بقلم :د. سّيار الجميل
مفجع هو الزمن الذي قضيناه نحن العرب مثلا في القرن العشرين بكل صفحاته وأوراقه، وبكل مشكلاته وتناقضاته، وبكل احتداماته وأزماته، وبكل انكساراته وهزائمه. .
وهذا يدعونا للتساؤل عن أسرار التفكك العربي مقارنة بتماسك الآخرين! لقد كانت الهزائم التاريخية كبيرة في تأثيراتها، وفي حجم مكوثها فينا، ولكن تثبت الأحداث لنا أن عوامل الانتصار متوفرة، ولكنها غير منظورة أو معلنة! لقد غاب الوعي عن مجتمعاتنا زمنا طويلا مع هجمة التحديات الخارجية التي جعلتهم ينقسمون وهم ينشدون الوحدة.
وجعلتهم يهزمون وهم يتغنون بالنصر. . وجعلتهم في قلب تناقضات العنف بانقلاباتهم العسكرية نتاج مؤامرات أو رهانات الحرب الباردة، ثم مرحلة الحروب الداخلية والإقليمية والأهلية وصولا إلى إدخالهم قفص الإرهاب العالمي بالرغم عنهم. . لقد غدت ثوابتهم وعقائدهم متشظية سياسيا وفكريا للأسف الشديد. .
إن أهم ما يطرح من أسئلة اليوم: متى يشعر الإنسان ويحس المجتمع بمضاعفة دوره، وتجديد فكره، وخلق البدائل العديدة؟ متى يتوافق، أو يتلاءم الجميع من اجل أهداف وطنية ضمن مشروعات حضارية، وأساليب ديمقراطية حقيقية، وخصوصا بين الأكثرية والأقليات؟ إنني اعتقد أن الأغلبية تشعر بعمق الجروح التي أنتجتها قوى راحلة مع القرن العشرين في مجتمعاتنا التي نزفت طويلا أمام كل العالم غير مأسوف عليها، بل لتواجه أعتى جبروت في التاريخ. .
صحيح أن لها القدرة على مواجهته، ولكنها من أبعد ما تكون عن المواجهة، خصوصا وان كل الصفات السيئة قد ألصقت بها، وبالأخص اثر 11 سبتمبر 2001! وعليه، فان مصير الشرق الأوسط هو اليوم على كف عفريت، إذ غدا في رعاية دولية وهو يعيش اليوم في ظل استقطاب أميركي واضح المعالم.
كم نحتاج من زمن لتصويب الدورة التاريخية حسب نظرية تداول الأجيال؟ هل باستطاعة إسرائيل أن تمتلك دفة الشرق الأوسط، إن أحكمت الطوق على كل خصومها، وقد أشاعوا أنها قوة لا تقهر؟ هل باستطاعة إسرائيل الإذعان لإرادة السلام التي ركع لها العرب؟ لقد كنت أرى الناس ملتزمة بأفكار وشعارات لا تحيد عنها سواء كان ذلك عن إيمان راسخ، أو ديماغوجية مصطنعة. . وباتت اليوم، وقد تبدلت تبديلا. وهذه كما اعتقد سّنة الحياة المعاصرة التي بتنا نتعايش معها في هذا العصر الجديد.
قبل أكثر من خمسين سنة، كان «الالتزام» احد أهم المبادئ التي يتمتع بها المواطن الحقيقي في الانتماء إلى المجتمع، كما كان يتصّور حتى وان آمن بنظرية تقدمية ماركسية، أو بأفكار ليبرالية تحررية. . وكم دفع المثقفون الأوائل، أثمانا باهظة من حياتهم، فسجن بعضهم، واغتيل آخرون، واضطهد البعض، ونفي آخرون. . بل وصلت حالة البعض إلى حد الانتحار، فانتحر من لم يستطع تحمل ابسط المتغّيرات أو اكبر الهزائم!
وعلى امتداد خمسين سنة وحتى اليوم، طّوعت مجتمعاتنا لقبول الهزائم والنكسات، ولم تترب الأجيال على الاستجابة للتحديات! جعلوا المرء يقبل بالواقع رغما عن أنفه، بل وسحقوا معنوياته وداسوا على كرامته بحيث لم تجد ذلك المثقف الملتزم، أو السياسي الصلد. . لن تجد الثوابت راسخة رسوخ الجبال ولم يعد النضال من اجلها حتى الموت إلا ما ندر. . إن روح الالتزام مغروس في الصدور، ولكن روح الانهزام يطفو على السطح دوما.
. لن تجد المواقف معلنة وصريحة على رؤوس الأشهاد. . لن تجد الشجاعة في مقول القول، أو الجرأة في الخطاب إلا عند النادر من المثقفين والمثقفات اليوم. أصبحت حياتنا (العربية) سياسيا وإعلاميا واجتماعيا بلا ضوابط، فكل من هب ودب دعا نفسه بمثقف! لن تجد النزاهة ونظافة اليد وحسن السيرة والأهلية والحفاظ على المال العام. .
نعم، قد تجد بدايات مشجعة لحياة مجتمع مدني، ولكنها أسيرة كل ما يطوقها في المجتمع، أو من يتسلط عليها من الدولة، فيجعلها كسيحة لا تقوى على الحياة. . وهكذا بالنسبة للأحزاب السياسية، أو النقابات المهنية التي لا تستطيع تطوير أساليبها والدفاع عن حقوق أبنائها، أو بالنسبة للمنظمات الإقليمية التي لا تستطيع أن تفعل شيئا بالرغم من إنفاقاتها الباهظة. . الخ.
إن خمسين سنة مّرت على مجتمعاتنا ودولنا تسرع في تخريج كوادر كبرى لا تعتني بنوعياتهم بل بحجمهم الذي اختلط فيه الأخضر بسعر اليابس. . ولم يكن الإنسان المناسب في مكانه المناسب. . فضاعت أزماننا عبثا، وفشلت خططنا، وبدأنا نعيش فوضى قيمية، واستهلاكية قاتلة. . وكانت مجتمعاتنا هادئة ومتوازنة، فجعلوها تعيش حياة صاخبة يأكل القوي فيها الضعيف. .
وتنتشر فيها الرشوة والعلاقات غير النظيفة. . فمتى تتخلص مجتمعاتنا من تأخرّها وانعزالياتها؟ متى تعي مسؤولياتها التاريخية؟ متى تعلن عن التزامات جديدة؟
متى تجري تحولات جذرية في دولنا وتشريعاتها كلها؟ متى تتحول مجتمعاتنا نحو الأفضل؟ متى يتخلص المثقف الحقيقي من شقاء الوعي وهو يعيش مأساة مجتمعاته وتراجعها المخيف؟
متى تتوازن الحياة وتتخلص من تناقضاتها المرعبة؟ متى تتخلّص مجتمعاتنا من التخلف والفقر والجوع والمرض؟ متى تعيش حياة كريمة صالحة وعادلة منتجة؟ متى يتجّذر الحوار الحضاري بين مجتمعاتنا حول مختلف القضايا الشائكة والاختلافات المعقدّة؟ متى يعتمد الشارع العربي ترجمة حقيقية لما يتطلب إظهار الحق وإزهاق الباطل؟ إن الباطل كان زهوقا. .
كاتب ومؤرخ عراقي