طلال عوكل
مشاهد الدمار الكبير الذي يتزايد يوماً بعد آخر جراء الحرب الإسرائيلية العدوانية على قطاع غزة، لا تزال حاضرة وتستخدم فيها إسرائيل كل ما في ترسانتها من أنواع الأسلحة الجوية والبرية والبحرية، بما في ذلك بعض أصناف الأسلحة المحرمة دولياً، في ظل مشاهد أخرى من القتل اليومي التي تعرضها شاشات التلفاز لأطفال ونساء وشيوخ وشبان في مقتبل العمر تمزقت أجسادهم وتشوهت أو هي لا تزال تنزف.
أكثر من خمسة آلاف منزل سكني دمرت بالكامل، وأضعافها تضررت جزئياً، أدت إلى هجرة داخلية من المناطق التي وصلتها القوات الإسرائيلية، أو المناطق الأكثر سخونةً وتعرضاً للقصف المجنون، وحيث تتكدس في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، أكثر من ثلاثين ألفاً، فضلاً عن مئات العوائل التي التجأت إلى بيوت ومراكز داخل مدينة غزة.
أعداد الشهداء زادت عن الألف، والجرحى عن خمسة آلاف، ونقص حاد ظاهر في الاحتياجات الإنسانية الأولية من دقيق وماء وكهرباء ووقود، فضلاً عن نقص الأدوية والتجهيزات الطبية، وضعف قدرة المستشفيات على التعامل مع نتائج حرب مدمرة. في ضوء مشاهد كهذه تطغى مشاعر التعاطف، على الحاجة للتحليل وتحكيم العقل عند اتخاذ المواقف.
من يستطيع في ظروف كهذه أن «ينحرف» عن جادة تصويب النقد والاحتجاج في وجه الجلاد، المحتل الظالم، والمجرم الذي ارتكب ما يكفي ليساق إلى محاكم جرائم الحرب الدولية؟ ثمة من يفعلون ذلك متسترين بدخان القذائف الذي يحجب أحياناً الرؤية.
إذا كان مشهد الدمار والخراب والقتل، قد بلغ حداً يدمي القلوب ويجفف الدموع في المآقي، فإن مشهد الضحية إذا افترضنا انها فلسطينية عربية، ينطوي على معان أشد إيلاماً وأشد وطأةً على النفس الوطنية وعلى مستقبل المصالح والحقوق الفلسطينية والعربية.
لقد اختارت إسرائيل الظروف العربية والإقليمية والفلسطينية الأنسب كي تشن حربها التدميرية على كل الشعب الفلسطيني وكل أطرافه وقواه السياسية وكل أهدافه، انطلاقاً من قطاع غزة، بالعنصرية والإجرام، ذات الأطماع التوسعية، والمخططات الجهنمية التي تفيض عن إقليم فلسطين إلى دور أوسع على مستوى منطقة الشرق الأوسط.
ولا حاجة بنا أيضاً لمزيد من الحديث عن السياسة الأميركية، واستراتيجياتها وأطماعها في الهيمنة على مقدرات الشعوب، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، ولا عن انحيازها الدائم والتاريخي للسياسة والأفعال الإسرائيلية، فهذه ومثلها الحديث عن السياسات الأوروبية قد أصبحت في عداد المسلمات التي لا تحتاج إلى شرح أو شواهد إضافية.
ماذا عن الوضع الفلسطيني وماذا عن الوضع العربي؟ إذا كان السؤال جارحا فالإجابة واجبة إلى حد لا يوصف. يختلف العرب الرسميون على الرؤى والاستراتيجيات والعلاقات مع الآخر، وفيما بينهم، ويختلفون على الأدوار، والمصالح القطرية الضيقة، ويتوزعون بين محور اعتدال، ومحور ممانعة، ومحور متفرجين. كان هذا الواقع موجوداً قبل الانقسام الفلسطيني، لكنه تعمق بعده، وأصبح العرب الذين يفترض أنهم متوحدون حول الحقوق الفلسطينية، مختلفون أيضاً حد الانقسام والتصارع على كل الموضوعات التي تتصل بالقضية الفلسطينية.
لقد اصطف الفلسطينيون المنقسمون ضمن المحاور العربية، حتى أصبح من غير الممكن أن يتفقوا إلا حين يتفق العرب الذين لا أمل قريبا في اتفاقهم.
قبل أن تشن إسرائيل حربها، حاولت الجامعة العربية ومصر، مساعدة الفلسطينيين المنقسمين المتصارعين، لبدء حوار ينهي انقسامهم، لكن المحاولة فشلت بسبب الخلاف العربي، واندلعت الحرب، وظهر الخلاف العربي إزاءها أكثر عمقاً وأشد خطورةً.لم يتفق العرب على عقد قمة عربية، وتركوا الأمر لوزراء الخارجية الذين لم يفعلوا شيئاً سوى دفع الملف إلى مجلس الأمن الدولي الذي اتخذ قراره رقم 1860، ورفضته إسرائيل، فيما اعتبرت حماس نفسها غير معنية به لأنها لم تكن طرفاً في المداولات بشأنه.
كانت المبادرة المصرية محاولة أخرى تسعى لتقديم آليات ملموسة لتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي، غير أن ما قدمته لم يرض إسرائيل التي حاولت تعديله لصالحها أكثر، ولا حماس التي حاولت أيضاً تعديله لصالحها.
ومرةً أخرى اختلف العرب وانقسموا بين من يدعو إلى قمة عربية طارئة، وبين من يرى أن بالإمكان تعويضها بقمة تشاورية على هامش القمة الاقتصادية التي ستنعقد في الكويت غداً الأحد. والسبب يكون مرةً أخرى: الانقسام الفلسطيني، وخلاف المحاور العربية، والخلاف حول الأدوار السياسية على المستوى الإقليمي، وعلى مستوى المصالح القطرية.
يختلف العرب، وتتداعى المشاريع والاقتراحات، فيما تواصل إسرائيل عدوانها وتنتظر العرض الأفضل بالنسبة لها، فإن جاءت العروض منسجمة مع أهداف الحرب، وفرت على نفسها عناء متابعة الحرب، أما إن جاءت على نحو لا يلبي أهدافها بالسياسة، فحربها لتحقيق الأهداف مستمرة.
وفي الواقع فإن الأهداف الإسرائيلية من الحرب لا تقف عند حدود القريب والمعلن منها، ويتصل بضمان أمنها بصورة أكيدة ودائمة، واستعادة هيبة الجيش الإسرائيلي التي اهتزت في الحرب على لبنان، وخدمة المصالح الانتخابية لزعماء وأحزاب الحكومة، بل تتعداها لتحقيق أهداف بعيدة.
إسرائيل تستثمر الانقسام الفلسطيني والانقسام العربي، من أجل تبديد القضية الفلسطينية وقطع الطريق أمام إمكانية قيام دولة فلسطين، وخلق المزيد من الوقائع العنيدة للدفع باتجاه خلق حلول إقليمية للقضية الفلسطينية، كالوطن البديل، أو إقامة كيانات فلسطينية قزمية في كل من غزة وأجزاء من الضفة الغربية.هكذا تصبح إسرائيل صاحبة القرار في تحديد مستقبل الشعب الفلسطيني، وصاحبة اليد الطولى في صياغة المستقبل والمصالح العربية. هنا يصدق المثل الشعبي القديم «بين حانا ومانا ضيعنا لحانا».