;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس .. الحلقة الـ«104» 776

2009-01-03 04:02:00

المؤلف/ علي محمد الصلابي

وأخرى أهم من الأولى أنه لما اجتمعت كلمة الكفر من أقطار الأرض وأطراف الدنيا ومغرب الشمس ومزخر البحر، ما تأخر منهم متأخر ولا استبعد المسافة بينك وبينهم مستبعد وخرجوا من ذات أنفسهم الخبيثة، لا أموال تنفق فيهم، ولا ملوك تحكم عليهم، ولا عصا تسوقهم ولا سيف يزعجهم مهطعين إلى الداعي ساعين وهم من كل حدب ينسلون: ومن كل بر وبحر يقبلون.

وهذا ليس لك من المسلمين كافة مساعد إلا بدعوة ولا مجاهد معك بلسانه، ولا خارج معك إلا بهم، ولا خارج بين يديك إلا بالأجرة، ولا قانع منك إلا بزيادة تشترى منهم الخطوات شبراً بذراع وذراعاً بباع فدعوهم إلى الله وكأنما تدعوهم إلى نفسك، وتسألهم الفريضة تكلفهم النافلة، وتعرض عليهم الجنة وكأنك تريد أن تستأثر بها دونهم، وقال في كتاب آخر: ... ولنا ذنوب قد سدت طريق دعائنا فنحن أولى بأن نلوم أنفسنا، ولله قدر لا سلاح لنا في دفعه إلا أن نقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وقد أشرفنا على أهوال "قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب" وقد جمع العدو لنا وقيل لنا: اخشوه، فقلنا: حسبنا الله ونعم الوكيل، متنجزين بذلك موعود الانقلاب بنعمة من الله وفضل فما نرجو إلا ذلك الفضل العظيم، وليس إلا الاستعانة بالله، فما دلنا الله في الشدائد إلا على الدعاء له وعلى طروق باب كرمه وعلى التضرع إليه، "فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم".

ونعوذ بالله من القسوة، ومن القنوط من الرحمة، ومن اليأس من الفرج فإنه لا ييأس منه إلا مسلوب الرشد، مطرود عن الله مقطوع الحظ منه ولا حيلة إلا بترك الحيلة، بل قصد من أن تمضي أقداره بلا حيلة سبحانه وتعالى، إن علم الله من جند مولانا أنهم قد بذلوا المجهود فقد عذرهم، فيعذرهم المولى، وإن علم أنهم قد ذخروا قوة أو قصروا في نصرة كلمة الله فيكفيهم مقت الله والمملوك يذكر المولى بصبره، ويرحب صدره وبفضل خلقه وبتقواه لربه، وبمداراة مزاجه وببرء القلوب الإسلامية ببرء جسمه "وإن كان كبر عليك إعراضهم" الآية إلى "ولو شاء الله لجمعهم على الهدى".

قيل للمهلب: أيسرك ظفر ليس فيه تعب؟ فقال: أكره عادة العجز، ولا بد أن تنفذ مشيئة الله في خلقه، ولا راد لحكمة فلا يستخط مولانا بشيء من قدره؛ فلأن يجري القضاء وهو راضٍ مأجور خير من أن يجري وهو ساخط موزور، فيعطي نار الشدة أعاذه الله منها - ولا يجد راحة الثواب منها وفر الله حظه منه من شكا بثه وحزنه إلى الله شكا إلى مشتكى إلى واستغاث بقادر ومن دعا ربه دعاء خفياً استجاب له استجابة ظاهرة، فلتكن شكوى مولانا إلى الله خفية عنا ولا يقطع الظهور التي لا تشتد إلا به ولا يضيق صدوراً لا تنفرج إلا منه، وما شرد الكرى، وأطال على الأفكار ليل السرى إلا ضائقة القوت بعكا... فقد علم مولانا بالمباشرة أنه لا يدبر الدهر إلا برب الدهر ولا ينفذ الأمر إلا بصاحب الأمر، وأنه لا يقل الهم إن كثر الفكر.

كل مقترح يجاب إليه إلا ثغراً يصير نصرانياً بعد أن أسلم أو بلد يخرس فيه المنبر بعد أن تكلم.

يا مولانا هذه الليالي التي رابطت فيها والناس كارهون، وسهرت فيها والعيون هاجعة وهذه الأيام التي ينادى فيها: يا خيل الله اركبي، وهذه الساعات التي تزرع الشيب في الرؤوس، وهذه الغمرات التي تفيض فيها الصدور بمائها بل بنارها، هي نعمة الله عليك وغراسك في الجنة، ومجملات محضرك "يوم تجد كل نفسٍ ما عملت من خير محضرا"، وهي مجوزاتك الصراط، وهي مثقلات الميزان، وهي درجات الرضوان، فاشكر الله عليها كما تشكره على الفتوحات الجليلة واعلم أن مثوبة الصبر فوق مثوبة الشكر، ومن ربط جأش أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، قوله: لو كان الصبر والشكر بعيرين ما بليت أيهما ركبت وبهذه العزائم سبقونا وتركونا نطمع بالغبار وامتدت خطاهم ونعوذ بالله من العثار، ما استعمل الله في القيام بالحق إلا خير الخلق، وقد عرف ما جرى في سير سبيلهم ويقتدي بأولي العزم منهم وما تغلو الجنة بثمن، وما ابتلى الله سبحانه من عباده إلا من يعلم أن يصبر، وأمور الدنيا ينسخ بعضها بعضاً وكأن ما قد كان لم يكن، ويذهب التعب ويبقى الأجر وإنما يقظات العين كالحلم، أهم الوصايا ألا يحمل المولى هماً يضعف به جسمه ويغير مزاجه، والأمة بنيان وهو - أبقاه الله - قاعدته والله يثبت تلك القاعدة في نصرة الحق.

ومما يستحسن من وصايا الفرس: إن نزل بك ما فيه حيلة فلا تعجز وإن نزل بك ما ليس فيه حيلة - والعياذ بالله - فلا تجزع ورب واقع في أمر لو اشتغل عن حمل الهم به بالتدبير مع مقدور الله لانصرف همه وكفى خطبه "وما تشاؤون إلا أن يشاء الله".

هذا سلطان هو بحول الله أوثق منه بسلطانه، قاتلت الملوك بطمعها وقاتل هذا بإيمانه، وإذا نظر الله إلى قلب مولانا لم يجد فيه ثقة بغيره ولا تعويلاً على قوة إلا على قوته، فهنالك الفرج ميعاده، واللطف ميقاته، فلا يقنط من روح الله ولا يقل: "متى نصر الله" وليصبر فإنما خلق للصبر، بل ليشكر فالشكر في موضع الصبر أعلى درجات الشكر وليقل لمن ابتلى أنت المعافى وليرض عن الله سبحانه فإن الرضي عند الله هو المسلم الراضي فأما أخبار فتنة العجم فسبحان من ألحق قلوبهم بألسنتهم "قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون".

وكتب السلطان إلى القاضي كتاباً من بلاد الفرنج يخبره عما لاح له من أمارات النصر ويقول: ما أخاف إلا من ذنوبنا أن يأخذنا الله بها، فكتب إليه الفاضل: فأما قول مولانا إننا نخاف أن نؤخذ بذنوبنا، فالذنوب كانت مثبتة قبل هذا المقام وفيه محيت، والآثام كانت مكتوبة ثم عفي عنها بهذه الساعات وعفيت، فيكفي مستغفراً ليسان السيف الأحمر في الجهاد، ويكفي قارعاً لأبواب الجنة صوت مقارعة الأضداد، وبعين الله موقفك، وفي سبيل الله مقامك ومنصرفك، وطوبى لقد سعت في منهاجك وطوبى لوجه تلثم عجاجك وطوبى لنفس بين يديك قتلت وقتلت وأن الخواطر بشكر الله فيك عن شكرها لك قد شغلت.

وهذا هو القاضي الفاضل العالم الرباني صاحب البيان البديع، والفهم العميق لسنن الله في تحقيق النصر ولا نستغرب بعد هذه المكاتبات من قول صلاح الدين: ما فتحت بلداً بسيفي ولكن بقلم القاضي الفاضل.

إن وجود نوعية القاضي الفاضل بجوار القيادات السياسية والعسكرية له أثره المعنوي فيها يفتح الله أبواب الأمل للقيادات وتحرص على الثواب فيما عند الله وتكون سبباً في صبرها وثباتها.

6- جهود صلاح الدين في فك الحصار عن عكا:

استنفر صلاح الدين المسلمين وأمراءهم للجهاد في سبيل الله ووقف رحمه الله بجموع المسلمين يكرون على الأعداء والحرب بينه وبين الصليبيين سجال، كلما دمر لهم كتيبة استبدلوا بها كتائب، وأوروبا هناك تقف وراء جيوشها تدعمها وتمدها بالمال والسفن والرجال في كل حين، والحقد على المسلمين يملأ قلبها، ولما اشتد الحصار على عكا أصبح هم صلاح الدين الكبير أن يمد المحاصرين بالمال والنفط والرجال؛ لأن إمدادات الصليبيين تصل إليهم بسهولة وإمدادات المسلمين المحاصرين لا تصل إلا بصعوبة شديدة فلم تبق حيلة أو خدعة حربية يفكر بها القادة، إلا وقد استخدمها صلاح الدين الأيوبي ومن هذه الحيل:

أ - اختراق الحصار البحري على عكا:

كان صلاح الدين رحمه الله قد أعد ببيروت بطسة وعمرها وأودعها أربع مئة غرارة من القمح ووضع فيها من الجبن والبصل والغنم وغير ذلك من الميرة، وكان الفرنج قد أداروا مراكبهم حول عكا، حراسة لها عن أن يدخلها مركب للمسلمين، وكان قد اشتدت حاجة من فيها إلى الطعام والميرة، فركب في بطسة ببيروت جماعة من المسلمين، وتزيوا بزي الفرنج، حتى حلقوا لحاهم، ووضعوا الخنازير على سطح البطسة بحيث ترى من بعد وعلقوا الصلبان وجاؤوا قاصدين البلد من البعد حتى خالطوا مراكب العدو، فخرجوا إليهم واعترضوهم من الحراقات والشواني وقالوا لهم: نراكم قاصدين البلد، واعتقدوا أنهم منهم فقالوا: أولم تكونوا أخذتم البلد؟ فقالوا: لا لم نأخذ البلد بعد.

فقالوا: نحن نرد القلوع إلى العسكر، ووراءنا بطسة أخرى في هوائها فأنذرهم حتى لا يدخلوا البلد، وكان وراءهم بطسة فرنجية قد اتفقت معهم في البحر قاصدين العسكر، فنظروا فرأوها فقصدوها لينذروها فاشتدت البطسة الإسلامية في السير، واستقامت لها الريح حتى دخلت ميناء البلد وسلمت ولله الحمد وكان فرجاً عظيماً فإن الحاجة كانت قد أخذت من أهل البلد.

وفي العشر الأوسط من شعبان كتب بهاء الدين قراقوش وهو والي البلد، والمقدم على الأسطول، وهو الحاجب لؤلؤ يذكران للسلطان أنه لم يبق بالبلد ميرة إلا قدر ما يكفي البلد إلى ليلة النصف من شعبان لا غير، فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لخاص ولا عام، خشية الشيوع والبلوغ إلى العدو، وتضعف به قلوب المسلمين، وكان قد كتب إلى مصر بتجهيز ثلاث بطس مشحونة بالأقوات والإدام والمير، وجميع ما يحتاج إليه في الحصار، بحيث يكفيهم ذلك طول الشتاء، فأقلعت البطس الثلاث من الديار المصرية ولججت في البحر تتوخى النوتية بها الريح التي تحملها إلى عكا، فطابت لهم الريح حتى ساروا ووصلوا إلى عكا ليلة النصف من شعبان وقد فنيت الأزواد ولم يبق عندهم ما يطعمون الناس في ذلك اليوم، وخرج عليها أسطول العدو يقاتلها والعساكر الإسلامية تشاهد ذلك من الساحل والناس في تهليل وتكبير، وقد كشف المسلمون رؤوسهم يبتهلون إلى الله تعالى في القضاء بسلامتها إلى البلد والسلطان على الساحل كالوالدة الثكلى يشاهد القتال، ويدعو ربه بنصره وقد علم من شدة القوم ما لم يعلمه غيره، وفي قلبه ما في قلبه والله يثبته، ولم يزل القتال يعمل حول البطس من كل جانب والله يدفع عنها والريح تشتد، والأصوات قد ارتفعت من الطائفتين والدعاء يخرق الحجب حتى وصلوا بحمد الله سالمين إلى ميناء البلد وتلقاهم أهل عكا تلقي الأمطار عن جدب.

ب - عيسى العوام يخترق الحصار:

ومن نوادر القتال على عكا، أن عواماً مسلماً كان يقال له: عيسى كان يدخل البلد بالكتب والنفقات على وسطه ليلاً على غرة من العدو، وكان يغوص ويخرج من الجانب الآخر من مراكب العدو وكان ذات ليلة شد على وسطه ثلاثة أكياس فيها ألف دينار، وكتب للعسكر، وعام في البحر فجرى عليه أمر أهلكه، وأبطأ خبره - عن المسلمين - وكانت عادته إذا دخل البلد طار طائر عرف المسلمون بوصوله فأبطأ الطائر، فاستشعر هلاكه، فلما كان بعد أيام بينا الناس على طرف البحر في البلد وإذا البحر قد قذف إليهم ميتاً غريقاً فافتقدوه، فوجدوه عيسى العوام ووجدوا على وسطه الذهب ومشمع الكتب وكان الذهب نفقة للمجاهدين، فما رثي من أدى الأمانة في حال حياته وقدر الله له أداءها بعد وفاته إلا هذا الرجل.

قال العماد: فعدم - يعني عيسى - ولم يسمع له خبر، ولم يظهر له أثر، فظنت به الظنون وما تيقنت المنون، وكانت له لا شك عند الله منزلة فلم يرد أن تبقى حاله وهي مجملة محتملة فوجد في عكا ميتاً قد رماه البحر إلى ساحلها، وبرأه الله مما قالوا فذهب حق اليقين من الظنون بباطلها.

 

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد عبدالملك المقرمي

2024-11-29 03:22:14

نوفمبر المتجدد

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد