المؤلف/ علي محمد الصلابي
الرابع عشر :
في مرض صلاح الدين ووفاته عام (589ه)
1- الأيام الأخيرة من حياة صلاح الدين:
قال العماد: والسلطان مقيم بدمشق في داره، وممالك الآفاق في انتظاره، والأنام مشرقة بمطالع أنواره، ورسل الأمصار مجتمعون على بابه، منتظرون لجوابه والضيوف في فيوض إنعامه عائمون والفقراء في رياض صدقاته راتعون ، ويجلس في كل يوم وليلة لإسداء الجود، وإبداء السعود، وبث المكارم، وكف المظالم وبرز إلى الصيد شرقي دمشق بزاد خمسة عشر يوماً واستصحب معه أخاه العادل وأبعد في البرية وظهر عن ضمير ضُمير إلى الجهة الشرقية وطابت له الفرص، ووافق مراده القنص ثم عاد يوم الاثنين حادي عشر صفر، ووافق ذلك عود الحاج الشامي فخرج للتلقي وسعادته في الترقي ولما لقي الحجاج استعبرت عيناه، كيف فاته من الحج ما تمنّاه، وسألهم عن أحوال مكة وأميرها وأهلها وخصبها ومحلها وكم وصلهم من غلّات مصر وصدقاتها والفقراء والمجاورين ورواتبها وإداراتها وسر سلامة الحاج ووضوح ذلك الناهج ووصل من اليمن ولد أخيه سيف الإسلام، فتلقاه بالأكرام.
2- مرض صلاح الدين:
لما كانت ليلة السبت وجد كسلاً عظيماً، فما انتصف الليل حتى غشيته حمى صفراوية كانت في بطنه أكثر منها في ظهره وأصبح يوم السبت سادس عشر صفر عليه أثر الحمى ولم يظهر ذلك للناس، لكن حضر عنده القاضي ابن شداد والقاضي الفاضل ودخل ولده الأفضل ، قال القاضي ابن شداد : وطال جلوسنا عنده وأخذ يشكو من قلقه بالليل وطاب له الحديث إلى قريب الظهر، ثم انصرفنا والقلوب عنده، فتقدم إلينا بالحضور على الطعام في خدمة ولده الأفضل ولم يكن للقاضي عادة بذلك، فانصرف وما كان لي قوة للجلوس استيحاشاً وبكى في ذلك اليوم جماعة تفاؤلاً بجلوس ولده في موضعه ثم أخذ المرض في تزايد من حينئذ ونحن نلازم التردد في طرفي النهار، وأدخل إليها وأنا والقاضي الفاضل في النهار مراراً، ويُعطي الطريق في بعض الأيام التي يجد فيها خفة، وكان مرضه في رأسه وكان من أمارات انتهاء العمل غيبة طبيبه الذي كان قد ألف مزاجه سفراً وحضراً، ورأى الأطباء فصده ففصدوه في الرابع، فاشتد مرضه، وقلت رطوبات بدنه وكان يغلبه النفس غلبة عظيمة، ولم يزل المرض في تزايد حتى انتهى إلى غاية الضعف ، ولقد أجلسناه في السادس من مرضه وأسندنا ظهره إلى مخدة وأحضر ماء فاتر يشربه عقيب شراب يلين الطبع، فشربه فوجده شديد الحرارة، فشكا من شدة حرة فغير وعرض عليه ثانياً، فشكا من برده ولم يغضب ولم يصخب رحمه الله، ولم يقل سوى هذه الكلمات: سبحان الله لا يمكن لأحد تعديل الماء. فخرجت أنا والقاضي من عنده، وقد اشتد منا البكاء والقاضي الفاضل يقول لي : أبصر هذه الأخلاق التي قد أشرف المسلمون على مفارقتها،والله لو أن هذا بعض الناس كان قد ضرب القدح في رأس من أحضره، واشتد مرضه في السادس والسابع والثامن، ولم يزل متزايداً وتغيّب ذهنه، ولما كان التاسع حدثت به رعشة وامتنع من تناول المشروب،واشتد الإرجاف في البلد وخاف الناس، ونقلوا الأقمشة من الأسواق ، وغشى الناس من الكآبة والحزن ما لا يمكن حكايته ، ولقد كنت أنا والقاضي الفاضل نقعد كل ليلة إلى أن يمضي من الليل ثلثه، أو قريب منه ثم نحضر من باب الدار، فإن وجدنا طريقاً دخلنا وشاهدناه وانصرفنا، وإلا تعرفنا أحواله وانصرفنا وكنا نجد الناس يرتقبون خروجنا من بيوتنا حتى يقرؤوا أحواله من صفحات وجوهنا، ولما كان العاشر من مرضه حقن دفعتين وحصل من الحقنة راحة وحصل بعض الخف، وتناول من ماء الشعير مقداراً صالحاً، وفرح الناس فرحاً شديداً فأقمنا على العادة إلى أن مضى من الليل هزيع، ثم أتينا باب الدار فوجدنا جمال الدولة إقبالاً، فالتمسنا منها تعريف الحال المتجددة، فدخل ثم أنفذ إلينا مع الملك المعظم توران شاه يقول : إن العرق قد أخذ في ساقيه فشكرنا الله تعالى على ذلك والتمسنا منه أن يمس بقية بدنه ويخبرنا بحاله في العرق، فافتقده ثم خرج إلينا، وذكر أن العرق سابغ فشكرنا الله تعالى على ذلك، وانصرفنا طيبة قلوبنا ثم أصبحنا في الحادي عشر من مرضه وهو يوم الثلاثاء السادس والعشرين من صفر حضرنا بالباب،وسألنا عن الأحوال، فأخبرنا أن العرق أفرط حتى نفذ في الفرش، ثم في الحصر وتأثرت به الأرض، وأن اليبس قد تزايد تزايداً عظيماً، وخارت القوة واستشعر الأطباء.
3- تحليف الملك الأفضل الناس:
ولما رأى الملك الأفضل ما حل بوالده، وتحقق اليأس منه، وشرع في تحليف الناس، وجلس في دار رضوان المعروفة بسكنه واستحضر القضاة، وعمل له نسخة يمين مختصرة محصلة للمقاصد، تتضمن الحلف للسلطان مدة حياته، له بعدوفاته، واعتذر للناس بأن المرض قد اشتد وما نعلم ما يكون، وما نفعل هذا إلا احتياطاً على جاري عادة الملوك، وكانت نسخة اليمين المحلوف بها وفضولها: إنني من وقتي هذا قد أصفيت نيتي وأخلصت طويتي للملك الناصر مدة حياته، وإنني لا أزال باذلاً جهدي في الذب عن دولته، بنفسي ومالي وسيفي ورجالي، ممتثلاً أمره، واقفاً عند مراضيه ثم من بعده لولده الملك الأفضل علي، ووالله إنني في طاعته، وأذب عن دولته وبلاده بنفسي ومالي وسيفي ورجالي، وأمتثل أمره ونهيه، وباطني وظاهري في ذلك سواء والله على ما أقول وكيل.
4- وفاته رحمه الله:
ولما كانت ليلة الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة، وهي الليلة الثانية عشر من مرضه - رحمة الله عليه- اشتد مرضه وضعفت قوته ووقع في أوائل الأمر من أول الليل، وحال بيننا وبينه النساء واستحضرت أنا والقاضي الفاضل في تلك الليلة وابن الزكي، ولم يكن عادته الحضور في ذلك الوقت وعرض علينا الملك الأفضل أن نبيت عنده ، فلم ير القاضي الفاضل ذلك رأياً، فإن الناس كانوا في كل ليلة ينتظرون نزولنا في القلعة، فخاف أن لا ننزل فيقع الصوت في البلد، وربما نهب الناس بعضهم بعضاً، فرأى المصلحة في نزلنا واستحضار الشيخ أبي جعفر إمام الكلاسة، وهو رجل صالح يبيت في القلعة حتى إن احتضر - رحمة الله عليه- بالليل حضر عنده وحال بينه وبين النساء وذكر بالشهادة وذكر الله تعالى، ففعل ونزلنا وكل منا يود فداءه بنفسه وبات في تلك الليلة- رحمة الله عليه- على حال المنتقلين إلى الله تعالى، والشيخ أبو جعفر يقرأ عنده القرآن، ويذكره بالله تعالى، وكان ذهنه غائباً من ليلة التاسع، ولا يكاد يفيق إلا في الأحيان. وذكر الشيخ أبو جعفر أنه لما انتهى إلى قوله تعالى: ( هو الله الذي لآ إله إلا هو علم الغيب والشهادة) سمعه وهو يقول رحمة الله عليه : " صحيح"، وهذه يقظة في وقت الحاجة، وعناية من الله تعالى به فلله الحمد على ذلك، وكانت وفاته رحمة الله عليه بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء سابع وعشرين من صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة، وبادر القاضي الفاضل بعد طلوع الصبح وفاته -رحمة الله عليه-ولقد حكي لي أنه لما بلغ الشيخ أبو جعفر إلى قوله تعالى " لا إله إلا هو عليه توكلت" تبسم وتهلل وجهه وسلمها إلى ربه وكان يوماً لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله منذ فقد الخلفاء الراشدين لقد كنت أسمع من بعض الناس أنهم يتمنون فداء من يعز عليهم بنفوسهم، فكنت أحمل ذلك على ضرب من التجوز والترخص إلى ذلك اليوم، فإني علمت من نفسي ومن غيري أنه لو قبل الفداء لفدي بالنفس. .
5- الجلوس للعزاء ودفنه:
ثم جلس ولده الأفضل للعزاء في الإيوان الشمالي، وحُفظ باب القلعة إلا عن الخواص من الأمراء والمعممين، وكان يوماً عظيماً قد شغل كل إنسان ما عنده من الحزن والأسف والبكاء والاستغاثة عن أن ينظر إلى غيره، وحفظ المجلس عن أن ينشد فيه شاعر أو يتكلم فيه فصال، أو وعاظ وكان أولاده يخرجون مستغيثين بين الناس، فتكاد النفوس تُزهق لهول منظرهم، ودام الحال على ذلك إلى بعد صلاة الظهر، ثم اشتغل بتغسيله وتكفينه، فما مكنا أن ندخل في تجهيزه ما قيمته حبة واحدة إلا بالقرض حتى في ثمن التبن الذي يلث به الطين وغسله الدولعي الفقيه وندبت إلى الوقوف على غسله فلم يكن لي قوة تحمل ذلك المنظر، وأخرج بعد صلاة الظهر في تابوت مسجى بثوب فوط، وكان ذلك وجميع ما احتاج إليه من الثياب في تكفينه قد أحضره الفاضل من وجه حلّ عرفه وارتفعت الأصوات عند مشاهدته وعظم الضجيج حتى إن العاقل يتخيّل أن الدنيا كلها تصبح صوتاً واحداً، وغشي الناس من البكاء والعويل ما شغلهم عن الصلاة، وصلى عليه الناس أرسالاً وكان أول من أم الناس القاضي محيي الدين بن الزكي ، ثم أعيد رحمة الله عليه إلى الدار التي في البستان التي كان متمرضاً بها ودفن في الضفة الغربية منها، وكان نزوله في حفرته قريباً من صلاة العصر، ثم نزل في أثناء النهار ولده الظافر، وعزى الناس فيه وسكن قلوب الناس، وكان الناس قد شغلهم الحزن والبكاء عن الاشتغال بالنهب والفساد، فما يوجد قلب إلا حزين، ولا عين إلا باكية إلا من شاء الله، ثم رجع الناس إلى بيوتهم أقبح رجوع ولم يعد منا أحد في تلك الليلة إلا أنا حضرنا وقرأنا وجددنا حالاً من الحزن، واشتغل ذلك اليوم الملك الأفضل بكتب الكتب إلى إخوته وعمّه يخبرهم بهذا الحادث، وفي اليوم الثاني جلس للعزاء جلوساً عاماً، وأطلق باب القلعة للفقهاء، والعلماء وتكلم المتكلمون ولم ينشد شاعر، ثم انفضّ المجلس في ظهيرة ذلك اليوم واستمر الحال في حضور الناس بكرة وعشية لقراءة القرآن والدعاء له رحمه الله. <