عبدالله منّاع
على غير رغبة مني، امتد غيابي عن اليمن الذي أحببته، وعاصمته الساحرة (صنعاء) التي فتنتني منذ أن رأيتها لأول مرة في مطلع عام 1975م. . لأكثر من ثلاثين عاماً، فقد روعني حادث اغتيال نجم حركته التصحيحية فرئاسته الأولى بالضرورة (المقدم إبراهيم الحمدي). .
. . وحيرني ما صاحب الحادث من غموض، وما تبعه من افتئات وتقولات لا تصدق عن زعامته التي أخرجت اليمن - في تلك الحقبة - من دوامة تطاحنه وتقلبات أبنائه. . فوجد فيها نفسه واستقراره، وأخذ ينظر من خلالها ل(مستقبله) الواعد. . الذي كانت تحلم به جماهيره الصابرة. . وهي تريق في سبيله الكثير من الدماء، وتدفع من أجله بآلاف الآلاف من الضحايا، ثم زاد من قلقي على اليمن وشعبه الباذل. . اغتيال خليفته (المقدم أحمد الغشمي) بعد شهور قليلة من توليه، لم تمكنه حتى من تعيين نائب له، وهو ما كاد أن يدفع بالبلاد آنذاك إلى فراغ رئاسي دستوري خطير. . لولا أن تم - حينها - على عجل تشكيل مجلس رئاسي ثلاثي (مؤقت). . سرعان ما انضم إليه قائد منطقة تعز - آنذاك - الرائد علي عبدالله صالح. . الذي كسب ثقة المجلس المؤقت. . فالشعب اليمني، ليكون هو الرئيس اليمني الثالث. . الذي سيثبت أن أرض اليمن ولادة، فإن غاب المشير السلال بما له وما عليه، وإن غاب الحمدي نجم نجوم الزعامات اليمنية. . فإنها قادرة على أن تلد رئاسة أخرى وزعامة جديدة، لا. . لتقوده فقط، بل لتحقق حلم الملايين الغائب بين اليمنين (الشمالي والجنوبي). . بالقضاء على التشطير ونزعاته وإقامة صرح الوحدة الشمالية الكاملة لأبناء الوطن الواحد. . والأرض الواحدة. لقد كان ذلك حلماً. . أقرب إلى المستحيل، ولكن المستحيل تحقق بالعزيمة والصبر والإرادة. . ليقول أحد الكتاب اليمنيين الساخرين -فيما بعد- بأن المستحيلات عند اليمنيين لم تعد هي (الغول والعنقاء والخل الوفي). . ولكنها غدت في (عودة الإمامة، وعودة التشطير، وعودة جزيرة حنيش). . !!
خلال تلك السنوات الطوال. . لم تغب (اليمن) عني، ولم أنصرف من موقعي كصحفي. . في البدء، ثم ككاتب يهتم بالشأن (السياسي) في عمومه و(العربي) في خصوصه عن متابعة أخباره وشؤونه وشجونه ومشواره الصعب مع التنمية، التي بدأت بمشاريع (إفاقة) دولية قادتها بداية (الصين) و(الهند) و(ألمانيا). . ف(إيطاليا) وفرنسا ثم الولايات المتحدة الأمريكية، لتدخل دول الجزيرة العربية وفي مقدمتها المملكة والكويت والإمارات العربية -مع قدوم الرئيس الحمدي- معمعان التنمية في اليمن لبناء المدارس، وشق الطرق، وحفر الآبار، وإقامة المستشفيات والمستوصفات الطبية ومحطات توليد الكهرباء. . فقد كان (يمن) ما قبل السادس والعشرين من سبتمبر من عام 1962م يعيش حالة قحط لم يشهد تاريخ القرنين التاسع عشر والعشرين مثيلاً له. . إلا أنه ظل وعلى مدى تاريخه البعيد والقريب غنياً بالرجال الأفذاذ، وبالأحرار والفقهاء، وبالشعراء والمثقفين الذين أسهموا جميعاً في إعادة كتابة تاريخه الحديث عندما دار التاريخ دورته. .
***
فوق متن الطائرة (اليمنية) وهي تطوي بي الخمس والسبعين دقيقة، الفاصلة زمنياً بين مدينتي جدة وصنعاء. . كنت أسترجع صور اليمنيين اللامعة في حياة اليمن والعروبة ممن عرفتهم وجهاً لوجه، وممن التهمت إبداعاتهم التي سطروها. . من أمثال: (غالب علي جميل) بدبلوماسيته الراقية، و(البردوني). . بعبقريته الشعرية المحيِّرة، و(الشامي). . بمخزونه التاريخي السياسي، و(العيني). . بذكائه ودهائه، و(محمد الشرفي) بنفسه الشعري الملهم. . لأتوقف في استرجاع متابعتي ل(اليمن) وأخباره عند تلك اللحظة الفارقة في حياته من عام 1983م. . عندما تناقلت وسائل الإعلام نبأ إعلان الرئيس علي عبدالله صالح في جلسة مجلس الشعب التأسيسي في الثامن عشر من مايو من ذلك العام. . عن عدم رغبته في ترشيح نفسه لدورة رئاسية ثانية، وأنه سيترك الأمر لحرية اليمنيين في ترشيح واختيار من يرونه لرئاسة البلاد، ومع أن القاضي عبدالكريم العرشي الذي كان ساعتذاك نائباً لرئيس الجمهورية ورئيساً لمجلس الشعب التأسيسي. . اعتبر أن ذلك اليوم هو (يوم مشهود يسجله تاريخنا بأحرف من نور في سجل شامخ للإرادة اليمنية الحرة) كما قال في كلمته التعقيبية على خطاب الرئيس الذي فجر فيه قنبلة اعتذاره عن ترشيح نفسه، وأن (المجلس سيتخذ الإجراءات الدستورية المتعلقة بما تضمنته كلمة الرئيس بمسؤولية واعية أمام الله ثم الشعب). . إلا أن جماهير الشعب اليمني لم تسمع ما قاله القاضي العرشي، ولم تنتظر ما سيفعله. . بل أخذت تزحف في اليوم التالي إلى الشوارع والميادين، وفي كل المدن اليمنية الكبيرة والصغيرة وهي تطالب الرئيس صالح. . لا ب(سحب) اعتذاره، أو (ترشيح) نفسه لدورة ثانية. . بل ب(اختياره) وبقائه لدورة رئاسية ثانية، فكان ذلك الانتخاب الشعبي الكاسح الذي لم تعرفه ولم تشهده اليمن من قبل. . خير معين له على إسكات العناصر القليلة المناوئة له، وأكبر داعم له في استكمال مشوار (الوحدة اليمنية) العزيزة الغالية الذي كان قد بدأه ب(اتفاق تعز) في سبتمبر من عام 1981م مع أمين عام اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي الحاكم في (اليمن الجنوبي) آنذاك السيد علي ناصر محمد. . على (السعي من أجل التعجيل بخطوات عملية لتحقيق الوحدة اليمنية)، والذي استتبعه الرئيس علي عبدالله صالح فيما بعد. . بأربعة قمم مع قيادات اليمن الجنوبي. . كان آخرها ذلك الذي تم في (تعز) ما بين العاشر والثاني عشر من شهر مايو من عام 1990م مع الأمين العام للجنة المركزية للحزب الاشتراكي: السيد على سالم البيض. . حيث تم في ختامه التوقيع بين حزبي الأغلبية الرئيسيين: (المؤتمر) في الشمال و(الاشتراكي) في الجنوب. . على إعلان الاتفاق بينهما على قيام (الوحدة). . ليعلن الرئيس علي عبدالله صالح بعد عشرة أيام من ذلك اليوم. . ومن مدينة (عدن) على شاطئ بحر العرب والبحر الأحمر عبر خطابه التاريخي الرائع والأهم الذي وجهه إلى جموع أبناء اليمن في الداخل والخارج. . من أبناء سبأ وحمير - حيثما كانوا -، وإلى أبناء الأمة العربية عن قيام دولة الوحدة اليمنية الواحدة. . وانتهاء عهود التشطير والتجزئة. لقد كان مؤثراً أن يشهد رئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك الريس ياسر عرفات ولادة ذلك البعث الجديد في حياة الأمة. . بل وأن يكون من بين سامعي خطاب الرئيس علي عبدالله صالح في عدن، ليرتفع علم الوحدة منذ تلك اللحظات على ربوع اليمن بسهوله وجباله ووديانه وشطآنه. . وتصبح لليمن الواحد عصمتان: سياسية. . هي صنعاء، واقتصادية. . هي عدن، ورئيس واحد. . هو الرئيس علي عبدالله صالح، ونائب له هو السيد سالم البيض، فتعم الفرحة أرجاء اليمن السعيد. . بل والعالم العربي الأسعد بذلك الإنجاز الحضاري التاريخي المعجز، الذي شاءت الأقدار. . أن يكون محققه وبطله عن صبر وجدارة ابن اليمن البار: الرئيس علي عبدالله صالح.
لكن هذه (الوحدة اليمنية) الرائعة. . التي تمت عبر حوار وطني حميمي صادق شريف. . معبر عن تطلعات اليمنيين وأحلامهم، والتي كان الإيثار. . أحد أبرز ملامحها وراياتها. . تعرضت بعد أربع سنوات لمحاولة الارتداد عنها وتخريبها من قبل قلة قليلة من القياديين الجنوبيين، ممن أغرتهم (المطامع) والمصالح والأهواء، والتي لم تكن في حقيقتها لتسمن أو تغني. . أمام شرف الإسهام في إنجاز الوحدة بكل ثقله السياسي والتاريخي، ليقف اليمن برئيسه وقيادته وجنوده وملايينه الثلاثة والعشرين دفاعاً عن (الوحدة). . فكانت دماء الشرفاء التي أريقت في تلك الحرب (الزائغة) وكأنها التعميد المقدس الذي أراده الله لهذه (الوحدة) لتدخل دولة الوحدة بعدها. . عهد استقرارها الحقيقي الأكيد، فتفتح أبوابها إقليمياً وعربياً للعديد من اللقاءات والندوات والمؤتمرات العربية الكبرى، والتي لم أشرف بالمشاركة في أي منها وبكل أسف. . ؟!
* * *
ربما. . كانت زحمة الأحداث، وربما كان النسيان مع دفقها. . هما السببان الرئيسيان لغيابي غير المقصود عن المشاركة في تلك المناسبات - الإقليمية والعربية - التي شهدتها دولة الوحدة طوال ما يزيد عن عقد من الزمان. . إلى أن جاءت مناسبة حج العام الماضي، عندما دعتني وزارة الثقافة والإعلام من بين المدعوين لحضور حفل وداعها السنوي لضيوف (الوزارة) من رؤساء تحرير الصحف والمجلات، ومديري وكالات الأنباء العربية والإسلامية، وكبار الإعلاميين في إذاعات وتلفزيونات العالم. حتى ال(CNN) الأمريكية والقناة الفرنسية الأولى، لأجد نفسي - وقد أسلمت يدي لمنظم الجلوس في القاعة - إلى جوار أحد الشخصيات اليمنية، فسلمت وقدمت له نفسي. . فسلم وقدم نفسه بدوره: محمد حسن شاهر (وكيل وزارة الثقافة والإعلام اليمني)، فأدهشتني المصادفة. . بقدر ما أسعدتني، إذ لو أنني كنت أعرفه من قبل، وبحثت عنه وسط ذلك الحشد الكبير الذي اجتمع في الحفل. . لما استطعت أن ألقاه. . ولكنها المصادفات التي تصنع ما لا يخطر على البال أحياناً. . ؟!
بعد أن انتهى الحفل الخطابي بصورته المعهودة، ودعي الجمع إلى موائد العشاء. . أخذتنا الأحاديث على مائدة الطعام شرقاً وغرباً: من الثقافي إلى السياسي. . ومن الاجتماعي إلى الاقتصادي. لألاحقه بأسئلتي الجائعة عن (اليمن) وأحواله. . وأخباره. . بعد أن تحقق حلم اليمنيين في (الوحدة). . ؟
ولكنه ترك حصار أسئلتي، ليقول لي: منذ متى كان آخر عهدك باليمن؟
قلت: ربما قبل عشرين عاماً. . وربما أكثر. . ؟
اتسعت حدقتاه. . ليقول لي: عندما أعود إلى (صنعاء) سأخبر معالي وزير الثقافة والإعلام الأستاذ حسن اللوزي - الذي كنت قد شرفت بمعرفته وصداقته الحميمة منذ تلك الأيام -؛ لتقوم الوزارة بترتيب برنامج لدعوتك، لترى اليمن ثانية. وقد كان. .
* * *
عندما انزاحت الغيوم من تحت الطائرة، وهي تهبط من ارتفاعها الشاهق. . بدت (صنعاء) تحت نظري: جميلة كما عهدتها. . حالمة كما أتخيلها. . تحيط ببيوتها (الصنعانية) المزركشة مساحات خضراء داكنة، تلعب بتناقضها اللوني مع ما حولها. . أنغاماً، تسمعها. . وتراها. تحسها وتحبها، لأتذكر تلك المقولة التي أطلقها - كما يقول المؤرخون - الإمام أحمد بن حنبل: (لا بدَّ من صنعاء ولو طال السفر). . والتي حفظها معظم الناس دون أن يعلموا مَن قائلها، أو مناسبة قولها. . لتتحول على يد شاعر اليمن الجميل وضميره وأحد أبرز مثقفيه: الأستاذ الدكتور عبدالعزيز المقالح. . إلى (ديوان شعر) يحمل العنوان ذاته (لا بد من صنعاء). . أما داخله فيحوي قوله الأروع:
(يوماً تَغَنَّى. . في منافينا القدَرْ
لا بد من صنعاء وإن طال السفر
لا بد منها. . حبنا
أشواقها تدوي حوالينا إلى أين المفر
إنَّا حملنا حزنها وجراحها
تحت الجفون فأورقت وأزكى الثمر)
ومع أول هاتف أتلقاه من الأستاذ محمد الشاهر بسلامة الوصول. . كنت أدلف إلى مطار صنعاء الذي أحتفظ بواجهته (الستينية) التاريخية التي أعرفها. . لكن داخله تغير وتبدل إلى الأحسن والأجمل: اتساعاً. . في الطول والعرض، وميكنة في نقل الحقائب وعرضها، وفي الانتقال من قاعات الوصول إلى قاعات السفر، وفتيات يمنيات محتشمات يعملن في خدمة المغادرين والقادمين. . إلى جانب نظافة لافتة في ردهات المطار، وبواباته. . وفي مطعمه ومقهاه. تغريان بالجلوس في أي منهما، وهو ما كنت أنويه لولا أن مندوب الوزارة (الأستاذ وليد الريمي) أومأ إليَّ بمتابعته إلى قاعة كبار الزوار. . حيث أشعلت (غليوني) وتناولت أول فنجان قهوة يمني في موطنه.
عندما غادرنا المطار. . وأخذنا في الاتجاه إلى (الفندق) الذي لم أكن أعرف حتى تلك اللحظة ما اسمه. . ؟ ولا. . أين موقعه من صنعاء. . ؟ كان الأستاذ الريمي. . يقول لي: (لقد حرص معاليه. . على نزولك في هذا الفندق. . وليس غيره)؛ لأدرك بعد ساعات من قدومي إليه (المعنى) الذي أراد (معاليه). . أن ينقله إليَّ ب(المشاهدة)، وليس ب(الكلمات)! فقد كان الفندق بأدواره العشر وحديقته ومسبحه ومواقفه. . على الخط الدائري الثالث والجديد ل(صنعاء) أوروبياً بكله مع لمسات يمنية في واجهاته، وحضور يمني بارز في كوادره التي تعمل بين أقسام الفندق وطوابقه.
لكأن الأستاذ اللوزي أراد أن يقول لي: هذه هي (صنعاء). . الجديدة.
*صحفي سعودي
نقلاً عن الجزيرة السعودية