المؤلف/ علي محمد الصلابي
فعظم وقع هذا الكلام عندي حيث ناقض ما كان يخطر لي، وقلت له: ليس في الأرض أشجع نفساً من المولى، ولا أقوى نية منه في نصرة دين الله، فقال: وكيف؟ فقلت: أما الشجاعة فلأن مولانا ما يهوله أمر هذا البحر وهوله، وأما نصرة دين الله فهو أن المولى ما يقنع بقلع أعداء الله من موضع مخصوص في الأرض حتى تطهر جميع الأرض منهم.
ثم قلت: ما هذه إلا نية جميلة، ولكن المولى يسير في البحر العساكر، وهو سور الإسلام ومنعته لا ينبغي له أن يخاطر بنفسه، فقال: أنا أستفتيك: ما أشرف الميتات؟ فقلت: الموت في سبيل الله، فقال: غاية ما في الباب أن أموت أشرف الميتات، ومن رسالة القاضي الفاضل إلى صلاح الدين وهو بالشام يريد الجهاد وطرد العدو من ديار المسلمين، ولكن أموراً عاقت صلاح الدين عن المبادرة إلى الجهاد فتألم السلطان لذلك ألماً شديداً، فكتب إليه القاضي الفاضل يخفف عنه وقع هذا الألم، ومما كتبه إليه: وأما تأسف المولى على أوقات ينقضي عاطلها من الفريضة التي خرج من بيته لأجلها، ويجدد العوائق التي لا يوصل إلى آخر حبلها فللمولى نية رشده أوليس الله العالم بعبده، وهو سبحانه لا يسأل الفاعل عن تمام فعله لأنه غير مقدور له، ولكن عن النية لأنها محل تكليف الطاعة، وعن مقدور صاحبها من الفعل بحسب الاستطاعة، وإذا كان المولى آخذاً في أسباب الجهاد وتنظيف الطرق إلى المداد فهو في طاعة قد امتن الله عليه بطول أمدها، وهو منه على أصل في نجح موعدها، والصواب على قدر مشقته، وإنما عظم الحج لأجل جهده وبعد مشقته؛ ولو أن المولى فتح الفتوح العظام في أقل الأيام؛ وفصل القضية بين أهل الإسلام، وأعداء الإسلام؛ لكانت تكاليف الجهاد قد قضيت، وصحائف البر المكتسبة بالمرابطة والانتظار طويت.
سادساً: حلمه:
فالحلم آية حسن الخلق، وعنوان علو الهمة، فهو من أشرف الأخلاق، وأحقها بذوي الألباب، لما جعل الله فيه من الطمأنينة والسكينة والحلاوة وسلامة العرض، وراحة الجسد واجتلاب الحمد ورفعة النفس عن تشفيها بالانتقام؛ فلا ينل الرجل حتى يكون متخلقاً بهذا الخلق العظيم، قال تعالى: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" [الأعراف: 199].
وقال الشاعر:
صفوح عن الإجرام كأنه
من العفو لم يعرف من الناس مجرماً
وليس يبالي أن يكون به الأذى
إذا ما الأذى لم يغش بالكره مسلما
فقد كان السلطان صلاح الدين الأيوبي حليماً كثيراً ما يعفو عن أصحاب الذنوب، حسن الخلق صبوراً على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يعلمه بذلك ولا يتغير عليه، وكان يوماً جالساً فرمى بعض المماليك بعضاً بسرموزه - أي حذاء - فأخطأته ووصلت إلى السلطان ووقت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يتغافل عنها، وقال القاضي شهاب الدين: نفرت بغلتي يوماً من الجمال وأنا راكب في خدمته، فزحمت ركبته حتى أقلقته من الوجع وهو يبتسم، وكذلك سرق من خزانته كيسان من الذهب المصري وأبدلا بكيسين من الفلوس فلم يعمل للمباشرين سوى صرفهم، وقال القاضي ابن شداد: ولقد كنت في خدمته بمرج عيون قبل خروج الإفرنج إلى عكا، وكان من عادته أن يركب في وقت الركوب، ثم ينزل، فيمد الطعام، ويأكل مع الناس ثم ينهض إلى خيمة خاصة له ينام فيها، ثم يستيقظ من منامه ويصلي، ويجلس خلوة وأنا في خدمته، نقرأ شيئاً من الحديث أو شيئاً من الفقه، ولقد قرأ علي كتاباً مختصراً لسليم الرازي، يشتمل على الأرباع الأربعة في الفقه، فنزل يوماً على عادته، ومد الطعام بين يديه|، ثم عزم على النهوض، فقيل له: إن وقت الصلاة قد قرب، فعاد إلى الجلوس.
وقال: نصلي وننام، ثم جلس يتحدث حديث متضجر وقد أخلي ا لمكان إلا ممن لزم، فتقدم إليه مملوك كبير محترم عنده، وعرض عليه قصة لبعض المجاهدين، فقال له: أنا الآن ضجران، أخرها ساعة، فلم يفعل، وقد القصة إلى قريب من وجهه الكريم بيده، وفتحها بحيث يقرأها، فوقف على الاسم المكتوب في رأسها فعرفه فقال: رجل مستحق فقال: يوقع له المولى، ها هي، فقال: ليست الدواة حاضرة الآن، وكان جالساً في باب الخركاه بحيث لا يستطيع أحد الدخول إليها والدواةفي صدرها، فقال له المخاطب: هذه الدواة في صدر الخركاه! وليس لهذا المعنى إلا أمره إيساه بإحضار الدواة لا غير، فالتفت فرأى الدواة فقال: والله لقد صدق، ثم امتد على يده اليسرى ومد يده اليمنى فأحضرها، ووقع له، فقلت: قال الله تعالى في نبيه صلى الله عليه وسلم: "وإنك لعلى خلق عظيم" [القلم: 4]، وما أرى المولى إلا قد شاركه في هذا الخلق، فقال: ما ضرنا شيء، قضينا حاجته وحصل الثواب، ولو وقعت هذه الواقعة لآحاد الناس وأفرادهم لقام وقعد، ومن الذي يقدر أن يخاطب أحداً هو تحت حكمه بمثل ذلك، وهذا غاية الإحسان والحلم والله لا يضيع أجر المحسنين.
لقد كان صلاح الدين يسمع من المستغيثين إليه والمتظلمين أغلظ ما يمكن أن يسمع ويلقى ذلك بالبشر والقبول، وهذه حكاية يندر أن يسطر مثلها: وذلك أنه كان قد اتجه أحد ملوك الإفرنج - خذلهم الله - بيافا، فإن العسكر كان قد رحل عنهم، بعد وتراجع إلى النطرون، وجرد العسكر ومضى إلى قيسارية يتلقى نجدتهم، عساه يبلغ منها غرضاً، وعلم الإفرنج الذين كانوا بيافا ذلك وكان بها الأنكتار ومعه جماعة، فجهز معظم من كان عنده في الركب إلى قيسارية، خشية على النجدة أن يتم عليها أمر، وبقي الأنكتار في نفر يسير لعلمهم ببعده عنهم وبعد العسكر، ولما وصل صلاح الدين إلى قيسارية ورأى النجدة قد وصلت إلى البلد واحتمت به، وعلم أنه ما ينال منهم غرضه، سرى من ليلته من أول الليل إلى آخره حتى أتى يافا صباحاً، والأنكتار في سبعة عشر فارساً وتقدير ثلاثمائة راجل، نازلاً خارج البلد في خيمة له، فصبحه العسكر صباحاً، فركب الملعون، وكان شجاعًا باسلاً صاحب رأي في الحرب، وثبت بين يدي العسكر، ولم يدخلها البلد فاستدار العسكر الإسلامي بهم إلا من جهة البلد، وتعبئ العسكر تعبية القتال، وأمر السلطان العسكر بالحملة انتهاز الفرصة، فأجابه بعض الأكراد الأمراء بكلام فيه خشونة حاصلة، تعتب لعدم التوفير في إقطاعه، فعطف عنان فرسه كالمغضب، لعلمه أنهم لا يعملون في ذلك اليوم شيئاً وتركهم وانصرف راجعاً، وأمر بخيمته التي كانت منصوبة أن قلعت، وانفض الناس عن العدو، متيقنين أن السلطان في ذلك اليوم ربما صلب وقتل جماعة، ولم يزل السلطان سائراً حتى نزل بيازور وهي مرحلة لطيفة، فضربت له خيمة لطيفة هنالك، ونزل بها، ونزل العسكر في منازلهم تحت صايوانات لطيفة كما جرت العادة في مثل ذلك الوقت، وما من الأمراء إلا من يرعد خيفة، ومن يعتقد أنه مأخوذ مسخوط عليه، قال: ولم تحدثني نفسي بالدخول عليه خيفة حتى استدعاني، قال: قد خلت عليه وقد وصله من دمشق المحروسة فاكهة كثيرة، فقال: اطلبوا الأمراء حتى يأكلوا شيئاً، قال: فسري عني ما كنت أجده، وطلبت الأمراء، فحضروا وهم خائفون فوجدوا من بشره وانبساطه ما أحدص لهم الطمأنينة والأمن والسرور، وانصرفوا عنه على عزم الرحيل، كأن لم يجر شيء أصلاً، ولم يكن حلمه رحمه الله قاصراً على أتباعه ورعيته وجنده، وإنما تعدى ذلك إلى الأعداء الذين كانوا يحاربونه ويحاربهم، كما سيأتي بيانه بإذن الله تعالى.
