المؤلف/ علي محمد الصلابي
2- حماية صلاح الدين لطريق الحج البري لحجاج مصر والمغرب، والأندلس:
أدرك الصليبيون خطورة فريضة الحج، كركن أساسي من أكارن الإسلام يحقق للمسلمين الوحدة الروحية ، ويوثق بينهم رابط اجتماعية وفكرية كفيلة بتعضيد شعورهم بالولاء إلى أمة واحدة، وكيان اجتماعي واحد؛ فعمدوا أحياناً إلى مهاجمة قوافل الحج والتجارة المصرية، المارة عبر صحراء سيناء ، وفي طريق الحجاج الشهير ونهبها، مما أدى إلى تعطيل الطريق البري للحجاج الوافدين من الأندلس والمغرب ومصر ، واضطرارهم إلى سلوك طرق طويل يبدأ من الإسكندرية إلى الفسطاط، إلى مدينة قوص بصعيد مصر ثم منها يخترق الحجاج صحراء عيذاب، حتى يصلوا إلى ميناء عيذاب على البحر الأحمر، ومنها يركبون السفن الصغيرة المعروفة ب"الجلاب" حتى ميناء جدة؛ وكانت هذه الرحلة طويلة شاقة عاناً منها الحجاج الأمرين، وكان قطع الصليبيين لطريق الحج البري عبر سيناء، قد تم لهم بعد استيلائهم على حصن الكرك، مما جعل استرداد هذا الحصن من أهم أهداف نور الدين زنكي، ثم صلاح الدين الأيوبي حين كان نائبه بمصر، قبل استقلاله بالسلطنة؛ لذلك عمد نور الدين إلى محاصرة الكرك حصاراً مزدوجاً من ناحية الشام ومن ناحية مصر في نفس الوقت، وكاد يتم له استرداده.
وحين استقرت السلطنة لصلاح الدين، جعل الكرك هدفاً لأول غزوة من مغازيه للفرنج ليصل طريق القوافل والتجارة عبر سيناء ، بين مصر والشام، ويؤمن طريق الحج المصري البري بعد انقطاعه، ولا شك أن حملة أرناط البحرية على البحر الأحمر ومحاولتها الوصول إلى الأرضي الحجارية، واختطاف جثمان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، كانت على علم تام بأهمية حج المسلمين إلى الأراضي الحجازية، وزيارة المدينة النبوية والمسجد النبوي الشريف.
ولم يقصر لؤلؤ قائد الأسطول المصري في أسر هؤلاء الفرنج، وإدخالهم إلى القاهرة في هيئة مزرية، وعلى صورة من الذلة والمهانة وصفها لنا ابن جير؛ ثم أرسل لؤلؤ بعض هؤلاء الأسرى على المدنية المنورة، حيث ذبحوا ذبحاً، فلا غرو أن لقب صلاح الدين ب"خادم الحرمين الشريفين" و"منقذ بيت المقدس من ايدي المشركين"؛ وليس أدل على الأهمية العظمى التي أولاها العالم الإسلامي لتأمين طريق الحجاج المسلمين على مكة وحرص الأيوبيين على إنجازها مما صرح به العماد الأصفهاني مؤرخ صلاح الدين، من أن تأمين طريق الحج إلى مكة من أهم دوافع صلاح الدين لفتح بيت المقدس واسترداده من الصليبيين.
3- الإشراف المباشر لملوك بني أيوب على موسم الحج:
داوم ملوك بني أيوب على حماية طريق الحج وتأمينه، وحماية لواء الحج العراقي، الممثل لسيادة الخليفة الروحية على العالم الإسلامي، وكان هذا عادة ما يكون من حظ ايوبي اليمن وذلك حتى في حياة صلاح الدين، فكان يخطب لهم بالحرمين بعد صلاح الدين سلطان مصر، ففي سنة "582ه/1186م" وصل سيف الإسلام طشتكين ملك اليمن الأيوبي بنفسه إلى الكعبة، ليمنع الأذان الشيعي بها بحي على خير العمل ، وليمنع العبيد الموالين لأمير مكة الذي يأخذون الحجاج، وطلب مفتاح الكعبة من أمير مكة، ليكون هو الحتمي للحرم المكي من الناحية الفعلية؛ وذلك بعد أن حاول أمير مكة إغلاق باب الكعبة، وإعطاء مفتاحه لسدنته من بني شيبة، الذين ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيبقى في أيديهم إلى يوم الدين، حتى يرغم طشتكين على الدعوة دون طلب مفاح الكعبة، فهدد طشتكين بأخذه قصراً، وهنا أذعن أمير مكة، وسلم المفتاح لطشتكين، الذي سلمه بدوره لبني شيبة.
ومما يؤكد اهتمام سلاطين بني أيوب بموسم الحج ماذكره مؤرخوه سيرة صلاح الدين من استحداثه رسوماً خاصة باستقبال موكب الحج الشامي، وذلك خلال إقامته بدمشق، فكان صلاح الدين يركب ركوباً عسكرياً، مرتدياً الزي العسكري الكامل، ويخرج في احتفال عام، ويقطع به شوارع دمشق، سالكاً طرقاً محددة، وإذا كان المؤرخون قد لاحظوا أن أحداً من سلاطين مصر الأيوبية لم يحج بنفسه لانشغالهم الدائم بجهاد الصليبيين، فقد حج من أيوبي اليمن الملك المعظم شمس الدولة توران شاه أخو صلاح الدين وفاتح اليمن ، وأول ملوكها؛ ثم الملك المسعود المعروف باقسيس، ابن الملك الكامل سلطان مصر، وحج من أيوبي الشام: الملك المعظم عيسى ابن العادل أبي بكر، صاحب دمشق، والملك الناصر داود بن المعظم عيسى صاحب الكرك، لقد حاز الأيوبيون منذ عصر صلاح الدين، شرف حماية فريضة الحج والإشراف على الحرمين الشريفين وتعضيد النفوذ السياسي لأمير لواء الحج العراقي على بلاد الحجاز، كما أصبحت السلطنة الأيوبية هي حامية الدعوة العباسية والعاملة على نشر دعوتها في جميع ديار الإسلام، سواء في ممتلكات الدولة الفاطمية أو في نفوذ دولة الموحدين بالمغرب، وفوق ذلك في البلاد الإسلامية بالشام التي تم استرادادها من الصليبيين، ولا ريب ان تفرد سلاطين بني أيوب بالنهوض بأعباء الدعوة العباسية، وحماية الخليفة العباسي، وإلزام ملوك الأطراف إظهار الطاعة والتبعية له قد أمد السلطنة الأيوبية بسند شرعي، جعلها تتصدر الزعامة السياسية للعالم الإسلامي، والجدير بالملاحظة أن أول السنيين الذي اضطلعوا بحماية فريضة الحج، قبل نور الدين زنكي وتلاميذته سلاطين بني أيوب، كان السلطان محمود الغزنوي أول السلاطين السنيين وأقدمهم ظهوراً في استن وسائل حماية هذه الفريضة لمن بعده من السلاطين، فبنى أحواض الماء على طريق الحجاز، ورفع المكوس ورسوم الحفاوة عن طريق الحج، وأقطع أمراء الحرمين نظير ذلك الإقطاعات والأموال، وكانوا يأخذون قبل ذلك من كل سبعة دنانير ذهبية وأنعم كذلك على عرب البادية وعلى مجاوري الكعبة بالإنعامات الطائلة.
سادساً: محاربة الأيوبيين للتشيع في مصر والشام واليمن:
ليس من السهل اليسير أن يقتلع مذهب من المذاهب بمجرد تغير النظام السياسي في بلد من البلاد، إنما يحتاج التغيير إلى سنوات عديدة وإلى تدابير ليست من تدابير القوة والبطش فحسب، لذلك فالملاحظ أن صلاح الدين قد استخدم وسائل وأساليب عديدة في سبيل القضاء على الدعوة الفاطمية بمصر جاءت بعض هذه الأساليب تتسم بالشدة والحسم الفوري المباشر، والبعض الآخر اتخذ وسيلة الحيلة والتدرج، واستخدم بعضها القوى العسكرية، في حين نهج البعض الآخر سبيل الدعوة والتعليم والإقناع، والاستمالة عن طريق المنشآت الاجتماعية والدينية الخيرية وما يوقف عليها من أوقاف للصرف عليها، وكان للقاضي الفاضل دور بارز في رسم هذه الإستراتيجية، وقد تحدثت عن هذه الوسائل عند حديثنا عن زوال الدولة الفاطمية والتي كان من أهم أسبابهم: إذلال الخليفة الفاطمي العاضد، ووضعه من مكانته وهيبة قصر الدولة الفاطمية، وقطع الجمعة الجامعة من الجامع الأزهر، وإبطال تدريس الفكر الفاطمي به، وإتلاف وحرق الكتب الشيعية الإسماعيلية، وإلغاء جميع الأعياد المذهبية للفاطميين، وإحياء قضية انتحال النسب الفاطمي إلى البيت النبوي، والاستمرار في ملاحقة بقايا التشيع في الشام واليمن،ويبدو أن الشيعة وأنصار الفاطميين بمصر قد فروا إلى صعيد مصر والتفوا حول أحد أمراء العرب المتحمسين للدولة الفاطمية، وكان يلقب كنز الدولة إلا أن صلاح الدين بعث أخاه الملك العادل على جيش، استطاع القضاء على هذه الفتنة، وكانت الدولة الأيوبية تتصدى بحزم لكل المحاولات الفاطمية لإرجاع مصر إلى المذهب الشيعي الإسماعيلي، واستمر الأيوبيون في الانتصار للعقيدة السينية وإبادة التراث الشيعي الرافضي، وتتبعوا أتباعه في القاهرة والصعيد، حتى لم يجسر أحد على التظاهر بمذهبها، فانقرضت دعوتها من مصر، واستمروا في ملاحقة أتباع الدعوة في الشام واليمن حتى استطاعوا القضاء على الدعوة الإسماعيلية بمصر واليمن والشام، واستكملوا ما بدأه الغزنويون والسلاجقة والزنكيون في محاربة الدعوة الشيعية الإسماعيلية ونشر الدعوة السنية في إيران والشام، ولقد أدركت الإسماعيلية أن دعوتهم لم تصب طول تاريخها على يد السلاطين السنيين مثل الغزنويين والسلاجقة بمثل النكبة التي نكبوبها بسقوط الدولة الفاطمية، وهي أعظم دولة شيعية قامت في التاريخ الإسلامي استحوذت الخلافة وكادت تضم العالم الإسلامي كله تحت لوائها حين خطب لها ببغداد سنة "450ه/2058" فلا غرو نظر الشيعة الإسماعيلية كلهم إلى صلاح الدين على أساس أنه هو الذي أزال دولتهم الكبرى من مصر ولهذا فالأقلام الشيعية الرافضية عبر التاريخ لا تكل ولا تمل في تشويه سيرة الناصر صلاح الدين الأيوبي.
ولقد ظل التشيع في مصر يضعف شيئاً فشيئاً، حتى كاد يمحى منها، وأصبحت مصر تدين بمذهب أهل السنة والجماعة.
سابعاً: من العوامل التي ساعدت الأيوبيين على حركة الإحياء السني:
من العوامل التي ساعدت على نجاح الأيوبيين في حركة الإحياء السني عوامل متعددة منها: لم يكن المذهب الشيعي الإسماعيلي راسخ القدم، وكان للمصريين تجاهه موقفان، الأول: موقف الإعجاب بأصحاب هذا المذهب نتيجة ما بذلوه من جهود في الدعوة إلى مذهبهم، كان من بينهم: الإكثار في الاحتفالات والدعوات والولائم، والسخاء في منح الهدايا والأعطيات، ومظاهر الترف والبذخ التي كانت تحيط بهم في شتى مناشط الحياة ومظاهر الأبهة والعظمة التي كانوا يحرصون دائماً على الظهور بها والموقف الثاني: موقف من قبل دعوتهم وانخرط في سلكها ومعظم هؤلاء دلوا في الدعوة إما طمعاً في المال أو الجاه أو المنصب وإما خوفاً من التنكيل والعقاب، وكلا الفريقين لم يعتنقا المذهب عن عقيدة وإيمان.
وقد سلك الفاطميون طريق الترغيب والترهيب في الدعوة إلى مذهبهم ضمن العلماء وأجرى لجميعهم الأرزاق، وألزم الفاطميون جميع الموظفين - بعد فترة من استقرارهم في مصر - بأن يعتنقوا مذهب الدولة، فأصبح الحفاظ على المنصب أو الترقي في سلكه يتطلب التظاهر باعتناق عقيدتهم، ويلوح لنا أن الرغبة في الحصول على مناصب الدولة هي التي دفعت بفريق من السنيين إلى التحول إلى المذهب الشيعي، أما مواقف الإرهاب التي اتبعها الفاطميون لفرض المذهب على الناس فكثيرة: ففي عام "381ه/991ه" ضرب رجل وطيف به في المدينة ، لأنه وجد عنده موطأ مالك، واضطهد السنة في عهد الحاكم بأمر الله سنة "395ه/1004م" وألزموا بكتابة سب الصحابة على دورهم، فانصاعوا للأمر مكرهين، وترتب على هذه الموجة من الاضطهاد في عهد الحاكم أن الناس سارعوا إلى الدخول في الدعوة خوفاً، فجلس لهم قاضي القضاة. . . <