;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس ..الحلقة الثامنة والأربعون 1591

2008-10-20 22:26:17

المؤلف/ علي محمد الصلابي

2- مدرسة المشهد الحسيني:

وبنى صلاح الدين مدرسة بالقاهرة بجوار المشهد المنسوب - ظلماً وزوراً - إلى الحسين، وجعل عليها وقفاً كبيراً، كما أشار المقريزي إليها أثناء حديثه عن المشهد الحسيني فقال: ولما ملك السلطان الناصر جعل به حلقة تدريس وفقهاء ، فوضها للفقيه: البهاء الدمشقي وكان يجلس عند المحراب الذي الضريح خلفه، فلما وزر معين الدين حسن ابن شيخ الشيوخ " الملك الكامل". .

جمع من أوقافه ما بنى به إيوان التدريس الآن، وبيوت الفقهاء العلوية وإذا كان الهدف العام الذي ابتغاه صلاح الدين من زرع المدارس السنية في مصر هو التمكين لمذهب السنة والقضاء على المذهب الشيعي، فإن لإنشاء هذه المدرسة في داخل المشد الحسيني مغزى خاصاً، فقد كان من المعاقل الأخيرة التي يلجأ إليها بقايا الشيعة في مصر، ومن استطاع الفاطميون أن يستميلوا عواطفهم من عوام السنة، ولذا كان من الضروري أن توجد مدرسة في هذا المكان لتعليم الدين الصحيح، ومحاربة ما نشره الفاطميون من بدع.

3- المدرسة الفاضلية:

ومن المدارس الهامة التي أنشئت في هذا العصر: المدرسة الفاضلية التي بناها القاضي الفاضل سنة"580ه/ 184م" ووقفها على الشافعية والمالكية، وخصص إحدى قاعاتها لإقراء القرآن الكريم وتعليم علم القراءات على الإمام القاسم أبي محمد الشاطبي "صاحب الشاطبية ت 596ه/1294" ووقف على هذه المدرسة عدداً كبيراً من الكتب قيل: إنها بلغت مائة ألف كتاب، وجعل إلى جانبها كتاباً وقفه على تعليم الأيتام، ووصف المقريزي هذه المدرسة بقوله: وكانت هذه المدرسة من أعظم مدارس القاهرة وأجلها، كما بنى السلطان العادل: أخو صلاح الدين مدرسة للمالكية، وكذلك فعل وزيره صفي الدين عبدالله بن شاكر "ت 630ه/1232" إذ أقام مدرسة للمالكية في موضع دار الوزير الفاطمي يعقوب بن كلس، وكان ابن شاكر عالماً متفقهاً على مذهب الإمام مالك.

4- دار الحديث الكمالية:

وكان للملك الكامل بن العادل شغف بسماع الحديث الشريف، كما كان معظماً للسنة وأهلها، راغباً في نشرها ، فأنشأها بالقاهرة أول دار لتدريس الحديث، وهي: المدرسة الكاملية وذلك في عام "622ه/1225م"، ووقفها على المشتغلين بالحديث النبوي، ثم من بعدهم على الفقهاء الشافعية، وأسند مشيختها إلى الحافظ عمر بن حسن الأندلسي "المعروف بابن دحية "ت 633ه/1235م" وكان بصيراً بالحديث معتنياً به، وتأدب الملك الكامل على يديه.

5- المدرسة الصالحية:

أما المدرسة التي بناها الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل فقد أقامها مكان قصر الفاطميين الشرقي، وشرع في إنشائها في عام "639ه/ 1241م" مستوحياً فكرتها من المدرسة المستنصرية، حيث وقفها على المذاهب الأربعة ورتب فيها دروساً لهذه المذاهب في عام "641ه/1243م" يقول المقريزي عنه: وهو أول من عمل بديار مصر دروساً أربعة في مكان.

وتأتي أهمية هذه المدرسة في أنها أتاحت الفرصة للحنابلة كي يسهموا بجهودهم في حركة الإحياء السني في مصر، ذلك أنهم حتى تاريخ إنشاء هذه المدرسة كانوا الفئة الوحيدة - من بين طوائف السنة - التي لم يهتم الأيوبيون الأولون بإنشاء مدارس لها، ولعل السر في عدم الاهتمام بأمرهم أنهم كانوا قلة نادرة، يؤكد هذا ما يقوله السيوطي عنهم وهو بصدد ذكر فقهائهم في مصر: هم بالديار المصرية قليل جداً، ولم أسمع بخبرهم فيها إلا في القرن السابع وما بعده.

