المؤلف/ علي محمد الصلابي
د- قضية الجهاد:
وهي القضية المركزية التي شغلته حتى وهو في صيده أو في خلواته مع أولاده، وكانت الأشهر الأخيرة من سنة (582ه) هي أشهر المكاتبات والرسائل لنوابه وعماله والتابعين له في مصر والشام والجزيرة والاستعداد للحرب، وكان لا يجهل بالطبع ما يجري في مملكة بيت المقدس من منازعات، ويعرف معنى الهدنة التي منحها لريموند أمير طرابلس الغاضب على ملك القدس وعلى أية حال كانت جميع الخيوط في يد صلاح الدين في مطلع سنة (583ه) وساق الله له قانون الفرصة عندما نقض أرناط عهده ومواثيقه، فتعامل معه بسنة الأخذ بالأسباب والتوكل على الله.
4- لا تقاتلوا عني وقاتلوا في سبيل الله: إخلاصه العظيم لله:
حين سمع صلاح الدين في غزوة حطين مسير الجيش الصليبي إليه قال: جاءنا ما كنا نريد، واجتمع أصحابه وأشاروا بالقيام بالغارات، فرفض وقال: الرأي عندي أن نلقى بجمع المسلمين جمع الكفار، فإن الأمور لا تجري بحكم الإنسان، ولا نعلم قدر الباقي من أعمارنا، ولا ينبغي أن نفرق هذا الجمع إلا بعد الجد والجهاد، وقال للجند: لا تقاتلوا عني ولكن قاتلوا في سبيل الله، وهذا تطبيق عملي من صلاح الدين لقول الله تعالى: الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطغوت" فقد خاض صلاح الدين حروبه مع الصليبيين انطلاقاً من مبدأ القتال في سبيل الله، فقد كان يحرص صلاح الدين أن يكون القتال في سبيل الله ومن أجل رفع راية الإسلام خفاقة، وتنكيس راية الشرك والمشركين من الصليبيين الذين عبدوا الصليب وقدسوه، فقد كان صلاح الدين مخلصاً في جهاده، ومخلصاً في طلب الشهادة، وكان يذكر قواده وأمراءه بضرورة الإخلاص لله وإرادة وجه الله في قتال الأعداء حتى يثيبهم الله ثواب المجاهدين ويبلغهم منازل الشهداء الغر الميامين من أمة سيد المرسلين ولقد وفقه الله في معاركه وفتوحاته لكثرة إخلاصه، كيف لا وهو إذا فتح بلداً من البلدان لم ينسب النصر إلى نفسه بل نسبه إلى الله عز وجل فهو واهب النصر وناصر المؤمنين الموحدين، وهازم الكافرين المشركين، فما إن ينتصر المسلمون بقيادته إلا وخر ساجداً لله تبارك وتعالى شكراً على نصره وهكذا حصل منه في حطين وغير حطين.
5- تطبيق الشريعة وبركاتها في دولة صلاح الدين:
يخبرنا التاريخ أن صلاح الدين رحمه الله حينما تولى الإمارة والسلطنة قد تاب إلى الله توبة نصوحة، وهجر أسباب المعاصي ووسائل اللهو المحرم وندم على كل ما وقع منه في مراهقته، فأقبل على الله تعالى بتوبة صادقة واشتغل بالطاعات فأكثر من العبادة، وقد علم جنوده وغيرهم ورباهم على حسن الصلة بالله تبارك وتعالى، والوقوف عند حدوده وهجر معاصيه والإقبال على طاعته وكان يهتم بالشريعة وعلمائها، يطبق الأحكام الشرعية على الرعية ويسوسها بالعدل والسوية ويقمع أهل الضلالة والفساد، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويتواضع للناس ولا يحابي محباً ولا يظلم مبغضاً، بل كان يتجاوز عن المبطل إذا خاصمه بالباطل ويحيطه بكرمه وحسن أخلاقه، وكان يأمر أهله وقواده بتوثيق الصلة بالله وبكتابه تلاوة وحفظاً وتدبراً وعملاً، وكان يوصي أبناءه بتقوى الله وطاعته ويذكرهم بالموت وما بعده، وتأمل معي هذه الوصية لولد من أولاده الذين بلغوا سبعة عشرة ذكراً وهو الملك الظاهر: أوصيك بتقوى الله تعالى فإنها رأس كل خير، وآمرك بما أمرك الله به، فإنه سبب نجاتك، وأحذرك من الدماء والدخول فيها والتقلد لها، فإن الدم لا ينام، أوصيك بحفظ قلوب الرعية والنظر في الدولة وأكابرها، فما بلغت ما بلغت إلا بمداراة الناس، ولا تحقد على أحد فإن الموت لا يبقي على أحد واحذر ما بينك وبين الناس، فإنه لا يغفر إلا برضاهم وما بينك وبين الله يغفره الله بتوبتك إليه، فإنه كريم.
