المؤلف/ علي محمد الصلابي
7- الملكان الفرنسي والإنكليزي في عكا:
وصل إلى المشرق الإسلامي أعظم ملوك أوروبا في ذلك الحين، وهما : الملك فيليب أغسطس ملك فرنسا، وريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا اللذين سلكا طريق البحر إلى هناك، ولا شك أنه كان لوصولها أثره البالغ في رفع الروح المعنوية لدى الصليبيين حيث أبحر ملك فرنسا من مدينة جنوا وأبحر ملك إنجلترا من مرسيلا وتقابلا في جزيرة صقلية، وهناك قضيا ومعهما جيوشهما نحو ستة أشهر يتمتعون بدفء الشتاء في الوقت الذي كانت فلول الصليبيون ببلاد الشام، المتجمعة أمام عكا تنتظر حضورهما في قلق بالغ، ثم أبحر فيليب أغسطس من مسينا في (2 ربيع الأول 587ه / 31 آذار 1191م) ووصل إلى صور حيث رحّب به قريبه كونراد مونتفيرات ثم صحبه إلى عكا وسط إبتهاج الصليبيين وذلك في (23 ربيع الأول 587ه 31 آذار 1191م) وفي المقابل ازداد موقف المسلمين في داخل عكا وخارجها صعوبة، فضجر العساكر من كثرة القتال، فرحل صاحب سنجار وصاحب الجزيرة وصاحب الموصل ويبدو أن فيليب أغسطس لم يشأ أن ينتظر وصول ريتشارد قلب الأسد وأتباعه، وكان ريتشارد قلب الأسد قد عرّج على جزيرة قبرص، بعد مغادرته " مسينا" وكانت تحت حكم إسحاق دوكاس كومنين الذي اشتهر بكراهيته للاتين، فوصل إليها في 10 ربيع الآخر عام (587ه/ 8 أيار عام 119م) واستولى عليها وأسر إسحاق ثم غادرها إلى بلاد الشام فوصلت سفنه إلى الشاطئ في (10جمادي الأولى/ 5 حزيران) ونزل هو إلى البر قرب صور، فرفضت حامية المدينة السماح له بالدخول، وذلك بناء على تعليمات كونراد دي مونتفيرات عندئذ واصل بحراً إلى عكا على رأس خمس وعشرين سفينة فوصل إليها في (13 جمادي الأولى/ 8حزيران) وكان وصوله باعثاً للأمل في نفوس الصليبيين الذين يحاصرون عكا على الرغم من فتور العلاقات بينه وبين الملك الفرنسي، وفي المقابل أزداد موقف الحامية الإسلامية في المدينة سوءاً أمام ضغط تلك المجموع الهائلة من الصليبيين التي شدّدت من حصارها على المدينة وكثّفت هجماتها عليها.
رابعاً: سقوط عكا:
كان صلاح الدين يراقب تطورات الموقف من مراكزه عند شفعمر ثم عند الخروبة ثم الفياضية، وتلقى في نهاية( جمادى الأولى/ حزيران) إمدادات جديدة من الجزيرة، وعندما نفّذ عدة هجمات مضادة على الصليبيين، لجأ هؤلاء إلى مهاجمة عسكرية ولكنهم فشلوا في تحقيق أي هدف، بعد أن ثبت المسلمون لهم ثبوتاً عظيم وصبروا صبر الكرام، وكان الهدف من القتال الوقوف على قوة الخصم، فقد أراد صلاح الدين أن يثبت لريتشارد قلب الأسد أن جيشه ما زال قوياً، وأن بوسعه ملاقاته، وأما ريتشارد قلب الأسد، فإنه أراد من جانبه أن يتأكد مما إذا كان بوسعه أن يفرض إرادته على صلاح الدين بقوة السلاح، أو أن يفرض عليه المفاوضات بعد أن يُلحق بالمسلمين هزيمة تجبرهم على الموافقة على شروطه، مدركاً في الوقت نفسه أن الظروف العسكرية مهيأة لتحقيق ذلك. لم تفلح الهجمات المتعددة التي شنّّها المسلمون ضد الصليبيين المحاصرين لعكا لكن صمودهم في وجه الهجمات المضادة، دفع ريتشار قلب الأسد إلى طلب المفاوضات وأعلن عن رغبته في الاجتماع بالسلطان، وكان يأمل في التوصل إلى تسوية سلمية غير أن صلاح الدين أجاب بحذر:" ليسمن الحكمة أن يجتمع ملكان متعاديان حتى تنعقد بينهما هدنة"، ومع ذلك فإنه أعرب عن استعداده لأن يسمح لأخيه العادل أن يجتمع بالملك الإنكليزي وتقرر وقف القتال مدة ثلاثة أيام، وتم الاتفاق أن يُعقد الاجتماع في السهل الذي يفصل المعسكرين الإسلامي والصليبي غير أنه حدث أن خرّ ملكا إنكلترا وفرنسا مريضين فجأة، واشتدت العلة على ريتشارد قلب الأسد، لكن ذلك لم يؤثر على معنويات الصليبيين الذين ازدادوا إصراراًً وعتواً.
1- مفاوضات على تسليم عكا:
والواقع أن الهجمات التي شنّها صلاح الدين ضد القوات الصليبية لم تفلح، وكانت عكا قد ضعفت ضعفاً شديداً واشتد الخناق على المسلمين في داخلها، وهدمت مجانيق الصليبيين جزءاً من سورها وتخلخل جزءً آخر، وأنهك التعب والسهر أهل البلد لقلة عددهم وكثرة أعمالهم وفي (7جمادى الآخرة / 2تموز) أرسلت الحامية رسالة جاء فيها : إنا قد بلغ منا العجز إلى غاية ما بعدها إلا التسليم، ونحن في الغد، إن لم تعملوا معنا شيئاً نطلب الأمان ونسلّم البلد ونشتري مجرد رقابنا. كان هذا الخبر من أعظم ما وقع على المسلمين، لأن عكا كانت مخزناً كبيراً لسلاح الساحل وبيت المقدس ودمشق وحلب ومصر، وفيها كبار أمراء صلاح الدين، مثل سيفالدين على بن أحمد الهكاري المعروف بالمشطوب، وبهاء الدين قراقوش. ثم إن الحامية اتخذت فعلاً قراراً بوقف القتال، وذهب سيف الدين علي المشطوب بنفسه إلى المعسكر الصليبي لمقابلة الملك الفرنسي والاتفاق معه على شروط التسليم. وذكر أن المسلمين كانوا إذا أخذوا بلداً منهم، وطلب من بذلك البلد الأمان على أنفسهم أعطوهم وعرض عليه تسليم البلد له بشرط أن يعطيهم الأمان على أنفسهم. إلا أن ملك فرنسا الذي كان بعيداً كل البعد عن صفات الشهامة والمروءة التي كان صلاح الدين يتحلى بها، امتنع عن إجابة طلبه ورد عليه رداً دل على وحشيته الأمر الذي أثار نخوة سيف الدين المشطوب، فأغلظ له في القول، وكان مما قال له إنا ما نسلم البلد حتى نقتل بأجمعنا ولا يقتل واحد منا حتى نقتل خمسين نفساً من كباركم. ثم انصرف عنه المشطوب ودخل عكا يستشير الناس للجهاد وبذل أرواحهم في سبيل الله.
وعلى الرغم من ذلك التعنت من ملك فرنسا، فإن الصليبيين كانوا بلا شك يحسبون للقوة الإسلامية حساباً كبيراً، بدليل ما ذكره ابن الأثير من أن الصليبيين لم يكتفوا بالتفاوض مع قادة الحامية الإسلامية بعكا، بل أنهم اتجهوا كذلك إلى مفاوضة صلاح الدين نفسه، حيث أرسلوا إليه في أمر التسليم، فأجابهم إليه على أن يطلقوا من بعكا من المسلمين، ويطلق هو من أسراهم بعدد من في البلد.
2- صلاح الدين يحث المسلمين بعكا على الصبر:
ومهما يكن من أمر فإن صلاح الدين لما رأى ذلك التعنت من الصليبيين أرسل إلى من بعكا من المسلمين يحثهم على الصبر ويأمرهم بأن يخرجوا من المدينة يداً واحدة بعد أن يحملوا على العدو حملة رجل واحد، ووعدهم بأن يتقدم هو إلى تلك الجهة التي يخرجون منها بعساكره ويقاتل الصليبيين حتى يتمكنوا من الخروج إليه، إلا أن تلك المحاولة لم يكتب لها النجاح بسبب سيطرة الصليبيين على البلد، وهنا أدرك من بداخل عكا من المسلمين أنه لم يعد أمامهم سوى الجهاد والاستبسال في قتال الأعداء، فكتبوا إلى صلاح الدين يذكرون لهم أنهم قد تبايعوا على الموت، وأنهم قد عزموا على الاستمرار في القتال وأنهم لن يسلموا ما داموا أحياء، وعلى الرغم من تلك التضحية الكبرى من أهل عكا وحبهم للاستشهاد في سبيل الله فإنه يبدو أن صلاح الدين وأمراءه الذين كانوا بالداخل أمثال الأمير سيف الدين المشطوب وغيره، كانوا حريصين كل الحرص على سلامة أرواح المسلمين، يدلنا على ذلك ما ذكر من أن سيف الدين المشطوب عندما رأى الموقف، خرج إلى الصليبيين للمرة الثانية، وقرر معهم تسليم البلد مقابل خروج منبه من المسلين بأموالهم وأنفسهم، وأن يدفع لهم فدية قدرها مائتا ألف دينار وخمسمائة أسير، فضلاً عن إعادة صليب الصلبوت ودفع مبلغ من المال إلى كونراد مونتفيرات صاحب صور، وهنا يذكر له تلك الشروط، أنكر ذلك إنكاراً شديداً.
3- غدر الصليبيين ونقضهم للعهود:
قبل الصليبيين تلك الاتفاقية، وحلفوا لسيف الدين المشطوب فسلم لهم البلد، ودخلوه سلماً، ولما دخل الصليبيون عكا نقضوا عهودهم كعادتهم وغدروا بمن فيها من المسلمين، متظاهرين بأنهم فعلوا ذلك حتى يصل إليهم ما اتفقوا عليه من الفدية والأسرى. وهنا شرع صلاح الدين في جمع الأموال، واجتمع عنده مبلغ كبير من المال، واستشار أصحابه في تسليمه للصليبيين فأشاروا عليه بأن يعود مرة أخرى فيستحلف الصليبيين على إطلاق أصحابه وأن يضمن الداوية ذلك لأنهم أهل تدين ووفاء إلا أن الداوية امتنعوا عن ذلك وقالوا : " لا نخلف ولا نضمن، لأننا نخاف غدر من عندنا؟". عند ذلك علم صلاح الدين غدرهم فلم يجبهم إلى ذلك، كانت ألوية الصليبيين ترفرف في ذلك الوقت فوق أبراج عكا واستطاع الصليبيون دخول عكا بعد أن حاصروها قرابة عامين، الأمر الذي أثار موجة من الأسى والحزن عبّر عنها المؤرخون المسلمون، ويبدو أن الصليبيين ماطلوا في تنفيذ الشق المتعلق بهم، وكان صلاح الدين قد أرسل لهم القسط الأول من المال والرجال الأسرى ولما طالبهم بتنفيذ البند الخاص بهم كاملاً رفضوا عندها أدرك عزمهم على الغدر ورفض أن يسلمهم ما تبقى من المال والأسرى، ولما رأى ريتشارد قلب الأسد توقف صلاح الدين عن بذل المال والأسرى وصليب الصلبوت لهم لم يعاود الاتصال بصلاح الدين، بل دفعه تهوره وحمقه إلى أن ساق أسرى المسلمين الذين بعكا وكانوا زهاء ثلاثة آلاف مسلم إلى تلك العياضية وأوثقهم بالحبال ثم حمل الصليبيون عليهم حملة واحدة وقتلوهم عن آخرهم وذلك في (27 رجب 587ه/ 20أغسطس 1191م) ولا شك أن ذلك التصرف الوحشي الذي اتخذه ريتشارد مع أسرى المسلمين، الذين استشعروا ذلك الخطر الصليبي، فهبوا من كافة الأقطار الإسلامية للجهاد ضد الصليبيين، وبالفعل فإن الجيوش الإسلامية قد منعت الجيوش الصليبية من تحقيق أي انتصار عقب دخولهم عكا، وذلك لتفاني الجيوش الإسلامية قد منعت الجيوش الصليبية من تحقيق أي انتصار عقب دخولهم عكا ،وذلك لتفاني الجيوش الإسلامية في ميادين القتال لشعورها بزيادة الخطر الصليبي، فضلاً عما أعقب دخول الصليبيين عكا من خلاف وشقاق بين قادتهم أدى انتصار عقب دخولهم عكا، وذلك الانتصار الذي لا يقاس في حد ذاته بما لحق بالصليبيين من خسائر، وشتان بين السلوك الهمجي الذي اتبعه ريتشارد مع أسرى المسلمين بعكا، وبين ذلك السلوك الإنساني الذي كان صلاح الدين قد اتبعه مع الصليبيين في مواقف كثيرة، منها ما فعله بأسراهم عقب انتصاره في حطين ثم عقب استيلائه على بيت المقدس،إذ حرص دائماً على السماح لأهل المدن التي استولى عليها من الصليبيين بمغادرتها سالمين. <