المؤلف/ علي محمد الصلابي
ب - احترامه لمجلسه:
كان رحمه الله حليماً متواضعاً، موطأ الأكناف يألف الناس ويألفونه، ويتحمل الإساءة، ويصبر على جفوة الغرباء، يحب رواده، ويقبل على الجميع منهم بكل وجهه ومشاعره، لا يدخر وسعاً في إفادتهم والتلطف معهم والإخلاص لهم، وصفه خليل الصفدي بقوله: وكان لا يكاد تبدو منه جفوة في حق أحد، وإن بدأته بادرها حتى لا ينفصل عنه أحد إلا طيب القلب، ومع ذلك كله فلم يكن يسمح أثناء الدرس الواحد من الحاضرين أن يلهو أو يعبث أو يتحدث مع جاره، أو يشغل غيره عن الإصغاء والمتابعة مهما كان شأنه ومكانته، حتى إذا ما انتهى من عبارته أو فكرته التي يتحدث فيها أتاح للحاضرين الاستفسار والتعليق.
روى الحافظ الذهبي أن السلطان صلاح الدين وأخاه حضرا يوماً عنده لسماع الحديث وأنهما تحدثا معاً بصوت منخفض، فالتفت إليهما وزيرهما وأظهر لهما عدم الرضا، وقال: أيش هذا؟ نحن نقرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم وأنتما تتحدثان ؟ فأصغيا عند ذلك.
ج - حبه للمطالعة وجمع الكتب:
وكان رحمه الله كثير المطالعة، واسع المعرفة، مجداً في التحصيل، كثير البحث عما يشكل، لم يكن يشغله بعد الفراغ من التدريس غلا القراءة في كتاب أو النسخ من كتب الآخرين أو التحقيق والتعليق عليها.
وقد وصفه تلميذه الحافظ عبدالقادر الرهاوي فقال: ما نكاد ندخل عليه إلا ونراه مطالعاً في شيء.
وكان يحب الكتب حباً جماً ويحرص حرصاً شديدأً على جمعها وتملكها، حتى لقد تجمع لديه منها مجموعات كثيرة منوعة لم يسعفه الوقت للنظر فيها، فلما مات وجدوا معظمها قد عفنت ولصق بعضها ببعض، نتيجة لرطوبة جو الإسكندرية مما أدى على تلف الكثير منها، وما كان يصل إليه من المال كان يخرجه.
5- علاقته مع المثقفين:
كانت حلقات الدرس في السمجد أولاً ثم في المدرسة بعد ذلك هي همزة الوصل بينه وبين كافة فئات المثقفين من الناس، وقد استطاع من خلال تلك الحلقات أن يكون له صلات واسعة مع عدد كبير جداً من علماء الحديث، وطلابه، ومع رجل الفكر والأدب، كالكتاب والأدباء والشعراء، ومع كبار موظفي الدولة كالولاة والقضاة، وغيرهم ومع أرباب المهن والحرف المختلفة كالأطباء والمهندسين والتجار والوراقين ومجلدي الكتب وأئمة المساجد والوعاظ والنساخ والمؤذنين، ومع كثير من حجاج المغرب والأندلس الذين كانوا يفدون إلى الإسكندرية في طريقهم إلى الحج، وأما علاقته مع الشعراء، فقد كانت طيبة متميزة يسودها الود والتعاطف، فقد كان يأنس بهم ويحب مجالستهم والاستماع إليهم ويقارضهم القصد أحياناً، فقد كان شاعراً مثلهم، يقول الشعر ويتذوقه وينقده، وصفه الحافظ الذهبي بقول: وكان يستحسن الشعر وينظمه ويثيب من امتدحه.
6- علاقته مع العوام:
كانت طيبة للغاية، فهم قد أنزلوه من نفوسهم منزلة عالية، وكان يحضرون عنده في بعض الأوقات ليتبركوا به لتقواه وصلاحه، بل لقد كانوا يبالغون في هذا المقام أن العامة من أهل الإسكندرية كانوا يهرعون إليه - إذا تعسرت امرأة في ميلادها - ليكتب لهم بعض الأدعية في ورقة، وكان يكتب لهم ولا يمنع وكان نص ما يكتب: اللهم إنهم قد أحسنوا ظنهم بي، فلا تخيب ظنهم في.
7- علاقته مع الدولة الفاطمية:
تجنب السلفي الاصطدام بالدولة الفاطمية ما أمكنه حتى لا يؤذوه كما آذوا غيره من علماء الإسكندرية، أو يمنعوه من التحديث كما فعلوا من قبل مع المحدث أبي إسحاق الحبال المصري، فتجنب نقدهم والإساءة إليهم بشكل يثير حفيظتهم عليه، فابتعدوا عنه وتركوه وشأنه، بل إن بعضهم كان يذهب إلى حلقة درسه ويستمع إليه، ومما ساعد الحافظ السلفي في نجاحه في تأدية رسالته أن الدولة الفاطمية في تلك الفترة في "511ه - 567ه" قد أخذ نجمها ينحدر نحو الأفول والزوال، وأن الخلفاء أنفسهم كانوا ضعافاً مسلوبي الإرادة والإدارة، يتحكم في أمورهم ومصائرهم الوزراء المتصارعون على كرسي الحكم ومركز القوة والسلطان، وأن أولئك الوزراء لم يكونوا حريصين على السيطرة والبقاء في سدنة الحكم، بل كان بينهم وزراء سنيون، وهؤلاء الوزراء جميعاً على اختلاف مذاهبهم لم يكن يهمهم أمر الذهب الفاطمي في كثير أو قليل، وكانت صلته بولاة الإسكندرية السنيين الذين لم يتمذهبوا بالمذهب الفاطمي حسنة طيبة، فهم كانوا يحبونه ويجلونه، ويعرفون له قدره، ويحضرون دروسه، ويقرأون عليه، فالوالي قسطة الآمري كانت بينه وبين "السلفي" مودة ومكاتبة.
قال عنه في معجم السفر: وقسطة هذا من عقلاء الأمراء المائلين إلى العدل، المثابرين على مطالعة الكتب، وأكثر ميله إلى التواريخ وسير المتقدمين، وكانت بيني وبينه مودة ومكاتبة، وأما نائب والي الإسكندرية أبو الرضا عبدالله بن الفضل بن دليل الحضرمي فقد قال في ترجمته:. . . وكان يلازمني ويراجعني في المسائل التي يتشكك فيها، وقرأ علي "البخاري لابن بطال" قراءة دراية لا رواية.
وأما والي الإسكندرية العادل ابن السلار، فقد أكرمه، ووضعه في مكانة عالية تليق به، وبنى له أوقافاً تدر عليها وتسد نفقاتها واحتياجاتها.
هذه أمثلة لصلة الحافظ السلفي برجال الدولة الفاطمية الرسميين، وهي كما تبدو علاقة طيبة، واضح فيها التقدير والاحترام رغم أنه لم يزر واحداً منهم في بيته أو مقر عمله.
8- علاقته مع رجال الدولة الأيوبية:
فرح الحافظ السلفي فرحاً عظيماً لزوال الدولة الفاطمية الشيعية، وقيام الدولة الأيوبية السنية على أنقاضها، الذين شرعوا منذ اللحظة الأولى من قيام دولتهم يدعون إلى إعادة اعتناق عقيدة أهل السنة، وإلى إزالة كل مظهر من مظاهر الاعتقاد الفاطمي وإلى تخويف كل من يحاول إعادة المذهب الفاطمي أو الدعوة إليه.
ومع هذا فإن الحافظ السلفي لم يقرع باب أحد من السلاطين الأيوبيين أو أمرائهم لا مهنئاً ولا شاكراً، تماماً كما كان يفعل مع حكام الفاطميين وأمرائهم من قبل.
وأكبر سلاطين بني أيوب وأمراؤهم في السلفي هذا السلوك وأخذو يعسون هم إليه ويحضرون حلقات دروسه، فيستمعون إليه كما يستمع غيرهم، بلك تقدير وإجلال وإكبار، فالسلطان صلاح الدين على مهابته وجلال قدره وعلو مكانته كحاكم لمصر كلها، ذهب بنفسه من القاهرة إلى الإسكندرية - يصحبه ولداه الأفضل "علي" والعزيز "عثمان" وأخوه "العادل" وسكرتيره "العماد الأصفهاني" وكبار رجال دولته لزيارته وسماع الحديث منه، يقول القاضي ابن شداد في وصف تلك الزيارة أثناء حديثه عن أخلاق السلطان صلاح الدين وعن حبه لسماع الحديث الشريف: وكان السلطان شديد الرغبة في سماع الحديث، ومتى سمع عن شيخ ذي رواية عالية وسماع كثير، فإن كان ممن يحضر عنده استحضره وسمع عليه، وإن كان ذلك الشيخ ممن لا يطرق أبواب السلاطين، ويتجافى عن الحضور في مجالسهم سعى إليه وسمع منه. . .
وقد تردد إلى الحافظ" السلفي" بالإسكندرية، وروى عنه أحاديث كثيرة.
وقد نقل أبو شامة صاحب كتاب الروضتين عن العماد الأصفهاني، وصفاً تفصيلياً لتلك الزيارة، فقال: ثم خرج السلطان من القاهرة يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان، واصطحب معه ولديه الأفضل "علي" والعزيز "عثمان". . .
ثم وصلنا إلى ثغر الإسكندرية، وترددنا مع السلطان إلى الشيخ الحافظ أبي طاهر أحمد بن محمد السلفي وداومنا الحضور عنده واجتلينا من وجهه نور الإيمان وسعده وسمعنا عليه ثلاثة أيام: الخميس والجمعة والسبت رابع شهر رمضان واغتنمنا فرصة الزمان، فتلك الأيام الثلاثة هي التي حسبناها من العمر.
ومن ألطف ما حدث في تلك الزيارة أن الملك العادل كان يجلس في أحد تلك الأيام الثلاثة بجوار أخيه السلطان، فمال عليه، وهمس في أذنه بكلام غير مسموع، فلما رآهما الحافظ "السلفي" زبرهما، وأظهر لهما عدم الرضا، فأصغيا.
9- السلفي الشاعر وعلاقته بالشعراء:
كان الحافظ السلفي - رحمه الله - شاعراً، ينظم الشعر ويتذوقه وينقده عن دربة ودراية وكان يحب الاستماع للشعراء والمنشدين، ويجزل العطاء لمن يمدحه، وكان يحب حفظ الشعر وروايته والاستشهاد به في مجالسه، وترديد ما كان يعجبه على مسامع جلاسه، فهو كثيراً ما كان يردد قول الشاعر:
قالوا نفوس الدار سكانها
وأنتم عندي نفوس النفوس
وقول الشاعر:
نحن نخشى الإله في كل كرب
ثم ننساه عند كشف الكروب
كيف نرجو استجابة لدعاء
قد سددنا طريقه بالذنوب
وقول الشاعر:
حل المشيب بعارضي ومفارقي
بئس القرين أراه غير مفارقي
رحل الشباب فقلت: قف لي ساعة
حتى أودع. قال: إنك لاحقي