المؤلف/ علي محمد الصلابي
سابعاً: العماد الاصفهاني:
القاضي الإمام، العلامة المفتي، المنشىء، والوزير عماد الدين أبو عبدالله محمد ابن حامد بن محمد بن عبدالله بن علي بن محمود بن هبة الأصبهاني الكاتب يعرف بابن أخي العزيز، قدم بغداد، فنزل بالنظامية، وبرع في الفقه على أبي منصور سعيد ابن الرزاز وأتقن العربية والخلاف، وساد في علم الترسل، وصنف التصانيف واشتهر ذكره، اتصل بابن هبيرة، ثم تحول إلى دمشق سنة اثنتين وستين، واتصل بالدولة، وخدم بالإنشاء الملك نور الدين، وكان ينشئ بالفارسي أيضاً فنفذه نور الدين رسولاً إلى المستنجد، وولاه تدريس العمادية سنة سبع وستين، ثم رتبه في إشراف الديوان، فلما توفي نور الدين أهمل، فقصد الموصل، ومرض، ثم عاد إلى حلب، وصلاح الدين محاصر لها سنة سبعين، فمدحه، ولزم ركابه، فاستكتبه، وقربه، فكان القاضي الفاضل ينقطع بمصر لمهمات فيسد العماد في الخدمة مسده، وصار العماد معاون القاضي الفاضل في كل الأمور واستعاد مقامه القديم وصار كاتب سر صلاح الدين، واستكتبه صلاح الدين ووثق به وقربه إليه وصار من خاصته يصرف الأمور ويقسم الأموال التي سلمها إليه السلطان، ويوقع على ما يوقع عليه دون مراجعة ويقضي حاجات من يلجأ إليه من الناس ويزاحم الوزراء وأعيان الدولة وإن لم يصل إلى نفس المكانة العالية التي كانت للفاضل في نفس صلاح الدين، وقد لزم العماد صلاح الدين بعد هذا أكثر من القاضي الفاضل الذي كان يتخلف عن السلطان كثيراً ويقيم في القاهرة ودمشق ليشتغل بالأعمال السلطانية، وأنشأ في عهد صلاح الدين الرسائل والمناشير والتبشيرات الكثيرة ودخل مجالس المشورة.
ولما مات السلطان صلاح الدين سنة "589ه" أفل نجم العماد فاختلت أحواله وساءت أموره ولم يعامله أولاد صلاح الدين معاملة أبيهم له وأقصوه عن مركزه، وفي ذلك يقول العماد في مقدمة البرق الشامي: ولما نقله الله الكريم إلى جناب جناته اقتسم أولاده ممالكه، وقلت: سلكوا مسالكه ونسكوا مناسكه وإنهم يعرفون مقداري، ويرفعون مناري ويشرحون صدري ولا يضعون قدري، فأخلف الظن حتى قطعوا رسومي ومنعوا مرسومي، وغوروا منابعي وكدروا مشارعي، وبعد موت صلاح الدين لا يذكر المؤلفون الذين ترجموا للعماد شيئاً من أخباره فيقول ياقوت: إنه لزم بيته وأقبل على التصنيف والإفادة، كما يذكر ابن خلكان أنه: لزم بيته وأقبل على الاشتغال والتصانيف، ويبدو أن العماد عاد بعد هذه الفترة إلى الدرس والتأليف ويتضح ذلك من رسالة بعث له بها القاضي الفاضل من مصر سنة "595ه" يشكو فيها حياة العزلة في مصر وبعد مقدرة العماد على الانكباب على الدرس والتأليف نعمة يتعين شكرها فيقول: وأنا على ما يعلمه المولى من العزلة إلا أنها بلا سكون وفي الزاوية المسنونة لأهل العافية في الزمان المجنون، ونحن على انتظار البرق الشامي أن يمطر وحاشا ذمة الوعد به أن تخفر، واشتغال سيدنا في هذا الوقت بالدرس والتدريس والتصوير والتكييف، والتصانيف التي تصرف فيها بالبلاغة أحسن التصاريف نعمة يتعين شكرها على العلماء، ويختص باللذة بها سادتهم من الفقهاء.
ومما قاله من شعر:
وللناس بالملك الناصر الصالح
صلاح ونصر كبير
هو الشمس وأفلاكه في البلاد
ومطلعه سرجه والسرير
إذا ما سطا أو حبا واحتبى
فما الليث؟ من حاتم؟ ما ثبير؟
وارتحل في موكب فقال في القاضي الفاضل:
أما الغبار فإنه
مما أثارته السنابك
فالجو منه مظلم
لكن تباشير السنابك
يا دهر لي عبدالرحيم
فلست أخشى مس نابك
وقد توفي العماد في الاثنين مستهل شهر رمضان سنة "597ه/ 5 حزيران 1121" ودفن في مقابر الصوفية خارج باب النصر.
ثامناً: الخبوشاني:
الفقيه الكبير، الزاهد، نجم الدين أبو البركات محمد بن موفق بن سعيد الخبوشاني، الشافعي الصوفي، تفقه على محمد بن يحيى وبرع، وكان يستحضر كتابه المحيط وهو ستة عشر مجلداً، وأصله من نيسابور، وكان السلطان صلاح الدين يقربه ويعتقد فيه وقد اشتهر بالفضل والديانة وسلامة الباطن، وكان متقشفاً في العيش، صلباً في الدين، وكان يقول قبل نزوله إلى مصر أصعد إلى مصر، وأزيل ملك بني عبيد اليهودي، فنزل بالقاهرة، وصرح بثلب أهل القصر، وجعل سبهم تسبيحه، فحاروا فيه فنفذوا إليه بمال عظيم قيل: أربعة آلاف دينار، فقال للرسول: ويلك ما هذه البدعة؟ فأعجله، فرمى الذهب بين يديه، فضربه وصارت عمامته حلقاً وأنزله من السلم، وعندما نزل مصر عام خمس وستين وخمسمائة، نزل ببعض مساجدها، فاتفق أن الخليفة العاضد لدين الله رأى في منامه أنه بمدينة مصر، وقد خرج إليه عقرب من مسجد معروف بها فلدغه، فانتبه مذعوراً، واستدعى عابر الرؤيا وقص عليه ما رأى، فقال: ينال أمير المؤمنين مكروه من شخص مقيم بهذا المسجد، فألزم الوالي بإحضار من في المسجد، فمضى إليه وأحضر منه رجلاً صوفياً: فسأله العاضد من أين هو؟ ومتى قدم مصر؟ وفي أي شيء جاء؟ فأجابه عن ذلك، ولم يظهر للعاضد ما يريبه، بل تبين منه ضعف الحال مع الصدق، فدفع إليه مالاً، وقال له: يا شيخ ادع لنا، وخلاه لسبيله فعاد إلى مسجده ولم يزل به حتى قدم شيركوه من دمشق، وقام في وزارة العاضد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وشرع في إزالة الدولة، فاستفتى فقهاء مصر، فكان أشدهم مبالغة في الفتيا، وعدد مساوئ القوم، وسلب عنهم الإيمان وأطال القوم في الحط عليهم.
وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فقد جاءه حاجب نائب مصر المظفر الدين عمر، وقال له: تقي الدين يسلم عليك، فقال الخبوشاني قل: بل شقي الدين لا سلم الله عليه، قال: إنه يعتذر، ويقول: ليس له موضع لبيع المزر، قال: يكذب، قال: إن كان ثم مكان، فأرناه قال: ادن، فدنا فأمسك بشعره، وجعل يلطم على رأسه ويقول: لست مزاراً، فأعرف مواضع المزر، فخلصوه منه، وعاش عمره لم يأخذ درهماً لملك ولا من وقف ودفن في الكساء الذي صحبه من بلده، وكان يأكل من تاخر صحبه من بلده، هذا وقد مات الخبوشاني في ذي القعدة سنة سبع وثمانين وخمس مئة.
فهذه التراجم لسير بعض العلماء في عهد صلاح الدين، وكانت مكانة هؤلاء العلماء والفقهاء عند صلاح الدين بالغة الرفعة ونالوا حظاً وافراً عنده، فكان مجلسه حافلاً بأهل العلم والفضل، ويذكر العماد في هذا الشأن أنه كان: يؤثر سماع الحديث بالأسانيد، وتكلم العلماء عنده بالعلم الشرعي المفيد، وكان لمداومة الكلام مع الفقهاء ومشاركة القضاة في القضاء أعلم منهم بالأحكام الشرعية والأسباب المرضية والأدلة المرعية.
كان يذكر ابن شداد عنه: ومتى سمع عن شيخ ذي رواية عالية وسماع كثير، فإن كان ممن يحضر عنده استحضره وسمع عليه، فأسمع من يحضره في ذلك المكان من أولاده، ومماليكه المختصين به، وإن كان ذلك الشيخ ممن لا يطرق أبواب السلاطين ويتجافى عن الحضور في مجالسهم يسعى إليه، وسمع عليه، وقد كانت علاقة صلاح الدين بالإمام قطب الدين النيسابوري علاقة وطيدة؛ لأنه كان دائم المناقشة والبحث مع مشائخ أهل العلم وأكابر الفقهاء فيما يحتاج إلى تفهمه.
وخلاصة القول أن العلماء والفقهاء كانوا يحتلون مكانة عظيمة وحظوة كبيرة عند صلاح الدين ونالوا منه كل عطف ورعاية واحترام وتقدير من الناحيتين المادية والمعنوية، وكانت آراؤهم موضع اعتبار وتقدير من هؤلاء الملوك، واستشاراتهم واجبة في كل الأمور الشرعية التي تمس كل نواحي الحياة في الدولة، بل أصبح لهؤلاء العلماء والفقهاء السيطرة الروحية على أذهان الناس وبلغت مكانتهم حداً كبيراً من الرفعة لدرجة أنهم أثروا تأثيراً بالغاً في الشعوب والحكومات، ولا أدل على ذلك من أن الحكومات قد أسلمت زمام الدفاع والقتال لرجال العلم والفقه أمثال الفقيه عيسى الهكاري الذي أجاد وبرع في الناحيتين الدينية والحربية في عصر صلاح الدين.
المبحث الخامس
الإصلاح الاقتصادي وأوجه الإنفاق:
كانت الدولة في عهد صلاح الدين تعيش في سعة من الرزق وبحبوبة من العيش، ذلك لأن مواردها كثيرة، ومنابع الأرزاق فيها متنوعة، ويمكن أن نحصر هذه الموارد:
* وضع يده على كنوز الفاطميين الكثيرة بعد أن أصبحت مصر تحت سلطانه.
* موارد الجزية التي كانت تأتيه من غير المسلمين.
* موارد للفديه التي كانت تصله من الأسرى.
* موارد الغنائم التي كان يحصل عليها أثناء الحروب.
* موارد الخراج الذي كان يؤخذ من أصحاب الأراضي التي فتحت صلحاً، إلى غير ذلك من هذه الموارد المشروعة ومنابع الثروة المسنونة، ولم يكن صلاح الدين من السلاطين الذين ينفقون الأموال في غير وجهها ويضعونها في غير موضعها، وإنما كان ينفقها في سبيل الله وإقامة الحصون، وتشييد القلاع، والإصلاح العمراني وفي كل ما يعود على الدولة بالنفع.
أولاً: اهتمامه بالزراعة والتجارة:
لأجل أن يجنب صلاح الدين البلاد ويلات المجاعات التي تسببها الحروب اعتنى بالزراعة ووسائل الري اعتناء بالغاً لتنبت الأرض أطيب الثمرات، وتنتج من كل زوج بهيج، وقد تعاونت مصر والشام في تبادل المحاصيل الزراعية، وتعزيز المصالح الاقتصادية، وتموين الجيوش بالثروات اللازمة، ووقف الإقليمان جنباً إلى جنب أمام اعتداءات الفرنج الغادرة، وتزويد الجيش الإسلامي بكل ما يلزم من مواد غذائية وعتاد، كما عني صلاح الدين بالتجارة عناية كبيرة، فكانت مصر في عهده حلقة الاتصال بين الشرق والغرب، وقد انتعشت مدن أوروبية كثيرة بسبب هذه التجارة مثل مدينة "البندقية وبيزا" الإيطاليتين، وقد سمح البنادقة فيما بعد بتأسيس سوق تجارية في الإسكندرية كان يطلق عليه "سوق الأيك" وأولى صلاح الدين الأسواق التجارية كل اعتنائه واهتمامه حتى يزدهر الاقتصاد ويزداد الإنتاج في دولته، فكثر عددها في مصر والشام، واهتم بإصلاحها وتوسيعها، ومر الرحالة "ابن جبير" ببعض هذه الأسواق في رحلته أيام صلاح الدين سنة "578ه" فسجل إعجابه بنظامها فقال في معرض الحديث عن مدينة حلب: أما البلد فموضوعه ضخم جداً، جميل التركيب، بديع الحسن، واسع الأسواق كبيرها متصلة بالانتظام، مستطيلة، تخرج من سماط صنعة إلى سماط صنعة أخرى إلى أن تفرغ من جميع الصناعات المدنية، وكلها مسقف الخشب، فكأنها في ظلال وارفة، فكل سوق منها تقيد الأبصار وتستوقف المستوفز تعجباً وأكثر حوانيتهات من الخشب البديع الصنعة، كما وصف "ناصر خسرو" في كتابه "سفر نامة" مدينة طرابلس الشام في عهد صلاح الدين فقال: إنها بلد جميل، حوله المزارع والبساتين، وكثير من قصب السكر وأشجار النارنج والموز والليمون، وبها مغازل ذات أربع طبقات أو خمس أو ست، وشوارعها وأسواقها جميلة نظيفة، حتى لتظن أن كل سوق قصر مزين، وفي وسط المدينة جامع عظيم، نظيف جميل النقش حصين، وفي ساحته قبة كبيرة تحتها حوض من الرخام في وسطه فوارة من النحاس الأصفر، وفي السوق مشرعة ذات خمسة صنابير يخرج منها ماء كثير، يأخذ منه الناس حاجتهم. <