المؤلف/ علي محمد الصلابي
5- الاستعدادات التي سبقت معركة حطين:
استبشر صلاح الدين الذي كان آنذاك يعسكر بالقرب من حصن الكرك بذلك النصر الذي حققته تلك السرية الإسلامية في معركة صفورية، فترك الكرك والشوبك، وسار مسرعاً على رأس جيشه في اتجاه العدو وعسكر في عشترا واجتمعت حوله العساكر الإسلامية بأعداد هائلة حتى "غص بها الفضاء" على حد قول ابن واصل وفي عشترا قام بعرض عسكره، فكان في اثني عشر ألف مقاتل ثم رتب جيشه طبقاً لنظام المعركة المعتاد، فجعل ابن أخيه تقي الدين عمر في الميمنة ومظفر الدين كوكبوري في الميسرة وكان هو في القلب، وبقية الجيش فرقه على الجناحين، استعداداً للحرب.
أ - استعدادات الصليبيين:
ورداً على ذلك التجمع الإسلامي العظيم، فإن الصليبيين لما سمعوا باجتماع كلمة الإسلام عليهم ومسير ذلك الجيش الإسلامي إليهم علموا أنه قد جاءهم مالا عهد لهم بمثله، وأن كيانهم زائل لا محالة، فاجتمعوا واصطلحوا، وحشدوا وجمعوا، وانتحوا.
فصالح القومص الملك الجاي بعد أن دخل عليه ورمى بنفسه عليه.
ومن ثم أصدر الملك جاي الأمر بالتعبئة العامة، ومعنى ذلك أنه لا بد أن يتقدم لحمل السلاح كل الرجال القادرين ولا يلجأ الملك إلى ذلك إلا عند الضرورة القصوى.
وحشد الصليبيون حشوداً كبيرة، ورفعوا صليب الصلبوت، لتجتمع الناس حوله، وقد اكتملت عدة ذلك الجيش بعد أن تم توزيع الأموال التي بعثها ملك إنجلترا هنري إلى الملك جاي، والتي أمر بإنفاقها على الرجال، وأما بالنسبة لتقدير عدد الجيش الصليبي الذي ظل معسكراً في صفورية بعد هزيمته من تلك السرية الإسلامية فإن المؤرخين المعاصرين ذكروا أن عدده بلغ زهاء خمسين ألفاً أو يزيدون.
ب - اختيار صلاح الدين لخطة المعركة الفاصلة:
لما علم صلاح الدين باجتماع الصليبيين في صفورية عقب هزيمتهم من السرية الإسلامية في هذا المكان، استشار قواده فيما يفعل، فأشار أكثرهم بترك اللقاء، واتباع الطريقة السابقة في إغارات متكررة وتكبيد العدو الخسائر حتى تضعف مقاومته ثم إنزال الضربة القاضية بالصليبيين، وأشار الفريق الآخر بالتوغل في بلاد الصليبيين والاشتباك معهم في معركة فاصلة.
وهنا تبدو لنا حنكة صلاح الدين العسكرية، إذ اختار الخطة الثانية القائمة على الاشتباك مع العدو في معركة فاصلة، إذ يظهر أن صلاح الدين أدرك أن معظم القوات التي تجمعت عنده في ذلك الوقت جاءت من أماكن بعيدة من مصر ودمشق وحلب والجزيرة والموصل وديار بكر وغيرها، وأن هذه العساكر القائمة على نظام الإقطاع الحربي - كما سبق أن رأينا - لها التزامات في إقطاعاتها - الأمر الذي قد يدفعها بعض الأحيان إلى طلب الاستئذان منه والعودة لقضاء حوائجها، هذا بالإضافة إلى أن صلاح الدين ربما قصد باتباع تلك الخطة استغلال ذلك الانشقاق الذي حدث في صفوف الصليبيين، نتيجة وفاة الملك بلدوين الخامس وتتويج الملك جاي لوزينان والذي عده أحد الباحثين سبباً حرمت من أجله مملكة بيت المقدس من معونة أقوى إمارتين صليبيتين بالشام هما إمارة طرابلس، وإمارة أنطاكية.
وهكذا أصبح الموقف بين صلاح الدين والصليبيين على أشده، وبات الطرفان كل منهما يتوق إلى الاشتباك مع الصليبيين في معركة فاصلة، كان يدرك أن تمركزهم في صفورية يعطيهم مكانة عظيمة في القتال وذلك أن صفورية تعتبر من أحسن المواقع الملائمة لإقامة المعسكرات وذلك لما يتوافر بها من المراعي والمياه وغيرها من الموارد الطبيعية اللازمة لذلك عمد إلى استدراج الصليبيين إلى المكان المناسب الذي يستطيع فيه إنزال الهزيمة بهم، هذا بالإضافة إلى أنه على الرغم من ذلك كان يريد أن يجبرهم على المسير إليه حتى يصلو متعبين، ويكون هو مدخراً جهده وجهد رجاله، لذلك أخذ صلاح الدين يعد عدته للقيام بعمل يستطيع اجتذاب الصليبيين من معسكرهم في صفورية والنزول إلى المكان الذي يختاره، فأخذ كل يوم يرسل جماعة من رجاله لمباغتة الصليبيين والنكاية بهم، محاولاً بذلك استدراجهم إليه، غير أن تلك الغارات المتكررة لم تؤثر على الصليبيين، فلم يتركوا مركزهم في صفورية فرأى صلاح الدين الهجوم على طبرية ذاتها، لأن الصليبيين متى رأوا هجومه ذلك بادروا بالوصول إليه، وبذلك يكون قد تحقق له ما قصده.
ج- توجه صلاح الدين إلى طبرية:
أدرك صلاح الدين بهجومه على طبرية بأنه يمكنه إثارة ريموند أمير طرابلس المشهور بشدة الغيرة بالإضافة إلى أن صلاح الدين كان يعلم أن نزوله في ذلك الموضع يستطيع أن يوصد الطريق المؤدي إلى طبرية، ويسيطر في الوقت ذاته على الدروب التي تجتاز الحافة الشرقية إلى طبرية وتنتهي إلى الماء.
في حين يبقى الصليبيون عند خروجهم من صفورية، وتقدمهم إليه في منطقة وعرة لا تتوفر فيها المياه.
وفي يوم الخميس 23 ربيع الأول سنة (583ه/2 يوليو 1187م) أصدر صلاح الدين أوامره إلى الجانب الرئيس من جيشه بالتقدم إلى طبرية ومهاجمتها إلى القلعة وامتنعوا بها.
وما كادت أخبار ذلك الهجوم تصل إلى أسماع الصليبيين، حتى جن جنونهم، ودعا الملك جاي إلى مجلس حرب، فأشار بعضهم بالتقدم إلى المسلمين وقتالهم ومنعهم من التوغل في طبرية، في حين أشار ريموند صاحب طرابلس على الملك بالبقاء في موضعه بصفورية، قائلاً له: إن طبرية لي ولزوجتي، وقد فعل صلاح الدين بالمدينة ما فعل، وبقيت القلعة، وفيها زوجتي، وقد رضيت بأن يأخذ القلعة وزوجتي، وما لنا بها فيعود، فوالله لقد رأيت معسكر الإسلام قديماً وحديثاً ما رأيت مثل ذلك العسكر الذي مع صلاح الدين كثرة وقوة، وإذا أخذ طبرية لا يمكنه المقام بها إلا بجميع عساكره، ولا يقدرون على الصبر طول الزمان عن أوطانهم وأهليهم فيضطر إلى تركها ويفتك من أسر منا.
وهنا يبدو أن سياسة صلاح الدين في إيقاع الخلاف في صفوف الصليبيين قد آتت أكلها، حيث لقي رأى ريموند هذا معارضة شديدة من كل من أرناط صاحب الكرك، وجيرار مقدم الداوية اللذين اتهماه بالخيانة والانحياز إلى المسلمين، حيث رد عليه أرناط قائلاً: قد أطلت في التخويف من المسلمين، ولا شك أنك تريدهم وتميل إليهم.
واستطاع أرناط وجيرار التأثير على الملك جاي الذي أصدر أوامره إلى الجند بالمسير إلى طبرية وبدأ الجيش الصليبي زحفه من صفورية يتقدمه ريموند في ظروف سيئة للغاية، فروح الصليبيين المعنوية منحطة، وجزء كبير منهم لم يكن من أنصار التقدم نحو طبرية، فساروا مكرهين.
هذا بالإضافة إلى ما تعرض له ذلك الجيش الصليبي في طريقه من متاعب وخسائر بسبب الكمائن التي نصبها صلاح الدين لهم أثناء سيرهم فضلاً عن حرارة الجو، ووعورة الطريق وانعدام المياه.
وإزاء هذه الظروف القاسية حل بالجيش الصليبي أثناء سيره من صفورية إلى طبرية انفصال كبير، حيث لم تستطع مؤخرته مجاراة سير بقية الجيش والاتصال بالملك في الوسط الأمر الذي اضطر الملك جاي إلى إقامة معسكره قبل الوصول إلى طبرية، على الرغم من تلك المحاولة التي قام بها ريموند أمير طرابلس الذي كان في المقدمة، لحث الصليبيين على التقدم للوصول إلى المياه.
مما أدى إلى تذمر ريموند من ذلك التصرف، وإدراكه بأن الهزيمة واقعة لا محالة.
والواقع أن هذه الأوامر اتصفت بالتهور، ودلت على انعدام التفكير العسكري السليم لدى القادة الصليبيين الذين غلبت عليهم العاطفة الدينية المتزمتة، لأنها أوقعت الملك، والمملكة، والجيش الصليبي في فخ صلاح الدين، الذي علق عندما علم بتحركهم بقوله: قد حصل المطلوب، وكمل المخطوب، وجاءنا ما نريد، ولنا بحمد الله الجد الجديد، والحد الحديد، والبأس الشديد، والنصر العتيد، وإذا صحت كسرتهم وقتلت وأسرت أسرتهم فطبرية وجميع الساحل ما لنا دونها مانع ولا عن فتحها وازع، ورتب صلاح الدين رجاله في تلك الليلة، وسار هو على رأس جيشه لملاقاة الصليبيين على سفح جبل طبرية المشرف على سهل حطين وهي منطقة على هيئة هضبة ترتفع عن سطح البحر أكثر من ثلثمائة متر، ولها قمتان مما جعل العرب يطلقون عليه اسم قرون حطين وبوصول الصليبيين إلى تلك الهضبة كانوا قد بلغوا حالة سيئة من الإنهاك والتعب، واشتد بهم العطش بعد أن حال جيش صلاح الدين بينهم وبين الوصول إلى الماء والتقى الجمعان على سهل جبل طبرية الغربي منها، وحال الليل دون تصادمهما ذلك اليوم وفي صباح الجمعة 24 ربيع الآخرة 583ه/ 1187م تحرك الجيشان وتصادما بأرض تسمى اللوبيا، واستمر القتال إلى أن حجز الظلام بينهما، وبات كل فريق في سلاحه.
والواقع أن جيش صلاح الدين قضى تلك الليلتين ينعم بكافة الوسائل التي تعينه على القتال، فقد كان يعسكر في منطقة سهلة غنية بالمراعي والمياه.
أما الجيش الصليبي فقد ازداد بلا شك خلال تلك المدة شقاءً وإنهاكاً، بسبب إقامة معسكره على منطقة وعرة جداً عديمة المياه وفي جو شديدة الحرارة، ويبدو أن صلاح الدين قد استغل توقف القتال تلك الليلة، ليكمل استعداداته لمهاجمة العدو الذي لجأ إلى سفح جبل حطين ليعصمهم من المهالك ومن ثم المبيت في جو معتدل يخفف عنهم شدة الحرارة والعطش، وعلى الرغم من أوامر الملك جاي التي كانت تقضي بأن يندفعوا إلى أسفل التل ليؤدوا واجبهم نحو الصليب والعرض، إلا أنهم اعتذروا بشدة العطش وأنهم لا يستطيعون الحرب، فاستغل صلاح الدين ذلك، ورتب جيشه ورسم له الخطط، وأحاط بهم: إحاطة الدائرة بقطرها، كما يقول ابن الأثير.