محمد خالد الأزعر
على سبيل التعميم المعقول والمقبول، نستطيع إحالة العنف الإسرائيلي المفرط في إجراميته ضد غزة إلى مكانة عنصر أو متغير القوة على سلم أولويات إسرائيل في سلوكها تجاه المجتمع الفلسطيني الأصيل.
كل الكيانات الاستيطانية، التي تعد إسرائيل أحدثها وأخطر نماذجها، أفردت للقوة موقعا متقدما بين أدوات تعاملها مع المجتمعات الأصلية داخليا ومحيطها الإقليمي خارجيا. ومع ذلك فان للحملة الإسرائيلية شديدة الوحشية والضراوة على غزة تفسيرا مضافا جديراً بالتأمل وربما لا يصح استبعاده.. خلاصته، الرغبة المحمومة للانتقام من هذه البقعة التي طالما آلمت المشروع الصهيوني وأعاقت سيرورته من جهة، وصانت المشروع الوطني الفلسطيني وعضت عليه بالنواجذ من جهة أخرى مضادة.
ما نجادل به أن لإسرائيل «ثأرا قديما - متجددا» مع غزة وأهلها، كانت ومازالت تتحين الفرص لإطلاقه وتنفيس غيظها المتراكم في صدرها زمنا. بين يدي بواكير النكبة الفلسطينية استقبل قطاع غزة 200 ألف لاجئ، ليصبح قوامه السكاني بين عشية وضحاها زهاء 270ألف نسمة. ولأن هذا القطاع ضيق جغرافيا وقليل الحيلة والموارد اقتصاديا إلى درك الفقر، فقد كان من شأن هذا الطارئ - وتوابعه المختلفة - أن يورده جدلا موارد التهلكة ويؤهله للانبطاح السياسي والهوان المعنوي.
غير أن ما حدث كان عكس هذا التوقع كليا، بحيث تبوأت غزة وقطاعها مكانا عليا في ملف ديمومة القضية الفلسطينية وإغاظة المشروع الصهيوني. ففي غزة انعقد أول مؤتمر وطني فلسطيني جامع، حتى من قبل أن تضع حرب النكبة أوزارها، ليعلن في أوائل أكتوبر 1948 قيام حكومة عموم فلسطين، أول حكومة فلسطينية ذاتية المبنى والمعنى على مدار التاريخ.
وفور اكتمال معالم النكبة؛ يوم أن كان التراب يهال على الوجود والحقائق الفلسطينية في أوائل الخمسينات، شن أبناء غزة أول عمليات فدائية بمبادرات فردية على جوارهم الإسرائيلي القريب.. وقامت إسرائيل بمباغتة القطاع بمذبحة، اضطلع بتنفيذها آرييل شارون، اختلطت فيها الدماء الفلسطينية بدماء الحامية الإدارية المصرية هناك.
وكانت تلك أولى المذابح الصهيونية بحق الفلسطينيين والعرب خارج خطوط هدنة 1949 وبدلا من الانكماش والارتداع المطلوبين إسرائيليا، احتضنت غزة أول عمل فدائي فلسطيني «منظم» بمعرفة قيادة مصر الناصرية، كما اتخذت تلك القيادة قرارا، كان تاريخيا في حينه وبعد حينه، بإبرام أول صفقة أسلحة مع المعسكر الاشتراكي.
وقد يكون من الصحيح أيضا أن إرهاصات حرب السويس 1956 بدأت بعض الأصابع بين إسرائيل ومصر الناصرية في غزة.. وأن أحد أهم مرادات المشاركة الإسرائيلية في تلك الحرب ؟ إلى جانب بريطانيا وفرنسا - كان الإجهاز على العنوان الفلسطيني القح الذي جسده قطاع غزة تحت الرعاية المصرية.
ذلك لأن القطاع كان وحده الذي بقي أمينا على اسم فلسطين التاريخية في الذاكرتين والأجندتين الإقليمية والدولية، فيما تشظت بقيتها بين السيطرة الصهيونية والحكم الأردني المباشر. وهنا يسجل لغزة مقاومتها لمحاولة تغييب فلسطين وعلمها وجنسيتها يوم رفضت مشروع التدويل الذي أريد لها، وصممت على عودة الإدارة المصرية غداة اندحار الاحتلال الإسرائيلي عنها في مارس 1957. وبالمناسبة كان قطاع غزة أول منطقة فلسطينية عربية تحتلها إسرائيل بعد نشوئها.
والظاهر أن السياسة الإسرائيلية كانت محقة في تقديرها وقتذاك بأن إفلات قطاع غزة من براثنها ينطوي على مخاطر إعادة نمو فلسطين وانبعاثها مجددا من تحت ركام النكبة. فبعد سنوات أطلت فلسطين بالفعل على الخلق، ممثلة بقيام منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 ثم بانطلاقة حركة فتح عام 1965، التي كان معظم قيادييها ومنشئيها الأوائل إما من أبناء قطاع غزة وإما من أبناء لاجئيه الذين شربوا مياهه.. تماما كما كان القطاع أول من عرف تجربة التجنيد الإجباري الفلسطينية لتشكيل ما عرف بجيش التحرير الفلسطيني.
كذلك كانت غزة وقطاعها أول من اشتق مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وشفي سريعا من أعراض هزيمة 1967. وكانت تلك الصحوة العاجلة قد جعلت القطاع أول المتضامنين عربيا مع معارك الاستنزاف على الجبهة المصرية. وكان آرييل شارون أكثر المعنيين بالتصدي لجبهة القطاع بصفته قائد المنطقة العسكرية الإسرائيلية الجنوبية أوائل السبعينات.
ومن قطاع غزة اندلعت شرارة الانتفاضتين الفلسطينيتين الشهيرتين. ومن معبر رفح جنوبي القطاع، دخلت طلائع أول سلطة وطنية فلسطينية بعد النكبة بقيادة ياسر عرفات.
إلى ذلك كله، كان القطاع أول منطقة من فلسطين التاريخية تجلو عنها إسرائيل ومستوطنوها عام 2005 في وضع أقرب إلى الهزيمة والانسحاب الإجباري. وبالتداعي، كانت غزة أول بقعة فلسطينية تنجو من أزعومة إسرائيل التوراتية وتجرح صدقيتها عميقا.
وقد تمت هذه الواقعة غير المسبوقة على يد شارون (ما غيره أيضا) وتحت قيادته المباشرة للدولة الصهيونية هذه المرة.
والوقائع على هذا النحو، فان لقطاع غزة الذي لا يتعدى نصيبه الواحد ونصف في المئة من مساحة فلسطين الأم قصة تروى مع المشروع الصهيوني.. قصة ملأت ذاكرة القائمين على هذا المشروع وكيانه السياسي بالمرارة والإحباط. ولن يكون مفاجئا لنا أن تنتهي جولة الثأر الصهيونية المتفاعلة راهنا، تحت دعوى تصفية حركة حماس، بإضافة فصل آخر إلى هذه الذاكرة.. والذي لا ريب فيه لدينا أن شعار «غزة رمز العزة» يبدو مناسبا تماما لمقتضى حال هذه البؤرة الباسلة.