3- وصول نجم الدين أيوب مصر:
طلب صلاح الدين من نور الدين إرسال والده إليه فوافق نور الدين على ذلك، وطلب من جم الدين أيوب أن يستعد للسفر إلى مصر وحمله رسالة إلى صلاح الدين يأمره فيها بالتعجيل في إلغاء الخلافة الفاطمية وإعلان الخطبة للخليفة العباسي.
وخرج مع القافلة التي سافر فيها نجم الدين أيوب عدد كبير من التجار وأصحاب المصالح في مصر، فخشي نور الدين على القافلة من الفرنجة وسار بجيشه إلى الكرك، وحاصرها حتى اطمأن إلى اجتياز القافلة لمنطقة الخطر فتركها وعاد إلى دمشق.
ووصل والد صلاح الدين نجم الدين أيوب إلى القاهرة في الرابع والعشرين من رجب سنة خمس وستين وخمسمائة، وخرج العاضد - صاحب القصر - لاستقباله وبالغ في احترامه والإقبال عليه واتفق لأيوب مع ولده صلاح الدين يوسف شبيه ما اتفق ليعقوب مع ابنه يوسف - عليهما السلام - حين قدم على ولده ووجده متملكاً للديار المصرية وقال:" ادخلوا مصر إن شاء الله إمنين" [يوسف:99].
وذكر أنه لما خرج ولده الملك الناصر صلاح الدين والخليفة العاضد إلى لقائه واجتمعا به قرأ بعض المقرئين:" ورفع أبوبه على العرش وخروا له سجداً وقال يأبت هذا تأويل رءيى من قبل" [يوسف: 100].
ولما اجتمع صلاح الدين بأبيه سلك معه من الأدب ما جرت به عادته وفوض إليه الأمر كله، فأبى ذلك عليه أبوه وقال: يا ولدي ما اختارك الله لهذا الأمر إلا وأنت كفؤ له، فلا ينبغي أن تغير مواقع السعادة، فحكمه في الخزائن بأسرها، وأنزله اللؤلؤة المطلة على خليج القاهرة وفي ما حدث لصلاح الدين من اجتماعه بوالده وأهله قال عمارة اليماني:
من شاكر والله أعظم شاكر
ما كان من نعمى بني أيوب
طلب الهدى نصراً فقال وقد أتوا
حسبي فأنتم غاية المطلوب
جلبوا إلى دمياط عند حصارها
عز القوي وذلة المغلوب
وحلوا عن الإسلام فيها كربة
لو لم يجلوها أتت بكروب
فالناس في أعمال مصر كلها
وعتقاؤهم من نازح وغريب
إن لم تظن الناس قشراً فارغاً
وهم اللباب فأنت غير لبيب
صحت به مصر وكانت قبله
تشكو سقاماً لم يعن بطبيب
عجباً لمعجزة أتت في عصره
والدهر ولاد لكل عجيب
رد الإله به قضية يوسف
نسقاً على ضرب من التقريب
جاءته إخوته ووالده إلى
مصر على التدريج والترتيب
وحكي أنه لما اجتمع صلاح الدين بوالده في دار الوزارة، وقعدا على طراحة واحدة ذكر نجم الدين أن صلاح ولد ليلة إخراجه من قلعة تكريت قال: فتشاءمت له وتطيرت لما جرى علي وكان معي كاتب نصراني فقا: يامولاي من يدرك أن هذا الطفل يكون ملكاً عظيماً الصيت جليل المقدار.
قال فعطفني كلامه عليه. فتعجبت الجماعة من هذا الاتفاق رحمه الله عليهم اجمعين. وقد توفي نجم الدين أيوب في "568ه" فقد ركب نجم الدين أيوب، فشبب به فرسه بالقاهرة عند باب النصر وسط المحجة يوم الإثنين الثامن عشر من ذي الحجة، وحمل إلى منزله، وعاش ثمانية أيام، ثم توفي في يوم الثلاثاء السابع والعشرين من ذي الحجة، وكان كريماً رحيماً وبابه مزدحم بالوفود، وهو متلف الموجود ببذل الجود وكان نجم الدين عظيماً في أنفس الناس بالدين والخير وحسن السياسة، وكان لا يمر أحد من أهل العلم والدين إلا حمل إليه المال والضيافة الجليلة، وكان لايسمع بأحد من أهل الدين في مدينة إلا أنفذ إليه، وكان صلاح الدين غائباً في بلاد الكرك والشوبك على الغزاة مواظباً، فدفن إلى جانب قبر أخية أسد الدين في بيت الدار السلطانية، ثم نقلا بعد سنين إلى المدينة الشريفة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وقبرهما في تربة الوزير جمال الدين الأصفهاني وزير الموصل وقد رثاه عمارة اليماني فقال:
صفو الحياة وإن طال المدى كدر
وحادث الموت لا يبقي ولا يذر
وما يزال لسان الدهر ينذرنا
لو أثرت عندنا الآيات والنذر
فلا تقل غرت الدينا مطامعنا
فما الموت لا غش وكدر
كأس إذا ما الردى حيا الحياة بها
لم ينج من سكرها أنثى ولا ذكر
كم شامخ العز لا قى الذل من يدها
ما أضعف القدر أن ألوى به القدر
في كل جيل وعصر من وقائعها
شعوا يقطر منها الناب والظفر
أودى علي وعثمان بمخلبها
ولم يفتها أبو بكر ولا عمر
ومن أراد التأسي في مصيبته
فللورى برسول الله معتبر
وقد خلف نجم الدين من الأولاد: صلاح الدين يوسف الناصر، وسيف الدين أبا بكر العادل، وشمس الدولة توران شاه، وشاهنشاه، وسيف الإسلام طغتكين، وتاج الملوك بوري، ومن البنات: ست الشام وربيعة خاتون.
خامساً: الغاء الخلافة الفاطمية العبيدية:
وتعتبر هذه الخطوة من أعظم المهام التي أنجزها صلاح الدين، فقد كان نور الدين حريصاُ كل الحرص على إنهائها - فكتب إلى نائبة صلاح الدين يأمر بإقامة الخطبة للخليفة العباسي المستضيء - فاعتذر صلاح الدين بالخوف من قيام أهل مصر ضده لميلهم إلى الفاطميين وبأنه لم يتهيأ لذلك بعد، إلا أن نور الدين أرسل إلى نائبه يلزمه بذلك إلزاماً لا فسحة فيه.
وكان الخليفة العباسي قد أرسل إلى نور الدين يعاتبه في تأخير إقامة الدعوة له بمصر، فأحضر الملك العادل نجم الدين أيوب، وحمله رسالة فيها: وهذا أمر تجب المبادرة إليه لنحظى بهذه الفضيلة الجليلة والمنقبة النبيلة قبل هجوم الموت وحضور الفوت لاسيما وإمام الوقت - المستنجد متطلع إلى ذلك بكليته وهو عنده من أهم أمنيته.
وكان صلاح الدين متهيباً متردداً في إسقاط تلك الخلافة، حيث أن ميراث العبيديين في مصر، كان عمره أكثر من مائتي سنة، وكان نور الدين يعتبر أن فتح مصر نعمة من نعم الله عليه وعلى المسلمين، من أجل توحيد البلاد على منهج أهل السنة وإزالة البدع والرفض، وكان نور الدين متفهماً لظروف صلاح الدين وكان يخاطبه بالأمير "أسفهلار" ولو أراد لأرسل خطاباً بعزله عن مصر وتوليته قطراً آخر، وهذا ما صرح به نجم الدين لولده صلاح الدين في مصر: إن أراد عزلك. . يأمر بكتاب مع نجاب حتى تقصد خدمته ويولي بلاده من يريد.
ومن دلائل احترام نور الدين لصلاح الدين ما جاء في خطابه لابن أبي عصرون يوليه قضاء مصر ويقول فيه: تصل أنت وولدك حتى أسيركم إلى مصر، وذلك بموافقة صاحبي، واتفاق منه، صلاح الدين، وفقه الله فأنا شاكر له كثير كثير كثير، جزاه الله خيراً وأبقاه ففي بقاء الصالحين والأخيار صلاح عظيم.
فحقيقة العلاقة بين القائدين احترام متبادل وتقدير عظيم، وسيأتي الحديث عن العلاقة بينمها بإذن الله والرد على الكتاب الذين تلقوا روايات ابن أبي طيئ الرافضي لذي حرص على تشويه وتلطيخ العلاقة بين الرجلين والطعن في سيرتهما كلها أمكنه ذلك.
1- التدرج في إلغاء الخطبة للخليفة الفاطمي:
استفاد صلاح الدين من الرجل الفذ الكبير القاضي الفاضل، فقد ساعده على إحكام خطة مدروسة للقضاء على الدولة الفاطمية والمذهب الشيعي الرافضي الإسماعيلي، وشرع صلاح الدين في تنفيذها بدقة متناهية، وبعد أن هيأ صلاح الدين المصريين للانقلاب وقلم أظفار المؤسسة الفاطمية، فعزل قضاة الشيعة وألغى مجالس الدعوة وأزال أصول المذهب الشيعي، ففي سنة "565ه/1169م" أبطل الأذان بحي على خير العمل محمد وعلي خير البشر.
ويعلق المقريزي بأن هذه أول وصمة دخلت على الدولة.
ثم أمر بعد ذلك، في يوم الجمعة العاشر من ذي الحجة "565ه/ 1169 1170م" بأن يذكر العاضد في الخطبة الجمعة الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان ثم علي وأمر بعد ذلك يذكر العاضد لدينك في الخطبة بكلام القضاء في القاهرة للفقيه عيسى الهكاري السني فاستناب القضاة الشافعيين في جميع البلاد وأنشأ المدارس لتدريس المذاهب السنية وهو في الوقت نفسه يضيق الخناق على العاضد، فيلغي مخصصاته ويحرمه من المال والخيل والرقيق ويمنع رسوم الخلافة، وهي حفلاتها الرسمية في الأعياد وغيرها، ويحتجز الخليفة في قصره فلا يسمح له بمغادرته إلا في مناسبات قليلة، منها خروجه لاستقبال نجم الدين أيوب والد صلاح الدين يوم جاء إلى القاهرة، وعمد إلى الخطة نفسها مع أمراء الجيش فأخذ يحد من نفوذهم شيئاً فشيئاً ثم قبض عليهم في ليلة واحدة وأنزل أصحابه في دورهم وفرق إقطاعاتهم عليهم.
وكان العاضد يتابع ذلك كله بقلب حزين ونفس كئيبة وقد خابت الآمال التي عقدها على صلاح الدين وانزوى في مخدعه فريسة للهم والمرضى، وأدرك صلاح الدين أن الفرصة باتت مؤاتية للقضاء على الدولة الفاطمية المحتضرة فعقد مجلساً كبيراً حضره أمراء جيشه وقواده وفقهاء السنة ومتصوفوها وسألهم الرأي والنصيحة، وقد اتفق رأي الحاضرين على اتخاذ تلك الخطوة الفاصلة في حياة البلاد.
وفي بداية سنة "567ه/ 1171- 1172م" قطع صلاح الدين الخطبة للفاطميين وكان قطعها بالتدريج أيضاً، ففي الجمعة الأولى من محرم "567ه/ 1171 - 1172م" حذف اسم العاضد من الخطبة ، وفي الجمعة الثانية خطب باسم الخليفة المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله: وقطعت الخطبة للعاضد لدين الله فانقطعت ولم تعد بعدها إلى اليوم الخطبة الفاطمية.
والملاحظ أن الخطبة للعباسيين قد تمت بالإسكندرية قبل القاهرة ومصر بنحو أسبوعين وذلك لأنها ظلت على المذهب السني طوال العصر الفاطمي وقد توفي العاضد في العاشر من محرم "567ه/ 1171 - 1172م" ويقال: إن صلاح الدين حين علم بوفاة العاضد الفاطمي بعد أيام ندم على أنه تعجل في قطع خطبته وقال: لو عرفنا أنه، أي الخليفة العاضد، يموت في هذا اليوم ما غصصناه برفع اسمه من الخطبة، فضحك القاضي الفاضل ورد عليه قائلاً: يا مولاي لو علم أنكم ما ترفعون اسمه من الخطبة لم يمت، فابتسم الحاضرون لهذه المداعبة الكلامية بين الوزير صلاح الدين وكاتبه ومستشاره التي انطوت فيها آخر صفحة من صفحات تاريخ الدولة الفاطمية العبيدية.
2- وفاة العاضد عام "567ه":
قال ابن كثير: والعاضد في اللغة: القاطع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة: "لا يعضد شجرها" أي: لا يقطع، فيه قطعت دولتهم، واسمه: عبدالله، ويكنى بأبي محمد بن يوسف الحافظ بن محمد بن المستنصر بن الظاهر بن الحاكم بن العزيز بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي أول ملوكهم، وكان مولد العاضد في سنة ست وأربعين، فعاش إحدى وعشرين سنة، وكانت سيرته مذمومة وكان شيعياً خبيثاً لو أمكنه قتل كل من قدر عليه من أهل السنة لفعل.
صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.