;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس .. الحلقة الـ«109» 738

2009-01-10 03:45:14

المؤلف/ علي محمد الصلابي

عاد الرسول إلى ريتشارد وعاد مرة أخرى وكان حديثه مع الملك العادل، وانتهى الأمر بالاتفاق على اجتماع العادل مع الملك ريتشارد في مرج عكا والعساكر محيطة بهما ومعهما ترجمان، وعاد الرسول، ولكنه تأخر عدة أيام بسبب المرض، والراجح أن ريتشارد هو الذي كان مريضاً وليس الرسول وفي رواية أخرى أن القادة الصليبيين أنكروا فكرة الصلح مع المسلمين وقالوا: هذه مخاطرة بدين النصرانية وقد عاد الرسول مرة أخرى واعتذر عن التأخير بسبب المرض. ومما قاله الرسول أن " الملوك" إذا تقاربت منازلهم أن يتهادوا وأضاف : عندي ما يصلح للسلطان وأنا أستخرج الإذن في إيصاله إليه، فوافق الملك العادل بشرط إرسال هدية في المقابل للملك الإنجليزي، فرضي الرسول وقال : الهدية شيء من الجوارح قد جلبت من وراءا لبحر، وقد ضعفت فيحسن أن تقدموا لنا طير ودجاج حتى نطعمها فتقوى ونحملها إليكم. فداعبه الملك العادل وقال : الملك قد احتاج إلى فراريج ودجاج ويريد أن يأخذها منا بهذه الحجة، فانقطع الحديث عدة أيام، ثم عاد الرسول ومعه إنسان مغربي مسلم قد أسره الصليبيون من مدة طويلة هدية إلى السلطان فقبله وأطلقه، وأعاد الرسول مكرماً. وقد بلور المؤرخ ابن شداد الأسباب الحقيقية التي تكمن وراء تبادل الرسل، فقال: وكان غرض الصليبيين بتكرار الرسائل تعرّف قوة النفس وضعفها عند المسلمين وكان غرض المسلمين بقبول الرسائل تُعرف ما عند الصليبين من ذلك.

المرحلة الثانية: ففي التاسع من جمادي الآخرة عام (587ه / الرابع من يوليو 1191م) أثناء القتال في عكا بين المسلمين والصليبيين عندما قررت حامية عكا الإسلامية التخلي عن القتال وأرسلت إلى ريتشارد رفض عرض حامية المدينة، إلا أنه أرسل في اليوم نفسه ثلاثة رسل إلى صلاح الدين يطلبون فاكهة وثلجاً، وقد ذكر الرسل أن مقدم الإسبتارية جارنيه سيحضر في اليوم التالي للتحدث في معنى الصلح، وقد أكرم صلاح الدين الرسل وأدخلهم سوق العسكر وشاهدوه، وعادوا في اليوم نفسه إلى عسكرهم، وقد أعقب ذلك استلام مدينة عكا للصليبيين واستقبال صلاح الدين لسفراء الصليبيين حول تسليم عكا، وهو جانب يتعلق بمدينة عكا فقط، وقد سبق أن أوضحناه ولا يمس جوهر قضية الصلح العامة التي نناقشها على هذه الصفحات.

المرحلة الثالثة: وكانت المرحلة الثالثة من المفاوضات في المرحلة السابقة لمعركة أرسوف، ففي الحادي عشر من شعبان 587ه / الثالث من سبتمبر 1191م أتت بعض رسل الصليبيين تطلب التحدث إلى الملك العادل، فسمح لهم وكان حاصل حديث الرسل: إنا قد طال القتال، وإنه قتل من الجانبيين الرجال والأبطال وإنما نحن جئنا في نصرة فرنج الصلح ، فاصطلحوا أنتم وهم، وكل منا يرج إلى مكانه. وعلم صلاح الدين بمضمون أفكار الرسل وفي اليوم التالي اجتمع الملك العادل بالملك الإنجليزي ريتشارد، وتولى الترجمة همفري سيد تبنين وسأل العادل ريتشارد عن شروطه حول عقد الصلح، فكر له القاعدة "أن تعود ولم يقبل الملك العادل مثل هذه الشروط فأخشن للملك الإنجليزي الجواب، وجرت منافرة اقتضت رحيل الملك الإنجليزي ورفاقه، ثم كانت معركة أرسوف التي انتصرت فيها القوات الصليبية، وإن كان نصراً غير حاسم ، وبعد ثمانية أيام وأثناء إقامة القوات الصليبية بقيادة ريتشارد في مدينة يافا، وقيام صلاح الدين بتخريب مدينة عسقلان وصل في التاسع عشر من شعبان 587ه/ الحادي عشر من سبتمبر 1191م إلى صلاح الدين من أخبره من جانب الملك العادل أن الصليبيين تحدثوا معه في أمير الصلح وأن شروطهم إعادة جمع البلاد الساحلية، فطلب صلاح الدين من أخيه العادل فتح باب المفاوضات لما رآه في نفوس المسلمين من الضجر والسآمة من القتال والمصابرة، كما طلب منه أيضاً إطالة أمد المفاوضات حتى يتم تخريب عسقلان.

وفي خلال الأيام التالية وقع حادق له مغزاه في تاريخ الحملة الصليبية الثالثة، ففي الثاني عشر من رمضان 587ه / الثالث من أكتوبر وصلت رسل من جانب كونراد الذي تصفه صور، فانحاز عن قوات الحملة الصليبية الثالثة، وأرسل على صلاح الدين يطلب الصلح مقابل إعطائه صيدا وبيروت، مقابل مجاهرة ريتشارد بالعداوة والسير بقواته إلى عكا ومحاصرتها والاستيلاء عليها والمعروف أن كونراد كان خبيثاً ملعوناً، لذلك أراد صلاح الدين معرفة حسن نواياه، فطلب منه في بداية الأمر القيام بحصار عكا والاستيلاء عليها، وإطلاق سراح الأسرى المسلمين في عكا وصور، ثم يقوم صلاح الدين بعد ذلك بتسليمه صيدا وبيروت، وفي عشية اليوم نفسه وصلت رسل الملك ريتشارد الحديث مرة أخرى في مسألة الصلح وعلم ريتشارد بالسفارة التي أرسلها كونراد إلى صلاح الدين، فعاد إلى عكا للعمل على فسخ فكرة المصالحة التي شرع فيها كونراد، والعمل أيضاً على ضم كونراد إلى صفوف القوات الصليبية، ومما لا شك فيه أن ما حدث جعل صلاح الدين يدرك مدى الشقاق بين الصليبيين المحليين وقوات الحملة الثالثة التي عانت وتكلفت الكثير للدفاع عن الصليبيين المحليين، وكان لذلك كله أكبر الأثر على سير المفاوضات وشروطها في المراحل المقبلة.

المرحلة الرابعة: وفي الرابع والعشرين من رمضان 587ه/ الخامس عشر من أكتوبر 1191م جرى وصول رسول من قبل الملك الإنجليزي ريتشارد ومعه حصان هدية إلى الملك العادل في مقابلة هدية كان قد أرسلها إليه الملك العادل، وكان ذلك مقدمة لمفاوضات المرحلة الرابعة، وبعد يومين أرسل ريتشارد يطلب من الملك العادل إيفاد رسوله للتحدث في أمر الصلح،، فأجابه العادل إلى طلبه وذهب رسول العادل واجتمع بالملك ريتشارد ومما قاله الملك في طلب الصلح : أن المسلمين والفرنج فد هلكوا وخربت البلاد وخرجت من يد الفريقين بالكية، وقد تلفت الأموال والأرواح من الطائفتين، وقد أخذ هذا الأمر حقه وليس هناك حديث سوى القدس والصليب والبلاد والقدس فمتعبدنا ما ننزل عنه، ولو لم يبق منا واحد، وأما البلاد فيعاد إلينا منها ما هو قاطع الأردبن، وأما الصليب فهو خشبة لا مقدار له عندكم وهو عندنا عظيم، فيمنّ به السلطان علينا، ونصطلح ونستريح من هذا العناء الدائم.

وعندما بلغ الملك العادل ما يطلبه ريتشارد، قام العادل بدوره بإبلاغه إلى صلاح الدين الذي قال في رد الجواب للملك الإنجليزي : القدس لنا كما هو لكم، وهو عندنا أعظم مما هو عندكم، فإنه مسرى نبينا ومجتمع الملائكة، فلا يتصور أن ننزل عنه ولا نقدر على التلفظ بذلك بين المسلمين، وأما البلاد فهي أيضاً لنا في الأصل، واستيلاؤكم كان طارئاً عليها لضعف من كان بها من المسلمين في ذلك الوقت، وأما الصليب فهلاكه عندنا قربة عظيمة ولا يجوز لنا أن نفرط فيه إلا لمصلحة راجعة إلى الإسلام هي أوفى منها. وبعد ثلاثة أيام عاد رسول الملك من يافا بمقترحات جديدة، وموجز هذا العرض أن يتزوج الملك العادل من جوانا ملكة صقلية السابقة أخت الملك ريتشارد، وأن يكون مستقر ملكهما القدس الشريف، وأن يقدم لها ريتشارد بلاد الساحل التي فتحها من عكا إلى يافا وعسقلان وغير ذلك، ويجعلها ملكة الساحل، وأن يعطي صلاح الدين أخاه العادل جميع بلاد الساحل ويجعله ملكاً عليها بالإضافة إلى ما في يدهمن البلاد والإقطاع، وأن يسلم إليه صليب الصلبوت وتكون القرايا للداوية والإسبتارية والحصون لهما، وإطلاق سراح أسرى الجانبين ويرحل ملك إنجلترا إلى بلاده، ولما أبلغ صلاح الدين بمقترحات الملك الإنجليزي، بادر ولما علمت جوانا باقتراح أخيها زواجها من الملك العادل غضبت وحلفت بدينها المغلظ من يمينها أنها لا تفعل ذلك. لذلك عرض ريتشارد دخول العادل في الديانة المسيحية ولكن العادل رفض قبول ذلك، وترك باب المفاوضات مفتوحاً.

المرحلة الخامسة: وسارت المحلة الخامسة من المفاوضات في خطين متوازيين، الخط الأول يتعلق بالمفاوضات مع رسل كونراد والخط الثاني مرتبط بالمفاوضات مع الملك الإنجليزي ريتشارد، وبدأت هذه المرحلة في الخامس عشر من شوال 587ه / الخامس من نوفمبر 1191م عندما وصل رينالد جارينيه حاكم صيدا كرسول من جانب كونراد ويفهم من المبعوث حتى يتم تدبير اللقاء مع صلاح الدين، وبعد أربعة أيام استقبل صلاح الدين رينالد جارنييه وأكرمه إكراماً عظيماً، وتصف المصادر الإسلامية كونراد بأنه كان أشد الصليبيين بأساً وأعظمهم في الحرب مراساً، وأثبتهم في التدابير أساساً، وكان عرض كونراد يتلخص في تنازل المسلمين له عن صيدا، ويتحالف مع المسلمين ضد قوات الحملة الصليبية الثالثة ويجاهرها بالعداوة، وقد استمع صلاح الدين إلى هذه المقترحات من المبعوث ووعده بأن يرد عليه الجواب فيما بعد، وفي اليوم الذي استقبل فيه صلاح الدين مبعوث كونراد ، وصل في المساء همفري سيد تبنين كرسول من الملك الإنجليزي ريتشارد فاستقبله صلاح الدين وقدم المبعوث الصليبي مقترحاته، والملاحظ أن الحرب ظلت قائمة طوال هذه المشاورات وفي الرابع من ربيع أول عام (588ه/ العشرين من مارس 1192م) خرج العادل من القدس ومعه عرضاً للصلح محدداً يقضي بأنه يمكن للصليبيين أن يضموا إليهم مدينة بيروت إذا أصروا على طلبها بشرط أن تظل خراباً ولا تعمر وكذلك الباقون، ويسلم لهم صليب الصلبوت، وأن يعيّن قسيساً من الفرنجة لكنيسة القسامة، ويفتح للصليبيين أبواب مدينة القدس للزيارة بشرط عدم حمل السلاح، وكان الدافع لهذا المقترحات الجديدة ما عاناه المسلمون من تعب في مواظبة الغزاة وكثرة الديون والبعد عن الأوطان، وزادت رغبة الملك ريتشارد في عقد الصلح والعودة إلى وطنه، عندما وصل على معسكره مبعوثاً قادماً من إنجلترا يخبره أن الأمير يوحنا شقيق الملك ريتشارد يتطلع إلى السلطة والسيطرة على إنجلترا ويطالبه باسم كبيير وزراء إنجلترا بالعودة إلى البلاد، وقد أقلقت هذه الأخبار ريتشارد يضاف إلى ذلك أنه في حوالي العشرين من مارس 1192م/ الرابع من ربيع أول 588ه قام هيودوق برجانديا الذي كان يتولى قيادة ما تبقى من القوات الفرنسية باستدعائها من معسكر ريتشارد لأن الملك لا يمد هذه القوات بالمواد الضرورية اللازمة للقتال. وفي الشهر التالي اغتيل كونراد كما سبق أن أوضحنا لتبدأ مرحلة أخرى من المفاوضات في ظروف تختلف عن الظروف السابقة، فقد اختفى كونراد عن مسرح السياسة الصليبية، والحالة في إنجلترا أصبحت حرجة وعلى الملك الإنجليزي إنهاء الحرب والعودة إلى بلاده.

 

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد عبدالملك المقرمي

2024-11-29 03:22:14

نوفمبر المتجدد

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد