;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس.. الحلقة الـ«107» 920

2009-01-07 04:15:18

سابعاً: خراب عسقلان:

بعد معركة أرسوف، توجه ريتشارد نحو يافا وأخذها دون مقاومة إذ لم يكن بها أحد من المسلمين ليدافعوا عنها، على حد قول ابن الأثير، وشرع في إعادة بناء استحكاماتها، أما صلاح الدين فتوجه نحو الرملة، وعقد فيها مجلس حربه، واستشارهم فيما يفعل، فأشار عليه الأمير علم الدين سليمان بن جندر بإخلاء عسقلان ومن ثم تخريبها، لأن هدف العدو بعد عكا ويافا هو عسقلان ومن ثم القدس، ولأن يافا التي نزل عليها ريتشارد تتوسط القدس وعسقلان ولا سبيل إلى حفظ المدينتين معاً، وقد أعلن الأمراء الداعين إلى تخريب عسقلان أن الدفاع عن هذه المدينة يتطلب وجود حامية كبيرة فيها، تعدادها ثلاثون ألف مقاتل، أو عشرون ألفاً. وأعلنوا لصلاح الدين: قد رأيت ما كان منا بالأمس، وإذا جاء الفرنج إلى عسقلان، ووقفنا في وجوههم نصدهم عنها، فهم لا شك يقاتلوننا لننزاح عنها، فينزلوا عليها، فإذا كان ذلك عدنا إلى مثل ما كنا عليه على عكا، ويعظم الأمر علينا، لأن العدو قد قوي بأخذ عكا وما فيها من الأسلحة وغيرها، وضعفنا نحن بما خرج عن أيدينا، ولم تطل المدة حتى نستنجد غيرها، فاعترض صلاح الدين هذا الرأي وطلب من بعض أمرائه الدخول إلى عسقلان، وتنظيم الدفاع عنها، فامتنعوا، بل إنهم ردوا عليه بخشونة غير مألوبة، اعتادوا عليها من الآن فصاعداً، كما يظهر من رواية العماد وابن الأثير وقالوا: إن أردت حفظها فادخل أنت معنا أو بعض أولادك الكبار، وإلا فما يدخلها منا أحد لئلا يصيبنا ما أصاب أهل عكا، ولم يستطع صلاح الدين إقناع الأمراء ولذلك حزن كثيراً، وبات ليله مهموماً، يقول ابن شداد إنه: ما نام الليلة إلا قليلاً، ولقد دعاني إلى خدمته سحراً، فحضرت وأحضر ولده الملك الأفضل وشاوره في الأمر. ثم قال: والله لأن أفقد أولادي كلهم أحب إليّ من أن أهدم من عسقلان حجراً واحداًَ، ولكن إذا قضى الله بذلك وعينه لحفظ مصلحة المسلمين طريقاً فكيف أصنع وأضطر أخيراًً إلى الانصياع إلى قرار أمرائه، ووافق على تخريبها، فأمر وإلى المدينة بأن يتولى ذلك بنفسه، فوضع الوالي المعول عليها فجر (19شعبان 587ه/ 12 أيلول 1191م)، ثم استنفر الناس، وقسم سور المدينة عليهم، وجعل لكل أمير وطائفة جزءاً من السور واشترك هو وولده في تخريجها وأرسل إلى أخيه العادل الذي كان نازلاً على بلدة يبني بالقرب من الرملة ويافا وطلب من ه أن يسوف القوم ويطول حديث الصلح معهم، ريثما نتمكن من خراب البلد. وقد تألم الناس على ما يفعلونه ووقع فيهم الضجيج والبكاء، لأن عسقلان كانت مدينة نضرة خفيفة على القلب، محكمة الأسوار، عظيمة البناء، مرغوبة في ساكنها حتى سميت عروس السام لحسنها. وبعد إكمال تخريبها أمر بإضرام النار فيها، وهاجرها أهلاه وتفرقوا بين مصر ولشام واستمرت أعمال التخريب والحرق إلى مستهل رمضان 587ه/ نهاية أيلول 1191م. ولم يكد الجيش يفرغ من تخريب عسقلان حتى سار إلى يبنى مقر قيادة العهادل، ثم مضى إلى بيت المقدس، لأنه إذا غامر المسير نحو هذه المدينة، فثمة احتمال قوي أن يقوم جيش صلاح الدين بقطع طريق الاتصال بينه وبين البحر، فكان من الحكمة والتعقل أن يتأكد من مناعة يافا قبل أن يشرع في مغامراته، لأن الخسارة تكون أشد وجعاً لسمعة الصليبيين إذا استولوا على المدينة ثم يضطرون إلى تركها ثانية. ومع ذلك فإن التمهل والإرجاء أضحيا بالغي الطول، فتهيأت لصلاح الدين الفرصة لتدعيم وسائل الدفاع عن المدينة المقدسة، وتنظيم صفوف جيشه للجولة التالية في وقت كان الصليبيون ينعمون بأسباب الراحة في يافا، فاهتمام ريتشارد بيافا وتعميرها لم يقل عن اهتمام صلاح الدين بتدمير عسقلان، لأن القائد الصليبي أدرك أنه يتعذر عليه أخذ بيت المقدس دون إحكام سيطرته على يافا لا سيما وأن عسقلان قد تم تخريبها.

ثامناً: تنظيم الدفاع عن القدس:

لم يعد صلاح الدين إلى القدس إلا متأخراً، أي في آخر ذي القعدة 587ه، إلا أنه أرسل إليها الملك العادل لتفقد أحوالها والنظر في عمارتها. وفضل أن يقيم في المناطق القريبة منها التي خربها الجيش، أي بالقرب من الرملة. وقصد من ذلك أن يكون قريباً من العدو، ومن القدس معاً، حتى إذا فكرالعدو بالإغارة على القدس منعهم وتصادم معهم لقاء مكشوف، وفي 6 شوال جمع صلاح الدين أكابر أمرائه وأرباب الأمراء في دولته وشاورهم كيف يصنع إن خرج العدو، وكان قد تواصلت الأخبار عنهم أنهم قد اتفقوا على الخروج إلى العسكر الإسلامي، فاتفق الرأي على أنهم يقيمون في منزلتهم، فإن خرج الفنرج كانوا على لقائهم، وفعلاًً وصل اثنان من الصليبيين المستأمنين إلى معسكره وأخبراه أن العدو عزم على الخروج بعد غد، ثم وصل أحد المسلمين الذين كان أسيراً لديهم، وهرب من معتقله، وأخبر أنهم ينوون الخروج. عندها بدأ صلاح الدين بتحصين القدس، وأرسل إلى البلاد يطلب رجالاً يقومون بهذه الأعمال، وعمل السلطان وأولاده وأمراؤه فيها ومعهم القضاة والعلماء والفقهاء.

ووصل من الموصل جماعة كبيرة تقدر بخمسين رجلاً من الحجازين برسم قطع الصخور، لتقوية أسوار القدس وخندقها، وحين انتهى من هذا العمل أمر الجاووش أن ينادي بالعسكر حتى يتجهز وشدت الرايات، للوقوف بوجه العدو، وفي هذا الوقت نكب الجيش الأيوبي بوفاة أبرز قواده هو تقي الدين عمر في منطقة الجزيرة وقد تألم له السلطان كثيراً إلا أنه أخفى الخبر عن العسكر لكي لا يصل الخبر إلى العدو في تلك اللحظة الحرجة. وكذلك توفي القائد الشجاع الأمير حسام محمد بن عمربن لاجين ابن أخت صلاح الدين، لمرض اعتراه، يوم وفاة تقي الدين عمر، وهو 19 من رمضان 578ه/ خريف 1191م، ويحتمل أن خبر استعدادات الجيش الأيوبي وصل إلى ريتشارد، فلم يشأ أن يلتقي معه في مصاف، إضافة إلى إلحاح هذا الملك على مبدإ المفاوضات، لتكون الأساس للعلاقات بين الطرفين كما أظهرت أحداث الأيام التالية، ما إن حل الشتاء 587ه/1191م إلا وتوقف الطرفان ولم يحصل أي صدام أو لقاء بينهما، فرحل صلاح الدين كان غير متحمس في عقدالصلح، لكنه كان يبغي الاستفادة من جو المفاوضات في هذا الفصل الذي رحلت عنه جيش أمرائه وقفلت راجعة إلى أوطانها، لذا طلب من الملك العادل- مرة أخرى- أن يماطل ريتشارد إلى أن تصل عساكر الأطراف ، فغادار الملك العادل القدس في بداية ربيع الأول سنة (588ه/ آذار 1191م). إلا أن المفاوضات لم تثمر، عندها قامت جماعات من الصليبيين باحتلال بعض المدن والحصون التي كان دفاعها ضيقاً، مثل مدينة عسقلان التي أعاد ريتشارد تعميرها، وجعلها أمنع قلعة على كل الساحل الفلسطيني، وكذلك احتلوا حصن الداروم الذي أمر صلاح الدين بتخريبه في وقت سابق وحين احتله ريتشارد نكّل بالمدافعين عنه، واحتلوا حصوناً ومواقع أخرى صغيرة على الساحل الفلسطيني.

تاسعاً: طبيعة المفاوضات بين العادل وريتشارد في هذه المرحلة:

بدأت المباحثات في (18 شوال سنة 588ه/ 9 تشرين الثاني سنة1192م) عندما أرسل ريتشارد قلب الأسد رسالة إلى صلاح الدين من معسكره قرب بازور، يطلب منه الدخول في مفاوضات من أجل الصلح بحجة أن القتال أهلك كثيراً من قوى الطرفين وخربت البلاد. لكن هذه المفاوضات، الذي أناب فيها صلاح الدين أخاه العادل، لم تلبث أن تعثّرت بسبب إصرار ريتشارد قلب الأسد إلى استعادة بيت المقدس والإقليم الواقع غرب الأردن بما فيه من حصون، وصليب الصلبوت، بالإضافة على تمسّكه بعسقلان وكلها شروط رفضها صلاح الدين وعرض ريتشارد قلب الأسد بعد بضعة أيام مقترحات جديدة تقضي:

1. بأن يتزوج الملك العادل، أخو صلاح الدين من الأميرة جوانا، أخت ريتشارد قلب الأسد وأرملة ملك صقلية.

2. يُعطي صلاح الدين أخاه كل ما بحوزته من أراضي في فلسطين، ويمتح ريتشارد قلب الأسد أخته ما بحوزته من المدن الساحلية، بما فيها عسقلان التي احتلها مؤخراً.

3. يقيم العروسان في بيت المقدس، ويتردد الناصري على كنيسة القيامة.

4. يستعيد النصارى صليب الصلبوت.

5. يُطلق سراح الأسرى من الجانبين.

6. تُرد إلى الداوية والإسبتارية بعض القرى في فلسطين دون الحصون.

رحَّب العادل بهذا العرض، ورأى في ذلك" عين الصواب" ولعله هدف إلى توحيد المسلمين والصليبيين في بلاد الشام تحت حكمه، وإقرار الأمور في تلك البلاد على أساس المحبة والارتباط بين الطرفين.

ورأى صلاح الدين في هذا العرض نوعاً من المزاح، لكنه أبدى سروره للموافقة عليه، ويبدو أن قبوله بهذا المشروع سببه الاعتقاد بأن ملك إنكلترا لن يتمكن من تنفيذ مشروعه وأن هذا منه هزء ومكر، وسرعان ما ظهر أن العقبة في سبيل تنفيذ ذلك المشروع جاءت من جوانا نفسها التي ارتاعت عندما سمعت بهذا العرض وقالت بأنه ليس ثمة ما يدعوها لأن تتزوج من رجل مسلم، مما دفع بريتشارد قلب الأسد أن يطلب من العادل أن يعتنق النصرانية لتذليل تلك العقبة، فرفض العادل ذلك.

والحقيقة أن قبول المسؤولين الثلاثة بهذا المشروع، إنما يدل على التقارب السياسي والحضاري في بلاد الشام بعد مرور قرن على بداية الحروب الصليبية بالإضافة إلى روح التسامح التي أخذت تنمو بوضوح في بعض تصرفات الفريقين، بدليل أن الملك ريتشارد قلب الأسد اجتمع مع العادل على وليمة فاخرة أقيمت في 18 شوال 588ه ثم افترقا بعد أن تحقّقت بينهما أواصر الصداقة، وقد أبدى الملك الإنكليزي رغبة في الاجتماع بصلاح الدين، لكن العادل رفض طلبه وقال: إن الملوك إذا اجتمعوا تصبح بينهم المخاصمة بعد ذلك وإذا انتظم أمر، حسن الاجتماع. ثم شُغل ريتشارد قلب الأسد بحلّ مشاكل الصليبيين وبخاصة الخلاف الحاد بين كونراد دي مونتفيرات وجاي لوزينان.

 

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد عبدالملك المقرمي

2024-11-29 03:22:14

نوفمبر المتجدد

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد