المؤلف/ علي محمد الصلابي
ج. استهداف المسلمين آلات الحصار وأدوات الدفاع : أشتد طمع الصليبيين في عكا ونصبوا المنجنيقات من كل جانب ، وتناوبوا على رمي البلد بها ليلاً ونهاراً، ولما رأى من بداخل عكا من المسلمين ما تلحقه تلك المنجنيقات بهم من الضرر، حركتهم النخوة الإسلامية، وعزموا على فتح أبواب المدينة ومهاجمة الصليبيين خراجها ففعلوا ذلك وخرجوا دفعة واحدة من كل جانب وهاجم المسلمون الصليبيين في خيامهم، فاشتغلوا بحماية خيامهم وتركوا المنجنيقات، فصوبت إليها شهب الزراقين واشتعلت فيها النيران وأحرقت عن آخرها.
د. محاصرة الصليبيين لبرج الذبان: وفي شعبان من نفس السنة (586ه) حاصر الصليبييون برج الذبان الذي وصفه ابن شداد بأنه برج في وسط البحر مبنى على الصخر على باب ميناء عكا لحراسة الميناء لأن المركب متى عبره أمن غائلة العدو، كما أن الاستيلاء عليها يجعل الميناء تحت سيطرتهم فيمنعون السفن المحملة بالميرة من الوصول إلى البلد، وأحضر الصليبيون فناً جعولا على صوريها برجاً علياً ملأوه بالحطب والنفط، على أن يسيروها وقتل من عليه من الجنود ، وعبوا سفينة ثانية ملأوها حطباً ووقوداً على أن يدفعوها إلى أن تدخل بين سفن المسلمين، ثم يشعلوا النيران منها إلى سفن المسلمين فتحرقها مع ما فيها من المير، كما شحنوا سفينة ثالثة بالجنود، وجعلوا عليه حاجزاً على هيئة قبو يمنع الرياح كان بادئ الأمريسير على ما يريدون، فإن قدرة الله شاءت بعد أن أشعلوا النار في المسلمين، أن انعكس اتجاه الريح عليهم فاحترقت سفنهم الأولى التي عليها البرج وكذلك ولم يستطيعوا الخروج من القبو فهلكوا جميعاً، وبالرغم من تكل الكارثة التي حلت بالصليبيين عند محاولتهم الاستيلاء على برج الذبان، فإنهم لم ينقطع أملهم في أخذ ذلك البرج، حيث عادوا مرة أخرى، ووضعوا آلية عظيمة على هيئة دبابة لها رأس عظيم برقية شديدة من الحديد تسمى كبشاً ينطح بها السور فتهدمه بتكرار نطحها، كما استخدموا آلة الحرث تسمى سنوراً، فرأس الكبش مدور يهدم بثقله ورأس السنور يهدم بحدته، كما استخدموا أيضاً الستائر والسلاليم الكبار الهائلة وأعدوا في البحر سفينة عظيمة أقاموا بها برجاً إذا أرادوا قلبه على السور انقلب بالحركات، ويبقى طريقا إلى المكان الذي ينقلب عليه فتمشي عليه المقاتلة وعزموا على تقريبه من برج الذبان فيأخذوه، ولما اكتملت استعداداتهم شرعوا في الزحف على البلد ومقاتلته من كل جانب وهم في خلق لا يحصى وأهملهم المسلمون بادئ الأمر حتى نشب مخاليب أطماعهم في عكا، وسحبوا آلاتهم تلك وقربوها وفتحوا الأبواب، وباعوا أنفسهم لخالقها وباركها كما يقول المؤرخ ابن شداد وهجموا على العدو من كل جانب وكبسوه في الخنادق، ولما رأوا ما نزل بالصليبيين من الخذلان والهزيمة وهجموا على كبشهم فألقوا فيه النار والنفط وتمكنوا من إحراقه هرب المقاتلة منه، ثم سرت النار كذلك في السنور وأحرقته ثم علق المسلمون في الكبش الكلاليب الحديدية وسحبوه وهو يشتعل حتى حصلوه عندهم في البلد وكان هذا الكبش يتألف من عدد من الآلات وألقى عليه الماء حتى برد حديده بعد أيام وكان هذا في رمضان من سنة (586ه/أكتوبر 1190م).
ه. سيطرة المسلمين على الموقف : ومما مضى يظهر لنا مدى سيطرة المسلمين على الموقف وكذلك مدى ما وصل إليه الصليبيون من الهلع والخوف حيث لم يكتف المسلمون بإلحاق الضرر بآلات الصليبيين، بل عمدوا إلى الاستفادة منها في جهادهم لتصفيتهم، ولما كان يوم الأربعاء منتصف شهر رمضان خرج المسلون على ظهور سفنهم وباغتوا تلك السفينة الصليبية التي كانت قد أعدت لأخذ برج الذبان، فضربوها بقوارير النفط وباءت محاولة الصليبيين لأخذ البرج بالفشل الذريع.
و. شجاعة فائقة : وفي جمادي الأولى من سنة (587ه / يونيو 119م) هاجم الصليبيون سفينة إسلامية كانت قد سيرت من بيروت بعد شحنها بالآلات والأسلحة والمير والرجال، وكان مقدمهم رجلاً شجاعاً، فما إن رأى أمارات الغلبة عليهم حتى أشار على أصحابه بإغراق سفينتهم بأيديهم لئلا يتمكن العدو من الظفر بها، فوقعوا في جوانبها بالمعاول حتى دخل الماء إليها فغرقت وغرق جميع ما فيها من الآلات والمير، ولم يظفر العدو بشيء منها.
ز. هجوم إسلامي على دبابة عظيمة مكونة من أربع طبقات: عزم المسلمون إذ كانوا داخل عكا على مهاجمة الصليبيين وتكبيدهم خسائر أكثر لكي يثبتوا لهم أن غرق السفينة لم يؤثر عليهم، وحدث في ذلك الوقت أن اصطنع العدو دبابة عظيمة هائلة مكونة من أربع طبقات، الطبقة الأولى من الخشب والثانية من الرصاص والثالثة من الحديد، والرابعة من النحاس ، وكان ارتفاعها أكثر من ارتفاع السور، وشحنوها بالمقاتلة وقربوها من السور لمهاجمة المسلمين في الداخل، إلا أن المسلمين بادروا بضربها بالنفط، واستمر ضربهم ليلاً ونهاراً حتى تمكنوا من إشعال النار فيها وإحراقها، وعلى الرغم من تلك الخسائر التي ألحقها المسلمون بالصليبيين، فإن الغرب الأوروبي لم تنقطع إمداداته عن الصليبيين ببلاد الشام الأمر الذي مكّن الصليبيين من مواصلة حصارهم لعكا، ففي الوقت الذي كان صلاح الدين قد حقق انتصارات عظيمة على الصليبيين سواء في المعارك أو في تحطيم آلاتهم وأدواتهم، وصل إلى المشرق الإسلامي أعظم ملوك أوروبا في ذلك الحين وهما الملك فيليب أغسطس ملك فرنسا وريتشادر قلب الأسد ملك إنجلترا، اللذين سلكا طريق البحر إلى هناك، ولا شك أكان لوصولهما أثره البالغ في رفع الروح المعنوية للصليبيين.
ح- إخراج عسكر عكا، وإدخال البدل عنهم إليها : ولما هجم الشتاء وهاجم البحر وأمن العدوّ من أن يضرب مصافّ وأن يبالغ في طلب البلد وحصاره من شدة الأمطار وتواترها أذِن السلطان للعساكر في العودة إلى بلادها ليأخذوا نصيباً من الرّاحة. . . . . ولم يبق عند السلطان إلا نفر يسير من الأمراء والحَلقة الخاصة، واشتغل السلطان بإدخال البدل إلى عكا، وحمل الميرَ والذخائر، وإخراج من كان بها من الأمراء لعظم شكايتهَم من طول المقام بها، ومعاناة التعب والسهر وملازمة القتال ليلاً ونهاراً، وكان مُقَدّم البَدَل الدّاخل من الأمراء سيف الدّين المشطوب دخل في سادس عشر المحرم سنة سبع، وفي ذلك اليوم خرج المقدّم مع المشطوب خَلق من الأمراء وأعيان من الخلق وتقدم إلى كلّ من دخل أن يصحب معه ميرة سنة كاملة.
ط - بلاء عظيم على المسلمين : انتقل الملك العادل بعسكره إلى حيفا على شاطئ النهر، وهو الموضع الذي تُحمل منه المراكب، وتدخل إلى البلد، وإذا خرجت تخرج إليه، فأقام ثم أخذ يحثُّ الناس على الدخول، ويحرس المير والذخائر لئلا يتطرق إليها من العدو من يتعرضها، وكان مما دخل إليها سبع بطس مملوءة ميرة وذخائر ونفقات الصخر الذي هو قريب الميناء فانقلب كل من في البلد من المقاتلة إلى جانب البحر لتلقّي البطس وأخذ ما فيها، ولما علمالعو انقلاب المقاتلة إلى جانب البحر اجتمعوا في خلقٍِ عظيم وزحفوا على البلد من جانب البَرّ زحفة عظيمة وقاربوا الأسوار وصعدوا في سلّم واحد، فاندق بهم السُلَّم كما شاء الله تعالى، وأدركهم أهل البلد، فقتلوا منهم خلقاً عظيماً وعادوا خائبين خاسرين، وأما البطس، فإن البحر هاج هيجاناً عظيماً، وضرب بعضها ببعض على الصَّخر، فهلكت وهلك جميع ما كان فيها، وهلك فيها خلق عظيم، قيل كان عددهم ستين نفراً وكان فيها ميرة عظيمة لو سلمت لكفتِ البلد سنة كاملة ودخل على المسلمين من ذلك وهن عظيم وحَرِجَ السلطان لذلك حرجاً شديداً، وكان ذلك أول علائم أخذ البلد.
ي - إسلام بعض الفرنج: أستأمن من الإفرنج خلق عظيم أخرجهم الجوع إلى معسكر السلطان صلاح الدين وقالوا: نحن نخوض البحر في براكسن ونكسب من العدو ويكون الكسب بيننا وبين المسلمين ، فأذن لهم وأعطاهم بركوساً - وهو المركب الصغير- فركبوا فيه وظفروا بمراكب لتجار العدو بضائعهم معظمها فضة مصوغة وغير مصوغة فأسروهم وكبسوهم وأحضروهم بين يدي السلطان، فأعطاهم السلطان جميع ما غنموه، فلما أُكرموا بهذه المكرمة أثنوا على اليد المُنعمة، وأسلم منهم شطرهم وأحضروا مائدة فضة عظيمة، وعليها مكبة عالية، ومعها طبق يماثلها في الوزن ولو وزنت تلك الفضيات قاربت قنطاراً، فما أعارها طرفه احتقاراً.
ك - استشهاد جمال الدين محمد بن أركز: والتقى في هذا السنة شواني المسلمين بشواني الفرنج في البحر،فأحرقت للكفر شواني برجالها وكان عند العود تأخر شيني، مقدّمة الأمير جمال الدين محمد بن أركز، فأحاطت به مراكب العدو فتواقع ملاَّحوه إلى الماء وسلَّموه إلى البلاد فقاتل وصبر فعرضوا عليه الأمان، فقال : ما أضع يدي إلا في يد مقدَّمكم الكبير، فلا يخاطر الخطير إلا مع الخطير فجاء إليه المقدم الكبير، وظنّ أنه قد حصل له الأسير فعاقره وعانقه وقوِّى عليه وما فارقه، ووقعا في البحر وغرقا وترافقا في الحمام واتّفقا، وعلى طريقي الجنة والنار افترقا.
ل - وصول القاضي الفاضل إلى معسكر السلطان صلاح الدين :وصل القاضي الفاضل من مصر إلى المعسكر المنصور في ذي الحجة، وكان السلطان متشوقاً إلى قدومه وطالت مُدة البين لغيبته عنه سنتين، على أن أمور الممالك بمصر كانت بحضوره مستتبة وقد جمع للملك العزيز بمقامه هيبة ومحبّة، وكان السلطان شديد الوثوق بمكانة ، دائم الاعتماد والاستناد على إحسانه وإلى أركانه، فإن استقدمه خاف على ما وراءه من المهام، وإن تركه نال وحشة التفرّد بالقضايا والأحكام، وكان يكاتبه بشرح الأحوال ويستشيره والنّجابون متردّدون بالمكاتبات والمخاطبات والاستشارة في المهمَّات، فوصل إلى القدس واعتاق بتوالي الأمطار. . . ورجع الفضل واجتمع الشمل واستأنس الملك بصاحب تدبيره، وتأسس ركنه برأي مشيره.
م. وفاة قاضي القضاة كمال الدين الشهرزوري بالموصل: في هذه السنة توفي بالموصل قاضي القضاة محيي الدين أبو حامد بن قاضي القضاة كمال الدين بن الشهرزوري، وقد أثنى العماد الكاتب عليه في " الخريدة، ثناءً كبيراً وأنشد له أشعاراً حسنة منها في التوحيد:
قامت بإثبات الصفات أدلّة
قصمت ظهور أئمة التعطيل
وطلائع التنزيه لما أقبلت
هزمت ذوي التشبيه والتمثيل
فالحق ما صِرنا إليه جميعنا
بأدلة الأخبار والتنزيل
من لم يكن بالشرع مقتدياً فقد
ألقاه فرد الجهل في التضليل
وله في مدح الصحابة :
لائمي في هوى الصحابة
ارجع إلى سقر
لا بغتَ المُنى ولا
نِلت من رفضك الوطر
كيف تنهى عن حب قوم
هم السمع والبصر
وهم سادة الورى
وهم صفوة البشر
فأبو بكر المقدم
من بعده عمر
ثم عثمان بعده
وعليُّ على الأثر
أيها الرافضي حسبك
فالحق قد ظهر