المؤلف/ علي محمد الصلابي
4- طلب العون من ملك المغرب (الموحدين): أبو يعقوب المنصور بن عبدالمؤمن الموحدي:
ولكن هذا السلطان ناقص هاجم برقة وطرابلس الغرب ثم تونس، وكان تقي الدين عمر مولاه يأمل في إقامة ملك له ناقص ومائة درهم من دهن البلسان، وعشرين رطلاً من العود، وستمائة مثقال من المسك والعنبر وخمسين قوساً عربية بأوتارها، وعشرين من النصول الهندية وعدة سروج موشاة وقد بعث صلاح الدين مع هذه الهدية كتاباً رقيقاً جاء فيه: الحمد لله الذي استعمل على الملة الحنيفية من استعمر الأرض وأغنى من أهلها من سأله القرض، وأجرى على يده النافلة والفرض، وزين سماء الذراري التي بعضها من بعض" وكان عنوان الكتاب: من صلاح الدين إلى أمير المسلمين وفي أوله: الفقير إلى الله تعالى يوسف بن أيوب، ويذكر السلاوي أن أبا يعقوب المنصور لم يعجبه أن يخاطبه صلاح الدين بلقب أمير المسلمين لا أمير المؤمنين وأنه أسرها في نفسه، ولكنه أكرم وفادة رسول صلاح الدين دون أن يحقق له غرضاً، وقد قيل: إن المنصور جهز مع ذلك مائة وثمانين سفينة وحال دون وصولها استيلاء الصليبيين على سواحل الشام، وقد دلل ابن خلدون بذلك على تفوق ملوك المغرب على ملوك المشرق في إنشاء الأساطيل الجهادية على أن ما ذكره بعض المؤرخين من أن المنصور الموحدي لم يقابل كتاب صلاح الدين بالارتياح لأنه لم يلقبه أمير المؤمنين لا ينهض دليلاً على عدم استجابة يعقوب المنصور لنداء صلاح الدين، وإنما كان ذلك راجعاً إلى أن يعقوب المنصور كان دائماً على أهبة الاستعداد لحرب النصارى في الأندلس، كما أن للموحدين تصريحات تدل على رغبتهم في ناقص مصر، وقد عبر عن هذه الرغبة بوضوح شاعر الموحدين ابو العباس بن عبدالسلام الجراوي في بعض أشعاره.
لقد كان الموحدون يخططون لغزو بلاد المشرق الإسلامي وأن أولى الخطوات المستهدفة هي البلاد المصرية، لقد صرح السلطان الموحدي برغبته في غزو البلاد المصرية، وذكر ما فيها من المناكر والبدع وقال: نحن إن شاء الله مطهروها، ولم يزل هذا عزمه إلى أن مات رحمه الله إذن فقد كان الموحدون يخططون لغزو المشرق كله ولا شك أن أمراء الدولة النورية والأيوبية يعلمون بهذا ولذلك أرادوا أن يأخذوا زمام المبادرة في أيديهم فقام الأيوبيون بتكليف بعض كبار شخصياتهم بالتوجه إلى بلاد المغرب وإيجاد مراكز نفوذ لهم بها وذلك حتى تكون هذه المراكز خط الدفاع الأول لإمارات المشرق في وجه الأطماع الموحدية.
وكانت غزوة قراقوش على المغرب هي إحدى هذه الخطوات التي بادر الأيوبيون باتخاذها لقد تحركت الحملات الأيوبية نحو المغرب واتخذت الطريق الصحراوي لقصره أولاً ثم لقلة الأخطار التي يمكن أن يتعرضوا لها ولذلك تركوا الطريق الساحلي الذي كان مليئاً بقبائل بني سليم وبني هلال الذين استطاعوا أن يخضعوا شرق ليبيا لسيادتهم ونعموا فيها برغد العيش ورفاهته، ولذلك عملوا على التمسك بهذه البلاد ومقاتلة كل من يحاول النزول فيها أو الاستيلاء عليها منهم.
ولقد رفض المنصور إرسال النجدة لدوافع نفسية، وحزازات سياسية، وموقف داخلي متوتر وخارجي متربص ولقد اكرم سلطان الموحدين سفير صلاح الدين وبالغ في إكرامه ولما مدحه سفير صلاح الدين شمس الدين بن منقذ في قصيدة عدتها أربعون بيتاً أعطاه بكل بيت ألفا.
إن صلاح الدين الأيوبي لم يعترف بخلافة السلطان الموحدي ولم يخاطبه بلقب أمير المؤمنين في الخطاب الذي أرسله إليه مع رسوله ابن منقذ، وهذه مسألة لها أهمية خاصة على أساس أن الاعتراف بالخلافة الموحدية وبشرعية الدولة الموحدية القائمة في العلن على تعاليم ابن تومرت المنحرفة، وهذا ما بينه القاضي الفاضل مستشار صلاح الدين الأكبر عندما قال: ... بأن الخطاب يكفي، وطريق جحدنا له ممكن، والكتابة حجة تقيد اللسان عن الإنكار ومتى قرئت على منبر من منابر المغرب جعلنا خالعين في مكان الإجماع مبايعين من لا ينصره الله ولا شوكة فيه ولا يحل أتباعه، مرخصين الغالي منحطين عن العالي شاقين عصا المسلمين، مغرقين كلمة المؤمنين مطيعين لمن لا تحل طاعته، متقلدين لمن لا تصح ولايته.
ولو التقى صلاح الدين مع السلطان الموحدي في غرفة مباحثات مغلقة لوصلوا إلى أمور تنفع الأمة كلها، نظراً لما تميز به صلاح الدين من مرونة سياسية منقطعة النظير، ولما وصل إليه السلطان المنصور من حرصه على إصلاح عقائد الموحدين والاقتراب من منهج أهل السنة والجماعة، ولكن الله غالب على أمره ومهما يكن من شيء فإن هذا الخلاف السياسي والعقدي الذي وقع بين صلاح الدين وملك الموحدين لم يحل دون تعاون شعوبهما في السراء والضراء كما هو الحال في كل زمان ومكان فمن المعروف من كتب التراجم المختلفة أن عدداً كبيراً من المغاربة قد ساهموا في الحروب الصليبية إلى جانب إخوانهم المشارقة واستشهد منهم عدد كبير دفن في فلسطين.
إن صلاح الدين سعى للاستفادة من الموحدين ضد الحملة الصليبية الثالثة وهذا يدل على مرونته السياسية الكبيرة، فقد أدى ما عليه، أما سلطان الموحدين فكان يمكنه أن يتجاوز الخلافات المنهجية ويساهم مع صلاح الدين في الدفاع عن الأمة الإسلامية إلا أنه فشل في هذا الاختيار.
5- دور القاضي الفاضل أثناء حصار الصليبيين لعكا:
كان للقاضي الفاضل دور بالغ الأهمية أثناء حصار الصليبيين لعكا، وكان متواجداً بمصر آنذاك يدبر شؤونها نيابة عن صلاح الدين، وكان من خلال موقعه هذا يرتب للسلطان أموره، من تجهيز العساكر، وتعمير الأسطول، وحمل المال، ونقل الميرة إلى عكا، والسلطان يكاتبه في مهماته، وترجع أجوبته بأحسن عباراته مشيراً وناصحاً ومسلياً وباحثاً عن مصالح الإسلام متقصياً.
وكانت مكاتباته تتواصل إلى صلاح الدين أثناء حصار الفرنج لعكا بصفة مستمرة، مليئة بالعبارات الصادقة بكل مشاعر الحب والإخلاص للتخفيف عنه من صعوبة هذا الحصار ومشاركته أحزانه وآماله، فكان يشجعه فيها ويحثه على الصبر ويقوي من عزيمته لمواصلة الجهاد وعدم اليأس، وعدم القنوط من رحمة الله وكرمه، ويدعوه للتمسك بالآمل في نصر الله، وكانت هذه العلاقة مبنية على الأخوة في الله ووحدة الهدف، وليست قائمة على تابع ومتبوع وسيد وخادم، فجاء في إحدى هذه الرسائل: ولا يكره المولى أن تطول مدة الابتلاء بهذا العدو فثوابه يطول، وحسناته تزيد، وأثره في الإسلام يبقى، وفتوحاته بمشيئة الله يعظم موقعها، والعاقبة للتقوى ولينصرن الله من ينصره، والله تعالى يشكر لمولانا جهاده بيده وبرأيه بولده وبخاصته وبعامة جنده.
وكان من ضمن الرسائل الأخرى التي كان يرسلها القاضي الفاضل إلى صلاح الدين تلك التي أوضح فيها اعتذاره عن تأخر وصول الأسطول المصري إلى الشام بالإمدادات التي طلبها صلاح الدين من مصر، موضحاً أن ذلك مرجعه اشتداد الرياح المعاكسة وليس تقصيراً منه.
ومما لا شك فيه أن هذه الرسالة تعتبر تأكيداً للدور الذي كان يقوم به في مصر هذا القاضي الأجل وغيره من الفقهاء والعلماء لمساعدة صلاح الدين وتأمين مستلزمات وتموين الجند المحارب معه بعكا، وجدير بالذكر أن القاضي كان يحاول بكل الطرق والوسائل الممكنة أن يساعد صلاح الدين والمسلمين أثناء هذا الحصار، فأرسل إلى الخليفة العباسي ببغداد كتاباً يستحثه في بأقوى العبارات وأوقعها على النفس والقلب، مهيباً به أن يقف بجانب صلاح الدين والمسلمين في هذا الموقف الصعب، نصرة لدين الله ولرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإعلاء لشأن المسلمين، ولعل أقوى العبارات التي أوردها في هذا الكتاب قوله مناشداً الخليفة: فيا عصبة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخلفه في أمته بما تطمئن به مضاجعه، ووفه الحق فينا، فأنا والمسلمون عندك ودائعه، وما مثل الخادم نفسه في هذا القول إلا بحالة عبد لو أمكنه لوقف بالعتاب ضارعاً وقبل ترابها خاشعاً وناجاها بالقول صادعاً، ولو رفعت عنه العوائق لهاجر وشافه طبيب الإسلام بل مسيحه بالداء الذي خامر، ولو أمن عدو الإسلام أن يقول قولاً آخر لسافر، ولولا أن في التصريح ما يعود على العدالة بالتجريح لقال ما يبكي العيون وينكي القلوب، ولكنه صابر محتسب منتظر لنصر الله مرتقب، قائم من نفسه بما يجب، وعلى ذلك تجاوز القاضي الفاضل بالسلطان صلاح الدين تلك المحنة القاسية، التي مرت بها عكا، وكان وحده بمثابة جيش ثان يحارب جنباً إلى جنب مع صلاح الدين، ومما جاء في رسائل القاضي الفاضل لصلاح الدين من النصح والإرشاد قوله: .... وهذا دين ما غلب بكثرة ولا نصر بثروة، وإنما اختار الله تعالى له أرباب نيات وذوي قلوب مع وحلات فليكن المولى نعم الخلف لذلك السلف "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" واشتدي أزمة تنفرجي والغمرات تذهب ثم لاتجيء، والله تعالى يسمع الأذن ما يسر القلب ويصرف عن الإسلام وأهله غاشية هذا الكرب، ونستغفر الله العظيم، فإنه ما ابتلى إلا بذنب وجاء في كتاب آخر له: إنما أتينا من قبل أنفسنا ولو صدقناه لعجل لنا عواقب صدقنا، ولو أطعناه لما عاقبنا بعدونا، ولو فعلنا ما نقدر عليه من أمره لفعل لنا ما لا نقدر عليه إلا به، فلا يستخصم أحد إلا عمله، ولا يلم إلا نفسه ولا يرج إلا ربه ولا ينتظر العساكر أن تكثر، ولا الأموال أن تحضر ولا فلان الذي يعتقد عليه أن يقاتل، ولا فلان الذي ينتظر أنه يشير، فكل هذه مشاغل عن الله ليس النصر بها ولا نأمن أن يكلنا الله إليها والنصر به، واللطف منه، والعادة الجميلة له ونستغفر الله سبحانه من ذنوبنا، فلولا أنها تسد طريق دعائنا لكان جواب دعائنا قد نزل وقبض دموع الخاشعين قد غسل ولكن في الطريق عائق، خار الله لمولانا في القضاء السابق واللاحق، ومن كتاب آخر: وعسكرنا لا يشكو والحمد لله منه خوراً إنما يشكو منه ضجراً والقوى البشرية لا بد أن يكون لها حد والأقدار الإلهية لها قصد، وكل ذي قصد خادم قصدها، وواقف عندها حدها، وإنما ذكر المملوك هذا ليرفع المولى من خاطره مقت المتقاعس من رجاله، كما يثبت فيه شكر المسارع من أبطاله قال الله تعالى: "فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر" يا مولانا، أليس الله تعالى اطلع على قلوب أهل الأرض فلم يؤهل، ولم يستصلح، ولم يختر، ولم يسهل ولم يستعمل ولم يستخدم في إقامة دينه، وإعلاء كلمته وتمهيد سلطانه، حماية شعاره، وحفظ قبلة موحديه إلا أنت؟ هذا وفي الأرض من هو أحق للنبوة قرابة، ومن له المملكة وراثة، ومن له في المال كثرة، ومن له في العدد ثروة، فأقعدهم وأقامك، وكسلهم ونشطك وقبضهم وبسطك، وحبب الدنيا إليهم، وبغضها إليك وصعبها عليهم وهونها عليك، وأمسك أيديهم وأطلق يدك، وأغمد سيوفهم وجرد سيفك وأشقاهم وأنعم عليك وثبطهم وسيرك "ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين".