سراج الدين اليماني
كانت الجمعيات الإستشراقية الفرنسية بمثابة نقطة الانطلاق الكبرى التي حظيت بها الحركة الإستشراقية إذ اجتمعت فيها العناصر العلمية والإدارية والمالية التي تساعد على استمرار البحث والكشف والوقوف على كل شيء في عالم الشرق عموماً وفي عالم الإسلام خصوصاً، بالإضافة إلى تحقيق الأهداف الاستعمارية والتوسعية. . ففي القرن الثامن عشر:
في عام 1787م أنشأ الفرنسيون جمعية للمستشرقين ألحقوها بأخرى في عام 1823م وأصدروا المجلة الأسيوية.
وقد تضافرت جهود المستشرقين فشرعوا في إقامة المؤتمرات للتنسيق بينهم وتقديم المشورة، وكانت هذه المؤتمرات بمثابة تلاقٍ للأفكار وتوحيد الجهود، وقد شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر أول هذه المؤتمرات حيث تم عقد أول مؤتمر دولي للمستشرقين في باريس سنة 1873م وتعقد هذه المؤتمرات والندوات واللقاءات الإقليمية من قبل أقدم المؤتمرات الدولية، فقد عقد أول مؤتمر للمستشرقين الألمان في مدينة "درسون" بألمانيا سنة 1849م وتضم هذه المؤتمرات الدولية مئات العلماء، فمثلاً مؤتمر "أكسفورد" كان يضم تسعمائة عالم عن "25" دولة، و"85" جامعة، و"69" جمعية ومجموعات العمل في كل مؤتمر تبلغ أربع عشرة.
آثار الاستشراق الفرنسي والأوروبي في العالم الإسلامي
مما لا شك فيه أن الأستشراق الفرنسي والأوروبي والتغريب كان له الأثر البالغ في العالم الإسلامي وقد أحدث الاستشراق هزة كبيرة في العالم الإسلامي أحدث هزة فكرية وثقافية عنيفة في شتى ميادين المعرفة والفكر.
فكان وراء كل دعوة خطيرة أحدثت تحولاً في المجتمع الإسلامي في العصر الحديث، فقد كان المستشرقون الفرنسيون يلقون بالشبهة أو الدعوة ثم يتبعهم أذنابهم من الكتاب والمفكرين العرب الذين يمثلون التبعية والتغريب والشعوبية، وقد وضح هذا جلياً في الدعوات الهدامة كالدعوة إلى العامية التي بدأها "ولكوكس" و"ويلمور" وغيرهما ثم تابعهما "سلامة موسى" و"لطفي السيد" في الدعوة إلى الأقليات الضيقة كالفينيقية والفرعونية التي بدأها "فمبري" و"كرومر" وتابعهما طه حسين ولطفي السيد وغيرهما.
أصبحت دوائر المعارف وكتب المستشرقين وبحوثهم مراجع أساسية في التاريخ واللغة والسيرة والفقه والعقائد وخاصة في الجامعات الغربية في فرنسا وأوروبا وأميركا الذين يقعون دائماً في سيطرة الاستشراق والأساتذة اليهود والنصارى المتعصبين، ويفرضون ما تلقوه من الغرب من سموم باسم التجديد وحرية البحث.
حرص الاستشراق على تناول الحركات الهدامة المنحلة والعنصرية مثل "القرامطة" و"الزنج" بأنهم طلاب عدل وحرية وإصلاح وهم صنائع اليهود وأعداء الإسلام، من الفرنسيين والأوروبيين، عمل المستشرقون الفرنسيون وغيرهم على إحياء التراث الباطني المجوسي والفلسفي الوثني والأسطوري، وكل ما يدعو إلى الإباحية والإلحاد مثل ألف ليلة وليلة وفلسفة أرسطو وشعر بشار بن برد والحلاج وابن عربي وأبي نواس وابن سبعين والفارض وكتب غلاة الفاطميين والإسماعيلية والرافضة.
انظر: "أساليب الغزو الفكري في العالم الإسلامي" (ص24-26) بتصرف.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن هؤلاء المستشرقين استطاعوا أن يكونوا لهم ربائب وأتباعاً يروجون لبضائعهم، ويمكن أن نسمي هؤلاء سماسرة الاستعمار والتغريب، وقد ولدوا في بلادنا ولكن عقولهم تربت في الغرب ونمت أعوادهم مائلة إليه، فهم أبداً أتباع كما جاء إنهم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، بيد أنهم خطر على كياننا لأنهم كفار بالعروبة والإسلام، أعوان عن اقتناع أو مصلحة للحرب الباردة التي يشنها الاستعمار علينا بعد الحرب التي مزقت أمتنا الكبيرة، وهم سفراء فوق العادة، والفرق بينهم وبين السفراء الحقيقيين والرسميين أن هؤلاء لهم تقاليد تفرض عليهم الصمت، وتصبغ حركاتهم بالأدب، أما أولئك السفراء المستشرقون فوظيفتهم أن يثرثروا في الصحف وفي المجالس وأن يختلقوا كل يوم مشكلة موهومة ليسقطوا من بناء الإسلام لبنة ليذهبوا بجزء من مهابته في النفوس، ولهم ألاعيبهم المفضوحة، فهم يعملون في دأب وفي جبهات متعددة، ففريق شيوعي يتوسل بالإلحاد لإشاعة الفوضى وخدمة مذهبه في الحياة، أما الفريق الآخر فهم قوم احتل الاستعمار نفوسهم وتوطن فسادهم، فلو جلت جيوشه عن أرضنا فإن تعاليمه لا تجلو عن نفوس هؤلاء ومشاعرهم. . صنعهم الغرب ثم تركهم هنا وهناك ليشفي بهم غليله من الإسلام ويهدم بهم معاقل المقاومة الحقيقية.
انظر كتاب: "ظلام من الغرب".
ويمكننا أن ننظر النظرة الآتية: هو أنه لم يتحرر من العقيدة الصليبية حتى الذين وصفوا بالاعتدال في الأوساط العلمية لم يحرروا أنفسهم من هذا التعصب، وبشهادة أنفسهم يتضح ذلك، يقول: "كويلرينج"، ولا نريد أن ندعي للمستشرقين ودراساتهم أكثر مما لهم، فهم لا يزالون عاجزين عن تحطيم الحواجز وإزالة الأسباب التي تفرق بين الشرق والغرب، وفي رأي عدد غير قليل من العلماء الذين يشتغلون بالدراسات الشرقية من أبناء الغرب إنهم يسيرون سيراً بطيئاً متعثراً، إذا قيس ما يفعلونه بما ينتظرهم من واجبات.
انظر: "الشرق الأدنى" لكويلرينج (ص348).
ويمكنني أن أضرب لذلك مثلاً، فرجل مستشرق مثل جوستاف لويون وهو يوصف بالنزاهة والموضوعية، وقد كتب كتاب "حضارة العرب" أشاد فيه بما قدمه هؤلاء للعالم العربي على وجه الخصوص من حضارة وتنوير ومعرفة وثقافة، وهي حضارة الإسلام وليست للعرب وحدهم، ولكنه عندما تناول الحديث عن القرآن قال عنه قولاً مقذعاً وبهتاناً عظيماً، يجتمع فيه مع آراء غيره من المستشرقين الفرنسيين والمبشرين فهو يقول عن القرآن في كتابه: هو كتاب المسلمين المقدس، قليل الارتباط مع أنه نزل وحياً من الله على محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأسلوب هذا الكتاب وإن كان جديراً بالذكر أحياناً خالٍ من الترتيب، فاقد السياق كثيراً، ويسهل تفسير هذا إلى كيفية تأليفه، فهو قد كتب تبعاً لمقتضيات العصر والزمن بالحقيقة، فإذا ما اعترضت محمداً معضلة أتاه جبريل بوحي جديد ودون ذلك في القرآن، ولم يجمع القرآن نهائياً إلا بعد وفاة محمد، ويعد العرب القرآن أفصح كتاب عرفه الإنسان، ومع ما في هذا من مبالغة شرقية تعترف أن في القرآن آيات موزونة رائعة لم يسبقه إليها كتاب ديني آخر، ثم يقول: وتقريب فكرة الكون الفلسفية في القرآن مما في الديانتين الساميتين اللتين ظهرتا قبل الإسلام أي اليهودية والنصرانية.
انظر: "حضارة العرب" جوستاف لويون (ص177)
الباحث في شؤون الإرهاب.