حسين العودات
قبيل انتخابات 1996 الإسرائيلية أمر شمعون بيريز وكان رئيس وزراء إسرائيل بالوكالة بشن عملية (عناقيد الغضب) التي أدت إلى مجزرة قانا جنوب لبنان ذهب ضحيتها (106) شهداء معظمهم من الأطفال والنساء بعد أن حوصروا في مقر قيادة القوات الفيجية التابعة للأمم المتحدة، ولم تكن المجزرة مبررة، لأن الضحايا مدنيين والتجئوا إلى ذاك المقر مفترضين أنه مكان آمن.
ولم تكن العملية برمتها بحاجة لمثل هذا العمل الأرعن والمجنون، خاصة وأن بيريس ليس عسكرياً بل رجل سياسة وهو (أحلس أملس) أمضى معظم حياته الوظيفية في الأعمال الإدارية والسياسية ولم يكن يوماً ما صقراً، لكنه رغب أن يقنع الناخب الإسرائيلي بأنه لا يقل صقورية عن غيره فأمر بعملية (عناقيد الغضب) التي لم يكن لها أي مبرر أمني أو عسكري أو من أي نوع سوى الوظيفة الانتخابية، ولكن الناخب الإسرائيلي لم يأخذها على محمل الجد، ولم ينتخب بيريس بل انتصر للمرشح الآخر بنيامين نتانياهو المتطرف والعنصري (أباً عن جد)، ولم يربح بيريس سوى الإثم والسبة واللعنة والبقعة السوداء في تاريخه.
وفي سبتمبر عام 2000 انتهك إرييل شارون حرمة المسجد الأقصى بعملية عدوانية استعراضية مع جمع من قيادة حزبه، وكان عدواناً لا مبرر له سوى الأمل بأن يلعب دوراً في الانتخابات التي كانت على الأبواب وأن يساعد حزبه على الفوز، وانطلقت في إثر هذا العدوان انتفاضة الأقصى التي أدت إلى تطورات ما زالت تتصاعد حتى الآن، ونجح بعدها شارون وحزبه الليكود في الانتخابات وهزم إيهود باراك وحزب العمل لأن الناخب الإسرائيلي اعتبر شارون أكثر تطرفاً وعدوانية وهمجية فأعطاه صوته ومنحه ثقته وانتظر منه مزيداً من الاعتداءات والمجازر، يمارسها على هذه أو تلك من المناطق الفلسطينية أو العربية، ولم يخيب شارون ظن ناخبيه.
والآن على أبواب انتخابات الكنيست الجديدة التي من المقرر أن تجري الشهر المقبل، شن الثلاثي أولمرت وباراك وليفني عدوانهم الهمجي (الرصاص المسكوب) على غزة، وهو من أشد الاعتداءات قسوة، تسبب بأكثر المجازر وحشية وهمجية، وتفوح منه رائحة العنصرية والرغبة بالإبادة والتلذذ بقتل الفلسطينيين، وهو عربون للانتخابات القادمة يرجو كل من الثلاثي أن يقتنع الناخب الإسرائيلي أنه أشد عنصرية وتطرفاً ضد العرب من بنيامين نتنياهو عدوهم المشترك وبالتالي يستجدي صوته الذي يؤهله لتشكيل الحكومة المقبلة.
كان أولمرت (الذي لن يخوض الانتخابات) يأمل بأن العدوان سيخفف من سوء صورته لدى الرأي العام الإسرائيلي بعد أن اتهم بالفساد والرشوة وقدم استقالته من حزبه ومن الحكومة غير مأسوف عليه من أحد، ويتمنى أن يعيد له هذا العدوان بعض ماء الوجه المسفوح مكافأة على جرائمه ضد العرب. ويرجو باراك أن تقنع مساهمته في العدوان ورفع درجات العنف وإشرافه على الغزو الناخب الإسرائيلي كي يعطيه صوته، وأن يوقف تدهور حزب العمل الذي لم يكن على مثل ضعفه وتراجع شعبيته الحالية في أي يوم من تاريخه، وأن يساعده ذلك على الأقل ليبقى الحزب الثالث من حيث عدد المقاعد في الكنيست المقبل.
أما ليفني التي تصر على استمرار العمليات العسكرية، فيبدو أنها تريد أن تثبت أنها (أخت الرجال) وأن غولدا مائير معتدلة ومتهاونة أمام صلابتها وتطرفها وتحلم بأن هذا التطرف سيؤهل حزبها (كاديما) ليحتل الدرجة الأولى في الانتخابات، وتصبح رئيسة الوزراء الثانية في تاريخ إسرائيل. وهؤلاء جميعاً، يسيّرهم هاجس بنيامين نتانياهو (الأصيل ابن الأصيل في تطرفه)، والثعلب (الغدار) والبراغماتي المشهود له، والذي، رغم أنه لا يتولى أي منصب، كاد يقنع الناخب الإسرائيلي بأنه هو الذي يجلب له الأمن، وأن هؤلاء الزعماء السابقين هم معتدلون ولا يعتد بمزاعمهم في التطرف.
تؤكد الاعتداءات المترافقة مع الانتخابات الإسرائيلية، أن السياسيين مقتنعون أن الهدف الرئيس للمجتمع الإسرائيلي هو الأمن وليس السلام، وأن الأمن يتحقق بالحرب والعدوان وارتكاب المجازر، ولذلك تستجيب الأحزاب الإسرائيلية لهذه القناعات، ويزداد تطرفها وترتكب المجازر لكسب ود الناخبين وإقناعهم بأنها خير من يؤمن الأمن لهم.
لماذا الأمن وليس السلام؟ لأن السلام أمر مختلف عليه في المجتمع الإسرائيلي، فلا يمكن أن يتم السلام دون أن يتم الاتفاق على حدود الدولة (هل هي الحدود الحالية أم حدود أرض إسرائيل الكبرى المزعومة) وإن كان الأمر الثاني فما هو الموقف من فلسطينيي الضفة؟ وما هو نوع الدولة هل هي دولة لكل مواطنيها أم دولة لليهود فقط، ومن هو اليهودي، وهل هي دولة شرق أوسطية أم رأس حربة أوروبية أو أميركية.
فضلاً عن عديد من التساؤلات التي لم يستطع المجتمع الإسرائيلي الإجابة عليها أو حلها منذ ستين عاماً حتى الآن، وإن تبني السلام يقتضي أن يجيب عليها مسبقاً وهذا أمر متعذر، ولذلك فهاجسه الأمن الذي يحمي إسرائيل ويؤدي إلى تآكل الموقف العربي أكثر ويفرض الأمر الواقع نفسه ثم يجيء الوقت الذي يحسم فيه المجتمع الإسرائيلي مواقفه الإيديولوجية والسياسية وغيرها، ولن يحتل السلام الأولوية الأولى قبل ذلك. <
* كاتب سوري