سابعاً: محافظته على أسباب المروءة:
فالمروءة: هي جماع مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، وكمال الرجولة، فهي تبعث على إجلال صاحبها، وامتلاء الأعين بمهابته وحقيقة المروءة قوة للنفس، مبدأ لصدور الأفعال الجميلة عنها، المستتبعة للمدح شرعاً، وعقلاً وعرفاً، وقال ابن القيم: وحقيقة المروءة: تجنب للدنايا والرذائل من الأقوال والأخلاق والأعمال، فمروءة اللسان: حلاوته وطيبه، ولينه، واجتناء الثمار منه بسهولة ويسر، ومروءة الخلق: سيعته وبسطه للحبيب والبغيض، ومروءة المال: الإصابة ببذله في مواقعه المحمودة عقلاً، وعرفاً، وشرعاً، ومروءة الجاه: بذله للمحتاج إليه، ومروءة الإحسان: تعجيله، وتيسيره وتوقيره وعدم رؤيته حال وقوعه، ونسيانه بعد وقوعه، فهذه مروءة البذل، وأما مروءة الترك: فترك الخصام، والمعاتبة، والمطالبة، والمماراة.
قال الشاعر:
إني لتطربني الخلال كريمة
طرب الغريب بأوبة وتلاق
وتهزني ذكرى المروءة والندى
بين الشمائل هزة المشتاق
ولقد كان السلطان صلاح الدين كثير المروءة، ندي الوجه، كثير الحياء، مبسوط الوجه لمن يرد عليه من الضيوف، لا يرى أن يفارقه الضيف حتى يطعم عنده، وما يخاطبه في شيء إلا وينجزه، وكان يكرم الوافد عليه، وإن كان كافراً، يقول القاضي ابن شداد: ولقد رأيته وقد دخل عليه صاحب صيدا بالناصرة، فاحترمه وأكرمه، وأكل معه الطعام، ومع ذلك عرض عليه الإسلام فذكر له طرفاً من محاسنه وحثه عليه، وكان يكرم من يرد عليه من المشائخ وأرباب العلم والفضل وذوي الأقدامر، وكان يوصينا بأن لا نغفل عمن يجتاز بالخيم من المشائخ المعروفين حتى يحضرهم عنده وينالهم من إحسانه، ولقد مر بنا سنة أربع وثمانين وخمسمائة رجل جمع بين العلم والتصوف وكان من ذوي الاقتدار، وكان مشتغلاً بالعلم، وحج ووصل زائراً لبيت الله المقدس.
ولما قضى لبانته منه، ورأى آثار السلطان فيه، وقع له زيارته، فوصل إلينا في العسكر المنصور، وما أحسست به إلا وقد دخل علي في الخيمة، فلقيته ورحبت به، وسألته عن سبب وصوله، فأخبرني بذلك وأنه يؤثر زيارة السلطان لما رأى من الآثار الحميدة الجميلة، فعرفت السلطان تلك الليلة وصول هذا الرجل، فاستحضره وروى عنه حديثاً، وشكره عن الإسلام وحثه على الخير، ثم انصرفنا، وبات عندي في الخيمة، فلما صلينا الصبح أخذ يودعني، فقبحت له المسير بدون وداع السلطان، فلم يلتفت ولم يلو علي ذلك.
وقال: قضيت حاجتي منه، ولا غرض لي فيما عدا رؤيته وزيارته، وانصرف من ساعته، ومضى على ذلك ليال، فسأل السلطان عنه فأخبرته بفعله، فظهر عليه آثار التعتب، كيف لم أخبره برواحه، وقال: وكيف يطرقنا مثل هذا الرجل وينصرف عنا من غير إحسان يمسه منا؟ وشدد النكير علي في ذلك، فما وجدت بداً من أن أكتب كتاباً إلى محيي الدين قاضي دمشق كلفته فيه السؤال عن حال الرجل، وإيصال رقعة كتبتها إليه طي كتابي، وأخبرته فيها بإنكار السلطان رواحه من غير اجتماعه به وحسنت له فيها العود وكان بيني وبينه صداقة تقتضي مثل ذلك، فما أحسست به إلا وقد عاد إلي، فكتبت رقعة وأعلمته بذلك، فكتب إلي يقول: تحضره معك ففعلت ذلك، فرحب به وانبسط معه واستوحش له، وأمسكه أياماً ثم خلع عليه خلعة حسنة، وأعطاه مركوباً لائقاً وثياباً كثيرة، يحملها إلى أهل بيته وأتباعه وجيرانه، ونفقة يرتفق بها، وانصرف عنه وهو أشكر الناس وأخلصهم دعاء لأيامه، قال ابن شداد: ولقد رأيته وقد مثل بين يديه أسير إفرنجي وقد هابه، بحيث ظهرت عليه أمارات الخوف والجزع، فقال له الترجمان: من أي شيء تخاف؟ فأجرى الله على لسانه أن قال: كنت أخاف قبل أن أرى هذا الوجه، فبعد رؤيتي له وحضوري بين يديه أيقنت أني ما أرى إلا الخير، فرق له، ومنّ عليه وأطلقه.
صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.