ويوضح السر في هذا بقوله: إن مذهب أحمد لم يبرز خارج العراق إلا في القرن الرابع الذي ملك فيه العبيديون مصر ، وأفنوا من كان بها من أئمة المذاهب الثلاثة: قتلاً ونفياً وتشريداً، وأقاموا مذهب الرفض والشيعة، حتى إذا ما سقطت دولتهم تراجع العلماء إليها من سائر المذاهب.

ولم تكن جهود الأيوبيين - من إنشاء المدارس - مقصورة على القاهرة وحدها، وإنما امتدت إلى مدن أخرى في مصر ، ففي القيوم أنشأ تقي الدين عمر مدرستين: إحداهما: للشافعية، والأخرى: للمالكية، وأنشأ صلاح الدين مدرسة للشافعية بمدينة الإسكندرية في عام 577ه/1181م"، وكانت الأوقاف الكثيرة وتيسير سبل المعيشة في هذه المدارس للأساتذة والطلاب إحدى الوسائل الهامة التي أسهمت في جذب العلماء وطلاب العلم إلى مصر، وقد كان من المتبع عند تأسيس أي مدرسة أن يوقف عليها ما يكفي لاستمرار سلطانه: المدارس والحارس الموضوعة فيه لأهل الطلب والتعبد يفدون من الأقطار النائية فيلقى كل واحد منهم مسكناً يأوي إليه، ومدرساً يعلمه الفن الذي يريد تعلمه، وإجراء يقوم به في جميع أحواله، واتسع اعتناء السلطان بهؤلاء الطارئين حتى أمر بتعيين حمامات يستحمون فيها، ونصب لهم ما رستاناً لعلاج من مرض منهم، ووكل بهم أطباء يتفقدون أحوالهم.

وأشار ابن جبير إلى كثرة مساجد الإسكندرية حتى إن المكان الواحد به أربعة أو خمسة مساجد وربما كانت المساجد مركبة، "أي مكونة من مسجد ومدرسة" وكلها بأئمة مرتبين من قبل السلطان، فمنهم من له خمسة دنانير مصرية في الشهر، ومنهم من له فوق ذلك، ومنهم من له دونه، وهذه منقبة كبيرة من مناقب السلطان.

وهذه الصورة المشرقة التي رسمها ابن جبير لجهود صلاح الدين في الإسكندرية توحي بعظم جهوده في هذا المجال بالنسبة لبقية البلاد، ذلك أن الإسكندرية ظلت معقلاً لأهل السنة في العصر الفاطمي، وكان بها في أواخر هذا العهد مدرستان إحداهما للمالكية: وهي مدرسة الحافظ بن عوف الزهري، والأخرى للشافعية: وهي مدرسة الحافظ السفلي، واستطاعت هاتان المدرستان أن تقوما بدور كبير في الحفاظ على التراث السني في مصر الفاطمية، حتى أن القاضي الفاضل قد ذكر هذه الحقيقة في إحدى الرسائل التي بعث بها صلاح الدين على نور الدين إثر اكتشافه لأحد دعاة الفاطميين في الإسكندرية، فيقول: ومما يطرف به المولى أن ثغر الإسكندرية على عموم مذهب السنة.

فإذا كانت أوقاف صلاح الدين في الإسكندرية التي حافظت على سنيتها بهذه الكثافة فلا شك أنها في البلاد الأخرى التي لقيت دعوة الفاطميين فيها رواجاً كان أكثر وأكبر، يدلنا على ذلك ما قرره صلاح الدين لنجم الدين الخبوشاني مدرس الصلاحية، فقد خصص له أربعين ديناراً في الشهر عن التدريس، وعشرة دنانير عن النظر في أوقاف المدرسة، وستين رطلاً من الخبز في كل يوم وراويتين من ماء النيل.

وقد أكمل ابن جبير لنا الصورة حينما تابع رصده لجهود صلاح الدين في القاهرة، كي ييسر أسباب العلم للراغبين فيه فيقول: ومن العجيب أن القرافة كلها مساجد مبنية، ومشاهد معمورة يأوي إليها الغرباء والعلماء والصلحاء والفقراء، والإجراء على كل موضع منها متصل من قبل السلطان في كل شهر، والمدارس التي بمصر والقاهرة كذلك، وحقق عندنا أن الإجراء على ذلك كله نيف على ألفي دينار مصرية في الشهر.

ومن هذا يتضح أن صلاح الدين وهو يتابع مسيرة الإحياء السني في مصر لم يكتف بإنشاء المدارس، وإنما كان حريصاً أيضاً على جذب علماء السنة إليها من جميع أنحاء العالم الإسلامي كي يشاركوا بجهودهم في هذا الإحياء الفكري، بعد أن كرس الفاطميون جهودهم للقضاء على علماء السنة في مصر، وقد مر بنا قبل قليل ما سجله عليهم السيوطي من أنهم أفنوا من كان بها من أئمة المذاهب الثلاثة؛ قتلا ونفياً وتشريداً، حتى إذا سقطت دولتهم تراجع العلماء من سائر المذاهب السنية إليها، وكانت جهود صلاح الدين أكبر مشجع لهذه الهجرات التي قام بها العلماء السنيون إلى مصر، وكما اهتم صلاح الدين بجذب العلماء إلى مصر فإنه اهتم كذلك بجذب الصوفية، فأنشأ لهم أول "خانقاه" للصوفية في مصر، وجعلها "برسم الفقراء الصوفية الواردين من البلاد الشاسعة" ووقف عليهم أوقافاً جليلة، وولى عليهم شيخاً يدبر أمورهم عرف بشيخ الشيوخ، ويذكر المقريزي أن سكانها من الصوفية كانوا معروفين بالعلم والصلاح، وأن عدد من كان بها بلغ الثلاثمائة، وقد رتب لهم السلطان الخبز واللحم والحلوى في كل يوم، وأربعين درهماً من العام ثمن كسوة، وبنى لهم حماماً بجوارهم، ومن أراد منهم السفر أعطي نفقة تعينه على بلوغ غايته.

وهذه العناية الزائدة بأمور الصوفية كانت تستهدف - في ظني - غرضاً معيناً يتعلق بحركة الإيحاء السني، فعلى الرغم من أن التصوف المعتدل كان اتجاهاً له احترامه من قبل الحكام وعامة الناس في هذا العصر، إلا أن الاهتمام به على هذا النحو في مصر بالذات كان عملاً مقصوداً، ويهدف إلى تحقيق غاية معينة، ولعل السر في هذا هو أن الفاطميين في مصر قد عجزت أساليبهم المتعددة - في الدعوة إلى مذهبهم - عن أن تتسلل إلى عقائد معظم المصريين، ولكنها بسهولة أثرت في عواطفهم، فمظاهر الحزن والبكاء على الحسين، والاحتفال بموالد أهل البيت، واحتفاء الفاطميين بهذه الاحتفالات وغيرها، كل ذلك ترك تأثيره في عواطف المصريين، وما تزال بقية من آثاره موجودة إلى اليوم/ وإذا كان صلاح الدين حاول جذب علماء السنة إلى مصر في كل مكان، ليشاركوا بعلومهم وفكرهم في حركة الإحياء السني، فإن هناك جانباً هاماً كان لابد من العمل على إشباعه وتحويله من الوجهة التي اتجه بها الفاطميون إلى وجهة أخرى، هذا الجانب الهام هو الجانب العاطفي في الناس والذي سيطر عليه الفاطميون بسهولة، وكان الصوفية من الفئات القادرة على إشباع هذا الجانب يومها: بأخلاقهم السهلة السمحة، وزهدهم في متاع الدنيا، وقدرتهم على مخاطبة عواطف الناس عن طريق مجالس الوعظ والذكر وغير ذلك، وفعلاً نجح الصوفية في العصر الأيوبي في لفت أنظار الناس إليهم وإلى رسومهم، وطقوسهم.

فيحكي المقريزي: أن الناس كانوا يأتون من مصر إلى القاهرة ليشاهدوا صوفية خانقاه "سعيد السعداء" وهم متوجهون إلى جامع الحاكم لأداء صلاة الجمعة، حتى تحصل لهم البركة والخير بمشاهدتهم.

وقد تمكن صلاح الدين وخلفاؤه بفضل جهودهم في جذب علماء السنة إلى مصر من أن يخرجوها من عزلتها الفكرية، وأن يعيدوا صلتها الوثيقة بمراكز الثقافة السنية في العالم الإسلامي: كبغداد ودمشق وقرطبة بعد أن قطع الفاطميون كل صلة لها بهذه المراكز، وتخلف عطاء مصر في مجال الفكر السني ما يزيد عن القرنين ونصف من الزمان. <

صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.

ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد عبدالملك المقرمي

2024-11-29 03:22:14

نوفمبر المتجدد

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد