المؤلف/ علي محمد الصلابي
ثانياً: اهتمامه بالصناعات:
اهتم صلاح الدين بصناعة السلاح والمنسوجات والأقمشة والملابس الحريرية المزركشة وسروج الخيل المطهمة، وصناعة الزجاج، كما انتشرت في عهده صناعة الخزف والسفن والأساطيل إلى غير ذلك مما يزهر الاقتصاد، ويضاعف الإنتاج ويمكن للدولة أسباب القوة، ولقد كان أصحاب الحرف والصناع في عهد الدولة الأيوبية من أكثر الناس وفاء لتقاليدهم الموروثة، فقد بقيت طوائف العمال والحرف تسير على نفس النظم والطرق الصناعية التي كانت مستعملة في العهود التي سبقتها، وكان الصناع ينتظمون في نقابات تحمي حقوقهم وتشرف على تأدية واجباتهم على الوجه الأكمل، بحيث كان لها نظمها وتقاليدها التي يحترمها الجميع وتؤيدها الدولة بنفوذها وكان من تقاليد نقابات وطوائف الحرف والصناع الحفاظ على أسرا تلك الحرف وقصرها على أفرادها وأسرهم، ولعل هذا ما يفسر لنا ما شاع من تخصص بعض الأسر في حرفة واحدة يتوارثها الأبناء عن الآباء، فضلاً عن صعوبة دخول الغرباء على الطائفة في صفوفها ومن أشهر مراكز الصناعة في العصر الأيوبي:
1- مدينة القاهرة:
لم يكن القصد من بناء مدينة القاهرة أن تكون عاصمة للدولة، وبيتاً لكل سكان مصر بل قصد أن تكون سكناً خاصاً للخليفة وحرمه، وجنده وخواصه بعيداً عن مصر الفسطاط وامتدادها وقد أصبحت القاهرة بعد قرن واحد على الأكثر مركزاً عمرانياً هاماً سرعان ما أسست فيه حياة مجتمع ما بكل طبقاته، ومتطلباته، فانتشرت في أرجائه أنشطة حرفية وصناعية مختلفة راجت رواجاً كبيراً خلال العصر الأيوبي ومن الواضح أن أسواق القاهرة قد ازدهرت في عهد الناصر صلاح الدين الأيوبي حيث تعرضت المدينة لمتغيرات اقتصادية واجتماعية ترتب عنها زيادة في الطلب على منتجات الأسواق بشكل عام، كما أن هذه التطورات هي التي أوجدت أغلب المتغيرات التي شهدتها أسواق المدينة في تلك الأثناء، ومن أبرز هذه المتغيرات ظهور التخصص في الأسواق أي أن يكون لكل نوع من أنواع السلع سوقاً متخصصة بها وهو إجراء تنظيمي بدأ باتخاذه منذ عهد صلاح الدين الأيوبي، حيث يلاحظ أن غالبية الأسواق الرئيسة التي ظهرت لم تكن معروفة قبل العصر الأيوبي، ومنها أسواق تباع فيها الثياب المخيطة والفرش ونحو ذلك كما أن سوق الجملون الكبير قد أنشئ في عهد صلاح الدين وكان هذا السوق متخصصاً ببيع الأقمشة الحريرية كما اختصت بعض الأسواق للسلاح والقسي والنشاب والزرديات وغير ذلك مما يحتاجه الجند من أنواع الأسلحة المختلفة كما ظهرت أسواق أخرى مثل الشرابشيين والخوائصيين حيث كانت تباع في هذين السوقين ملابس الأجناد وأزيائهم علاوة على الخلع التي يلبسها السلطان للأمراء والوزراء والقضاة وقد حدث انتقال بعض الأسواق والصناعات من الفسطاط إلى القاهرة وكانت هذه الظاهرة طبيعية لإباحة القاهرة لسكنى العامة والجمهور في عهد صلاح الدين حيث سيجد العديد من التجار والصناع في ذلك فرصة للانتقال للقاهرة لممارسة نشاطهم بالقرب من رجال الدولة وأمرائها بعد تخلص الدولة من الجهاز الصناعي الذي كان قائماً في الحاصلات "في العصر الفاطمي وأدى إلى تحول عدد كبير من هؤلاء الصناع إلى الأسواق المختلفة للعمل فيها، مما أسهم على ونجه التأكيد في زيادة النشاط الصناعي وتطوره في القاهرة، والذي ساهم بدوره في ازدهار التجارة القائمة على الصناعات في عهد الناصر صلاح الدين الأيوبي.
2- مدينة الفسطاط:
يمكن القول أن الحريق الذي قام به شاور عام (564ه) كاد أن يأتي على الفسطاط نهائياً لولا أن تداركتها عناية بني أيوب، فمنذ أن ولي أسد الدين شيركوه الوزارة أظهر الحرص على إعادة عمارتها، ثم واصل المهمة من بعده ابن أخيه صلاح الدين الذي وجه اهتماماً كبيراً نحو الفسطاط فقام بإصلاح جوامعها ومشآتها الرئيسة وبنى بها المدارس وتوج أعماله هذه بضمها مع القاهرة في سور واحد يضمن من خلاله توفير الحماية لهما، وترتب على هذا الاهتمام: أن أخذ العمران يعود إلى المدينة بشكل تدريجي وكانت فرصنة البناء بالفسطاط مؤاتية منذ عهد الناصر صلاح الدين حيث جرى إنشاء المباني والأسواق والمصانع في هذه المنطقة وسميت مصانع الفسطاط ب"المسابك" فقيل: "مسابك النحاس" و" مسابك الفولاذ" ونحو ذلك، والذي لا شك فيه أن المسابك كانت قائمة بالفسطاط وتنتج الخامات المعدنية المصهورة والمسبوكة ما كان صناع المعادن في مصر في حاجة إليه لعمل العديد من الأسلحة والآلات الحربية، علاوة على الأدوات المنزلية والتحف المختلفة.
3- تنيس:
تعتبر تنيس من أهم المراكز الصناعية للمنسوجات في العصر الأيوبي فقد أطنب كثير من المؤرخين والرحالة في صناعة منسوجاتها فكان ينسج مثل هذا القصب في جهة أخرى غير تنيس ومن الجدير بالذكر أن مدينة تنيس بقيت عامرة بنشاط أهلها الصناعي والتجاري إلى حين خربها الملك الكامل محمد بن أيوب وهدم سورها وبيوتها في سنة 624ه / 1226م
4- ومن المدن التي اشتهرت كمراكز صناعية في العهد الأيوبي: مدينة دمياط، وأخميم، والإسكندرية، وجزيرة الروضة، ومدينة دمشق ومدينة حلب وغيرها.
ثالثاً: إلغاء المكوس والاكتفاء بالموارد الشرعية:
لم يكن غريباً ألا يوجد في خزانة صلاح الدين بعد وفاته سوى 46 درهماً فضة وديناراً ذهبياً واحداً فقد كانت واردات دولته ضخمة كما كانت نفقاته الحربية ضخمة وكلما كانت البلاد التي تقع في يده تزداد، كانت وارداته منها ونفقاته من أجلها تزداد بصورة مطردة وكانت قاعدته الدائمة:
1- إلغاء المكوس والضرائب غير الشرعية في جميع البلاد التي فتحت.
2- الاكتفاء بالموارد الشرعية من زكاة وخراج وغنائم وعشور التجارة.
وكانت واردات مصر هي مصدره الأول لأنه اعتبرها مملكته ولذلك ألغى ما كان يأخذ فيها من رسوم الحج على المغاربة وألغى المكوس على تجار اليمن، والضرائب المماثلة في دمشق حين فتحها، وفي حلب وسنجار والرقة وتظهر سياسته المالية في المنشور الذي نشره عند إسقاط مكوس الرقة: إن أشقى الأمراء من سمن كيسه وأهزل الخلق، وأبعدهم عن الحق من أخذ الباطل من الناس وسماه الحق، ومن ترك لله شيئاً عوضه، ومن أقرض الله قرضاً حسناً وفاه ولما انتهى أمرنا إلى فتح الرقة أشرفنا على سمن يؤكل، وظلم مما أمر الله به أن يقطع فأوجبنا على أنفسنا وعلى كافة الولاة من قبلنا أن يضعوا هذه الرسوم بأسرها. . وقد أمرنا أن تسد هذه الأبواب وتبطل ويعفى خبر هذه الضرائب في الدواوين ويسامح بها جميع الأغنياء والمساكين مسامحة مستمرة الأيام.
وهكذا كان إسقاط الضرائب التي كان يحصلها الصليبيون من الصلت والبلقاء وجبلعوف والسواد والجولان وكان الفرنج يأخذون نصف حاصلها وقد أعاد صلاح الدين فريضة الزكاة - التي كان الفاطميون قد ألغوها - إيذاناً بعودة مذهب أهل السنة وجعلها البديل على المكوس والرسوم غير الشرعية واهتم بجمعها وأقام لها ديواناً تسلمه "متولي الزكاة" وكانت حصيلته زهيدة وكانت، وكانت الزكاة تؤخذ على الذهب والفضة وعروض التجارة والماشية والمزروعات مع إعفاء المواد الغذائية كالسمسم وبذور الكتان والزيتون والخضار، وكانت بضريبة الخراج تجبى بنظامها وأوقاتها في مصر فلما اقتضى الأمر تحويل السنة الشمسية القطبية إلى الهجرية سنة (567ه) لأن موعد الجباية صار يسبق موعد الإنتاج عدل صلاح الدين ذلك، وأما المناطق الأخرى في الشام والجزيرة فكان الخراج يؤخذ على مساحة الأرض بالفدان، وضريبة القمح والشعير أردبين ونصف للفدان الواحد، ويجمع المنتفعون الضريبة ثم يسددونها لديوان السلطان، وكان على الفول والحمص مثل ذلك، وثم ضرائب نقدية على بعض الحاصلات كالكروم وثمار الشجر وتتراوح بين دينار وخمسة على الفدان وفي السنة الثالثة لا تزيد على ثلاثة دنانير، ويدفع أهل الذمة الجزية ويعفى منها الصبية والنساء، والرهبان وتسمى ضريبة الجوالي (ج: جالية) وتختلف حسب أحوال الشخص، من دينار واحد إلى (4. 5) دينار، إضافة إلى الأسلحة فقد منع صلاح الدين أن يكون لأحد دخل فيها، وشدد على احتكار الدولة لها، فهو في حالة حرب مع الفرنجة، وعقوبة من يهرب بشيء منها كبيرة وكانت معظم واردات الدولة تنفق على الحرب، والحصون والأسوار والقلاع والمدارس والمساجد والأربطة وخانات في الطرق وزوايا ورواتب للعاملين في الدولة. . . . الخ.
رابعاً: المستشفيات في عهد صلاح الدين:
لم يكن في عهد صلاح الدين مدارس خاصة لدراسة الطب بل كان هذا النوع من الاختصاص يدرس في المستشفيات ثم ينساب الطالب بعد المحاضرة بين المرضى ليعاين الأمراض ويعالج المرض وقد قام صلاح الدين ببناء مجموعة من المستشفيات في عصره منها:
أ- المستشفى الناصري في القاهرة: بنى صلاح الدين المستشفى الناصري بالقاهرة فقد اختار أحد قصوره الفخمة وحوله إلى مستشفى ضخم كبير وانتقى في اختياره ذاك قصراً بعيداً عن الضوضاء يقول الدكتور أحمد عيسى: البيمارستان الناصري أو الصلاحي أو بيمارستان صلاح الدين: لما ملك السلطان صلاح الدين الديار المصرية سنة (567ه/ 1171م) واستولى على القصر، قصر الفاطميين، كان في القصر قاعة بناها العزيز بالله في سنة (384ه/994م)فجعلها السلطان صلاح الدين بيمارستاناً وهو البيمارستان العتيق داخل القصر، قال القاضي الفاضل في متجددات سنة (577ه/1181م): أمر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بفتح مارستان للمرضى والضعفاء فاختير مكاناً بالقصر وأفرد برسم من جملة الرباع الديوانية مشاهرة مبلغها مائتا دينار وغلات جهتها الفيوم واستخدم له أطباء وكحالين وجرائحيين وشارفاً وعاملاً وخداماً ووجد الناس به رفقاً وبه نفعاً وكان المستشفى الناصري مؤثثاً بأثاث جيد ممتاز وهو من القصور الرائعة وفيه كل ما يحتاجه لمداواته وراحته وقد وصف ابن جبير الرحالة المستشفى الذي بناه صلاح الدين في القاهرة قال: ومما شاهدناه من مفاخر هذا السلطان البيمارستان الذي بمدينة القاهرة وهو قصر من القصور الرائعة حسناً واتساعاً أبرزه لهذه الفضيلة تأجراً واحتساباً وعين قيماً من أهل المعرفة وبضع لديه خزائن العقاقير ومكنه من استعمال الأشربة وإقامتها على اختلاف أنواعها ووضعت في مقاصير ذلك القصر أسرة يتخذها المرضى بكرة وعشية فيقابلون من الأغذية والأشربة بما يليق بهم وبإزاء هذا الموضع موضع مقتطع للنساء المرضى ولهن شبابيك من الحديد اتخذت مجالس للمجانين ولهم أيضاً من يتفقد كل يوم من أحوالهم ويقابلهم بما يصلح لها، والسلطان يتطلع هذه الأحوال كلها بالبحث والسؤال ويؤكد في الاعتناء والمثابرة عليها غاية التأكيد، وقال علي مبارك باشا: لما تولى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب السلطنة وفرق أماكن قصر الخلافة على أمرائه ليسكنوا فيها جعل موضعاً منها مارستاناً، وهو المارستان المشهور بالعتيق وجعل بابه من حارة ملوخية، وهي حارة قائد القواد قديماً وموضعه الآن الدار المعروفة بدار غمري الحصري مع ما جاورها من الدور، كما وجدنا ذلك في حجج الأملاك وهو بآخر الحارة من جهة بابها الصغير الذي من جهة قصر الشوق ويدخل منه إلى البيمارستان العتيق، وأما عن الأطباء الذين عملوا في البيمارستان الناصري فمن أشهرهم: رضي الدين الرحبي وابراهيم بن الرئيس ميمون، ابن أبي أصيبعة، والشيخ السديد بن أبي البيان، والقاضي نفيس الدين بن الزبير. <