصر شجعت النصارى على القيام بمحاولة أخرى لمهاجمة مصر، وقد قام صلاح الدين بإبعاد جميع الخدم من السودان عن قصر الخلافة واستعمل على الجميع في القصر بهاء الدين قراقوش، فكان لا يجري في القصر صغير ولا كبير إلا بحكمه وأمره.

2- وقعة السودان:

وذلك أنه لما قتل الطواشي مؤتمن الخلافة الخادم الحبشي، وعزل بقية الخدام غضبوا لذلك واجتمعوا قريباً من خمسين ألفاً، فاقتتلوا هم وجيش الملك صلاح الدين بين القصرين، فقتل خلق كثير من الفريقين، وكان العاضد ينظر من القصر إلى المعركة، وقد قذف الجيش الشامي من القصر بحجارة، وجاءهم منه سهام، فقيل: كان ذلك بأمر العاضد وقيل: لم يكن بأمره، ثم إن أخا الناصر - صلاح الدين - شمس الدولة تورانشاه وكان حاضراً للحرب قد بعثه نور الدين إلى أخيه ليشد أزره أمر بإحراق منظرة العاضد، ففتح الباب ونودي: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تخرجوا هؤلاء السودان من بين أظهركم، ومن بلادكم، فقوى الشاميون وضعف جأش السودان جداً، وأرسل الملك الناصر إلى محلتهم المعروفة بالمنصورة التي فيها دورهم وأهلوهم بباب زويلة، فأحرقها فولوا عند ذلك مدبرين، وركبهم السيف فقتل منهم خلقاً كثيراً، ثم طلبوا الأمان من الملك صلاح الدين، فأجابهم إلى ذلك وأخرجهم إلى الجيزة، ثم خرج إليهم شمس الدولة تورانشاه أخو الملك صلاح الدين فقتل أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل: "فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا" [النمل: 52]، ويبدوا أن حاكم مصر الفاطمي العاضد كان في ذلك الوقت على علم بمؤامرة مؤتمن الخلافة؛ لأنه ليس من المنصور أن يجري ذلك في قصره وبدون علمه، ويؤكد ذلك أن قوات صلاح الدين يوسف بن أيوب تعرضت وهي تصفي أطراف المؤامرة لهجمات بالحجارة والسهام صادرة من قصر الحاكم، بل إن العاضد كان يراقب المعركة من القصر.

كان اكتشاف المؤامرة من مسؤوليات ديوان الإنشاء وبالذات القاضي الفاضل الذي كان العقل المفكر للقضاء على النفوذ الفاطمي في مصر وتثبيت المذهب السني، وسيأتي الحديث عنه مفصلاً بإذن الله في حديثنا عن الدولة الأيوبية.

كان القاضي الفاضل يراقب كتاب ديوان الإنشاء والمسرحين منهم بصورة خاصة، وكانت العيون مبثوثة في كل ناحية ومنطقة وزاوية، في القصور وبين العساكر، وعلى الحدود، وعلى كل محطة من محطات البريد أو محطات الاتصال بين مصر والفرنج وقد كانت هذه العيون على اتصال مباشر بالقاضي الفاضل تزوده بتقريرها بواسطة الرسل وعلى أجنحة حمام الزاجل.

صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.

ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد