هذه الجملة كانت عنوان كتاب اللواء الركن " حسين محمد المسوري سطر في أوراقة وبين جنباته سيرة عطرة من مرحلة تاريخ نضالي لمسيرة كفاح مسلح ضد النظام الإمامي البغيض والتصدي لكل المؤامرات التي تربصت بالثورة اليمنية وحاولت إجهاض هذا البريق الثوري الذي جعل اليمن تدخل إلى التاريخ من أوسع أبوابه بفضل الله تعالى ثم بفضل كوكبة من الرجال الأحرار والشهداء فدوا اليمن بحياتهم وقدموا أنفسهم رخيصة، وكان لصاحب هذا الكتاب الشرف بالمشاركة الفاعلة كواحد ممن سطروا مراحل بزوغ الفجر الثوري حتى اكتمل وميضه عبر التصدي لكل المؤامرات وإجهاض محاولات الانقلاب. .
"أخبار اليوم" تجد أن ما في جنبات هذا الكتاب الذي حاول اللواء الركن/ حسين المسوري اختزال ذاكرته في "442" صفحة.
جدير بالنشر وسيتم نشر محتواه في سلسلة حلقات متتالية. .
توطئة
ان التحولات التاريخية في حياة الشعوب وتغيير فلسفة الحكم في حياتها، فكراً وحكماً وإدارة وثقافة، أمور حتمية من طبائع الحياة، ومن الحاجة إلى التطور من حالة الركود والجمود.
لقد تحقق التحول التاريخي في بلادي يوم السادس والعشرين من أيلول / سبتمبر 1962م، وهو التغيير الحتمي الذي غيّر وجه التاريخ في الفكر والحكم والإدارة والثقافة، واليمن بفضل الثورة المباركة قضت على عصور التخلف التي عاشتها عدة قرون، وذلك لم يأت مصادفة، ولم يكن مغامرة قام بها عدد من الأبطال، بل نتيجة جهاد شاق، ونضال مرير خاضه الشعب اليمني من خلال طلائعه الوطنية في أربعينيات القرن العشرين، التي بدأت بمعارضة المستنيرين للحكم الإمامي المتخلف، وكان في مقدمتهم الأستاذ السياسي الكبير أحمد محمد نعمان، والشاعر الأديب المجاهد القاضي محمد محمود الزبيري، ومعاصروهما أمثال محمد قاسم أبو طالب "الخطيب"، والقاضي محمد الخالدي الذين تمكنوا من نشر أفكارهم وتطلعاتهم بين بعض الشباب في عدن وتعز وصنعاء. وإب والحديدة، عبر خطاباتهم وأشعارهم ومنشوراتهم التي تركت أثرها على كثير من أبناء اليمن، وخصوصاً تلك الخطابات التي فضحت النظام الإمامي، مما أدى إلى تحول بعض رجال حكم الإمام يحيى إلى معارضين، بل أصبحوا من قادة ثورة 1948م التي لم يكتب لها النجاح لأسباب سياسية واجتماعية كثيرة داخلية وخارجية، كتب عنها كثير من المؤرخين والباحثين وممن شاركوا في أحداثها.
لقد توالت التطلعات والمحاولات لإنهاء حكم الإمامة، ولم توفق إلا بقيام الثورة الخاتمية ثورة 26 أيلول / سبتمبر1962م التي أنهت الحكم الإمامي، وتمكنت من تغيير وجه التاريخ بفضل تنظيم الضباط الأحرار ورجال الحركة الوطنية من العلماء والمشائخ والشباب، وبما أن لهذا الحدث التاريخي أهميته البالغة، ولكوني شاركت في تنظيم الضباط الأحرار وفي تفجير الثورة ليلة 26 أيلول / سبتمبر والدفاع عنها ، وفي صنع أهم القرارات الوطنية والسياسية وجدت من الواجب أن أسهم في تسجيل بعض الأحداث التي كنت مشاركاً فيها، أو مطلعاً عليها، وحرصت على أن أبتعد عن نشر الرسائل أو ما يُسمى ب"الوثائق" لأنها أمانة تبودلت بين مناضلين سياسيين في حينه ولظروف خاصة، ولم تكن للدعاية والنشر أو التشهير. والأهم من ذلك هو أن الثوار تمكنوا من تغيير النظام الإمامي حكماً وثقافة وإدارة، لذا تظل الرسائل بين المناضلين "الوثائق" أمانة لا يجوز نشرها ومن حق القارئ أو الباحث أن يبحث ويتحرى فيما سجلته من النشأة والتعليم إلى المشاركة في صنع الحدث التاريخي، وفي الدفاع عن الثورة وحمايتها والانتصار لمبادئها وكذلك مشاركتي في العمل السياسي من المواقع التي تمكنت أن أخدم وطني من خلالها، ولا حاجة لي في أن أدعي بطولات وهمية أو أعمالاً سياسية خيالية كالتي تحدث عنها آخرون. وأعتقد -خطأ- أن الخيال والمبالغة سوف يقبلها القراء والباحثون أو تنطلي عليهم، فالتاريخ يسجل في وطنه وفي مكانه، وفي موقع الحدث، وليس من خلال الادعاءات والمغالاة الإعلامية والخطابات والشعارات، التي لا تلامس الواقع ولا تعتمد على حقائق ووقائع والمشاركة الفعلية في مكانها وزمانها. . لقد حاولت قدر الإمكان أن أوجز الرحلة التي عشتها راجياً من الله التوفيق، ثم من القارئ العذر والمسامحة على أي خطأ غير مقصود أو نسيان لبعض الأسماء أو المواقف، لأني حرصت على الإنصاف والصدق في كل ما سجلته، مؤكداً أن بعض الحقائق ما زالت في حاجة لجهود من تبقى من رجال الثورة الذين نأمل منهم أن يسجلوا بأمانة وصدق كي تتجلي أمام الجماهير.
سائلاً المولى -عز وجل- الرحمة والغفران لشهدائنا الذين أناروا لنا الطريق إلى العزة والوحدة والمجد كما نتذكر بكل الاعتزاز التضحيات الجسيمة والتلاحم الأخوي في خنادق النضال والكفاح للجيشين اليمني والمصري اللذين أرسيا بدماء أبنائهما دعائم الثورة والجمهورية.
والله من وراء القصد،،
الفصل الأول
من بداية الدراسة إلى إرهاصات الثورة
النشأة والتعليم
"أنا" حسين بن محمد عبدالرحمن المسوري من مواليد صنعاء القديمة حارة موسى في 2 رمضان/ 1361ه الموافق 12/9/1942م، درست في مدرسة نُصير الابتدائية "مدرسة اللقية حالياً"، وكان مديرها الأستاذ القدير والمنشد المعروف المرحوم محمد النعماني والمدرسون هم الأساتذة: أحمد الكراز ومحمد المسوري ومحمد عروة. . وغيرهم.
والمنهج الدراسي هو منهج الابتدائي من السنة الأولى إلى السادسة، والمواد الأساسية هي القرآن الكريم والتجويد والنحو والمحفوظات والحساب " الرياضيات"، والمحفوظات "أي الشعر والأدب"، والصحة " العلوم الصحية" ودروس الدين : الصلاة وشروطها، أوليات علوم الدين وتجويد القرآن الكريم. وكذلك أركان الإسلام، شروط الصلاة، كل هذه المواد الأخيرة تعلم التلميذ واجباته الدينية. وكنا نصلي الظهر والعصر مع بعض التطبيق التعليمي، والمغرب والعشاء والفجر في أوقاتها.
كان المدرس هو الذي يصلي بنا، وهو الذي يجهر بصوته لكي نتعلم، كنا نردد خلفه آيات القرآن، أعوذ بالله السميع العليم. . إلخ.
وكنا نتعلم الخط والحساب، الجمع والطرح والضرب في المدرسة الابتدائية. وفي المدرسة المتوسطة "البغدادية" درسنا الكسور العشرية والاعتيادية، وكان الخط مادة أساسية، تعلمنا الخط العربي الواضح والرقعة والأستاذ عبدالله الخروش هو الذي علمنا الخطوط وغيرها. والمدرسة المتوسطة تقع شمال مجلس النواب حالياً، وكانت مدرسة تركية جميلة تعرف ببيت بلاتون، ومنها تخرج قادة مفكرون كبار وأساتذة معروفون.
كنت أدرس النحو الواضح لعلي الجارم ومصطفى أمين بأجزائه الثلاثة، بحسب المراحل الدراسية والخطوط التي ذكرت، كان سيدنا عبدالله الخروش-رحمه الله - يدرسها والشيء المفيد في الخط يكتبه بأشعار تتضمن الحكمة والتربية الأخلاق كقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه فقوم النفس بالأخلاق تستقم
وكذلك قوله:
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتماً وعويلا
وهكذا في الأخلاق وفي الدين وفي كل شيء يواكبه الحكم والأمثلة المفيدة بهدف تربوي وديني وأخلاقي. .
وقد كنا نذهب إلى جامع موسى نصلي الصلوات الخمس في أوقاتها، ونستفيد من الأوقات بين الصلوات لندرس القرآن ونجوّده.
ومن الأساتذة الذين كنت أتعلم على أيديهم الأستاذ عبدالله الخروش في الجامع الكبير. . وسيدنا حسين الشبامي- رحمهما الله- في جامع موسى.
وفي مرحلة لاحقة انتقلت إلى المتوسطة في ربيع عام 1955م بعد أحداث تعز في ذلك العام، وفي السنة الثانية من دخولي المدرسة المتوسطة حدث العدوان الثلاثي على مصر، وكان الحدثان بالنسبة إلى بداية تحول في حياتي في المدرسة المتوسطة "الإعدادية".
القبول في المدرسة المتوسطة
أحدث انتقالي من مدرسة نصير إلى المدرسة المتوسطة تغييراً في حياتي بعد أن عانيت معاناة كبيرة حتى قبلت في المدرسة المتوسطة، وهذه المعاناة جاءت بعد أن أكملت دراستي الابتدائية، وكنت لا أعرف أين أذهب، كنت أجلس في الدكان مع والدي، وأذهب في الصباح لمراجعة المسؤولين لكي أدخل المدرسة المتوسطة ، مكثت شهرين أو ثلاثة أنا ووالدتي نذهب إلى القاضي محمد عبدالله العمري وزير الدولة وكيل وزارة الخارجية "ت1960م"- رحمه الله- وكان له نفوذ وتأثير علمي وسياسي، وساعدني على دخول المدرسة بتوصية منه إلى مدير المعارف القاضي أحمد الآنسي، فقبلت فيها ، بعد أن كنت كل يوم أنتقل من مكان إلى آخر لكي يسمح لي بدخول المدرسة المتوسطة "الإعدادية".
وتم قبولي في المدرسة بتوجيه من مدير المعارف القاضي أحمد الآنسي وهو تربوي كبير من سكان صنعاء القديمة، إلى مدير المدرسة الأستاذ الجليل عبدالله الذماري وكان مثالاً للنبل والأخلاق والرجل الصالح المربي. وكان ثمة عدد من الزملاء جاؤوا من مدرسة الأيتام ومن مدرسة الزمر والإصلاح وهي المدارس الابتدائية في صنعاء، وقد كان الجميع يواجهون صعوبات في دخول المدرسة المتوسطة.
وكان كل من يدخل المدرسة يحتاج إلى توجيه بالموافقة من الوزارة، أو من ولي العهد، أو سيف الإسلام الحسن، أو الأمير إسماعيل ابن الإمام يحيى الذي كان وزيراً للمعارف، ولما دخلت المدرسة واجتهدت، لأني وجدت ضالتي التي أبحث عنها وهي مواصلة التعليم.
لقد تعلمت وتأثرت في المدرسة الابتدائية بالأستاذ محمد النعماني الذي عرف بالفضل، وكان مقرئاً ومنشداً حسن الصوت ومديراً لمدرسة نصير، وكان مثلاً أعلى في الأخلاق، والدراسة في تلك المرحلة الابتدائية يعود فضلها إليه، وذكرت الأستاذ محمد عروة، وهو من أكثر من تطلعنا إليهم قدوة حسنة، في الديانة والأخلاق الحميدة، وكنا نسمع سيدنا محمد النعماني وهو ينصح الطلاب ويوجههم في صلاتهم وفي دراستهم وفي نظافتهم، وفي نظافة المدرسة، كنا نستجيب بسهولة وتلقائية، تلعمناها وتربينا عليها ونحن أطفال صغار، وهي أسس هامة في حياة الطفل الطالب، يتعلم شيئاً جديداً خارج البيت من مدرسين أفاضل، وفي البيت يعلمه والده ووالدته مسائل بسيطة، والمدرسة يعلمه فيها شخص آخر ليس له علاقة بالتعامل العائلي، المدرسة فيها أستاذ ومدير أرفع مكاناً في علمه وفي واجباته، ولهذا فتحنا مداركنا وعيوننا وتطلعنا إلى أن نكون مثلهما، وكنا نتمنى أن نكون مثل سيدنا محمد النعماني، بل كنا نحلم بذلك.
وفي بداية طفولتي شاهدت حدثاً كبيراً عام 1948م حينما صحونا على نهب صنعاء كنا أطفالاً نلعب في الشوارع. ولأن حياتي بدأت مع الأطفال في الحارة، عايشت تلك الحالة المحزنة وعمري 6 سنوات، وشاهدت النهب والخراب في البيوت والأسواق. . هذا الحدث ترك في نفسي أثراً محزناً غامضاً، وحدث لي فيه حادث بسيط ربما ذكرته في إحدى المقابلات سابقاً وأذكرها هنا لعلاقتها بالموضوع.