إن للحكم بما أنزل الله آثاراً دنيوية وأخرى أخروية أما الآثار الدنيوية التي ظهرت في دولة صلاح الدين فهي:
أ - الاستخلاف والتمكين:
حيث نجد نور الدين وصلاح الدين من بعده حرصوا على إقامة شرع الله في أنفسهم وأخلصوا لله تحاكمهم في سرهم وعلانيتهم، فالله سبحانه وتعالى قواهم وشد أزرهم حتى استخلفهم في الأرض، وأقام صلاح الدين شريعة الله في دولته، فمكن له الله ووطأ له سلطاته وهذه سنة ربانية نافذة لا تتبدل في الشعوب والأمم التي تسعى جاهدة لإقامة شرع الله، وقد خاطب الله تعالى المؤمنين من هذه الأمة واعداً إياهم بما وعد به المؤمنين قبلهم، فقال سبحانه في سورة النور "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض".
أي بدلاً عن الكفار "كما استخلف الذين من قبلهم" فإذا حقق الناس الإيمان وتحاكموا إلى شريعة الرحمن فستأتيهم ثمرة ذلك وأثره الباقي "وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم" فتحقيق التحاكم إلى الدين يتحقق به الاستخلاف، وتحقيق الحكم به يوصل إلى الدين وهذا ما رأيته في دولة نور الدين وصلاح الدين.
ب - الأمن والاستقرار:
بعد أن أكرم الله صلاح الدين، بإزالة الدولة الفاطمية وفتح مصر وضم حلب ودمشق، والاتفاق مع الموصل في جبهة إسلامية عريضة تيسر لدولته الأمن والاستقرار في تلك الربوع التي حكم فيها بشرع الله حيث نجد أن دولة صلاح الدين بعد أن استخلفت ومكن الله لها أعطاها دواعي الأمن وأسباب الاستقرار حتى تحافظ على مكانتها وهذه سنة جارية ماضية، ضمن الله لأهل الإيمان والعمل بشرعه وحكمه أن ييسر لهم الأمن الذين ينشدون في أنفسهم وواقعهم فبيده سبحانه مقاليد الأمور، وتصريف الأقدار، وهو مقلب القلوب والله ما يهب الأمن المطلق لمن استقام على التوحيد وتطهر من الشرك بأنواعه.
قال تعالى"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون" فنفوسهم في أمن من المخاوف ومن العذاب والشقاء إذا أخلصت لله من الشرك صغيرة وكبيرة، إن تحكيم شرع الله فيه راحة للنفوس لكونها تمس عدل الله ورحمته وحكمته.
إن الله تعالى بعد أن وعد المؤمنين بالاستخلاف ثم التمكين لم يحرمهم بعد ذلك من الأمن والطمأنينة والبعد عن الخوف والفزع قال تعالى: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئا".
وإن تحقيق العبودية لله ونبذ الشرك بأنواعه يحقق الأمن في النفوس على مستوى الأفراد والشعوب، وهذا ما حدث لصلاح الدين ودولته والمسلمين في عهده لما انقادوا إلى منهج رب العالمين.
ج- العز والشرف:
إن عز صلاح الدين والأيوبيين وشرفهم العظيم الذي سطر في كتب التاريخ يرجع إلى تمسكهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، إن من يعتز بالانتساب لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم به تشرف الأمة وبه يعلو ذكرها وضع رجله على الطريق الصحيح وأصحاب سنة الله الجارية في إعزاز وتشريف من يتمسك بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: "لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون" قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: فيه شرفكم فهذه الأمة لا تستمد الشرف والعزة إلا من استمساكها بأحكام الإسلام، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله أذلنا الله" فعمر رضي الله عنه كشف لنا بكلماته عن حقيقة الارتباط بين حال الأمة عزاً وذلاً، مع موقفها من الشريعة إقبالاً وإدباراً، فما عزت في يوم بغير دين الله، ولا ذلت في يوم إلا بالانحراف عنه، قال تعالى: فمن كان يريد العزة فلله العزة جميعاً" يعني من طلب العزة فليعتز بطاعة الله عز وجل. .
وقال تعالى: "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون" لقد انتصر صلاح الدين والمسلمون في حطين بفضل الله عز وجل الذي طبعوا شرعه.
د- النصر والفتح:
لقد حرص صلاح الدين والمسلمون على نصرة دين الله بكل ما يملكون، وتحققت فيهم سنة الله في نصرته لمن ينصره، لأن الله ضمن لمن استقام على شرعه أن ينصره على أعدائه بعزته وقوته، قال تعالى: "ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور".
6- العدل:
إن العدل أساس الملك ولهذا أمر الله رسوله القيام به فقال تعالى: "وأمرت لأعدل بينكم" كما قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله" وقال تعالى: "كونوا قوامين لله شهداء بالقسط" وقال تعالى: "وإذا حكمتم بالعدل" والعدل في الرعية وإيصال الحقوق إلى أهلها وإنصاف المظلوم يبعث في الأمة العزة والكرامة ويولد جيلاً محارباً وأمة تحررت إرادتها بدفع الظلم عنها، رعية تحب حكامها وتطيعهم لأنهم أقاموا العدل على أنفسهم وأقاموا العدل على غيرهم وأما الظلم فهو ظلمات في الدنيا والآخرة، وهو يؤذن بزوال الدول ولهذا حرمه الله على نفسه وجعله محرماً بين خلقه فقال تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا".
وقال تعالى: "احشروا الذين ظلموا وأزواجهم" وقال تعالى: "فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا".