بقلو/عبد الباري عطوان
زلزال غزة ضرب الاعلام العالمي، والعربي منه على وجه الخصوص، في صميم قلبه، ووضعه امام 'محاكمة' حقيقية، قضاتها هم ضحاياه، اي ضحايا هذا الاعلام بأشكاله كافة، من قراء ومشاهدين وصناع رأي، بل وابناء المهنة انفسهم، والتهمة هي السقوط الاخلاقي والقانوني والمهني بسبب الرضوخ للهيمنة الاسرائيلية، المباشرة منها وغير المباشرة.
محطات تلفزة، وصحف، واذاعات، عربية واجنبية، اجتازت هذا الاختبار او المحاكمة بنجاح كبير عندما انحازت الى المهنية والموضوعية، وقدمت الوقائع الحقيقية للمجازر الاسرائيلية في قطاع غزة، بالصوت والصورة دون اي تدخل، واخرى ضبطت متلبسة في الانحياز الى الجلاد ومحاولة تحسين صورته البشعة، مثل هيئة الاذاعة البريطانية 'بي بي سي' بمختلف فروعها وقنواتها التلفزيونية والاذاعية.
السقوط الاخلاقي والمهني الكبير لهيئة الاذاعة البريطانية تمثل في رفضها بث 'نداء غزة' الخيري الذي تقدمت به اكثر من خمس عشرة مؤسسة بريطانية انسانية لجمع تبرعات لضحايا العدوان الاسرائيلي، تحت ذريعة التمسك بالحيادية، في حين بثت النداء عدة محطات بريطانية منها القناتان الرابعة والخامسة وال'اي تي في'.
مظاهرات احتجاج عارمة احاطت بمبنى المحطة الرئيسي طوال اليومين الماضيين تطالبها بالتراجع عن قرارها، وفعل الشيء نفسه خمسون نائبا في البرلمان، وكذلك جون سينتامو اسقف يورك الذي اتهم الهيئة بالتحيز الى جانب دون الآخر وقال 'ان النداء ليس من حركة 'حماس' من اجل الحصول على السلاح، ولكن من اجل الاغاثة'.
هذه 'الصحوة' التي انعكست في افتتاحيات قوية في معظم الصحف البريطانية، تنتقد هذه الهيئة الممولة من قبل دافع الضرائب البريطاني، تؤكد على ما كررناه دائما، من سيطرة اللوبي الاسرائيلي عليها بالكامل، بعد ان نجح في ارهابها من خلال سحب اعتماد بعض مراسليها في فلسطين المحتلة، او ارسال آلاف الرسائل الاحتجاجية اليها بعد كل برنامج تتناول فيه جوانب الصراع العربي الاسرائيلي. وقد علمت شخصيا، ومن مصادر وثيقة داخل الهيئة، ان اوساطا اسرائيلية فرضت ما يشبه القائمة السوداء غير المكتوبة، تضم اسماء بعض الخبراء العرب في الشأن الشرق اوسطي، تتهمهم بالتطرف، وتطالب بتقليص ظهورهم اذا لم يتأت منعهم بالكامل.
صحيفة 'الجويش كرونيكل' الناطقة باسم الجالية اليهودية، والمدافعة الشرسة عن اسرائيل، نشرت في عددها قبل الاخير قائمة بمن اسمتهم بالمحللين التلفزيونيين الناقدين لاسرائيل، سخرت من مهنيتهم، في تحريض سافر، وقالت انهم غير موضوعيين، ويملكون 'اجندات خاصة'، واحتل كاتب هذه السطور رأس القائمة، مع نبذة عنه مزينة بصورته، وجاء الدكتور ريتشارد فولك منسق الامم المتحدة في قطاع غزة في المرتبة الثانية، والدكتور النرويجي مادس غلبرت، الذي اجرى عشرات العمليات الجراحية لضحايا العدوان الاسرائيلي في مستشفى الشفاء في قطاع غزة، في المرتبة الثالثة.
جون سنو المذيع الشهير في القناة الرابعة في التلفزيون البريطاني المعروف بمواقفه الجريئة، انتج فيلما وثائقيا مع زميله المخرج والمصور ديفيد نيبلوك اذيع مساء الخميس الماضي، يتناول رضوخ معظم وسائل الاعلام العالمية للارهاب الرسمي الاسرائيلي، والرقابة المكثفة التي فرضتها الحكومة الاسرائيلية على هذه الوسائل، بما في ذلك منعها من دخول قطاع غزة، وقذفها بآلاف الرسائل والوثائق والمعلومات المضللة عن الحرب. وبيّن الفيلم كيف نجحت محطات مثل 'الجزيرة' بشقيها العربي والانكليزي في تقديم صور حية للدمار الاسرائيلي وجثامين الشهداء من الاطفال، وآلاف المشردين بعد قصف منازلهم بالصواريخ.
الفيلم الذي قدم شهادات وصورا غير مذاعة للضحايا وذويهم، وصل الى نتيجة مفادها، ان العالم ما كان سيسكت لو شاهدها مبكرا، ولما سمح لاسرائيل بمواصلة عمليات القتل الوحشية لمدة ثلاثة اسابيع ودون اي ضغوط خارجية.
مارك تومبسون مدير عام هيئة الاذاعة البريطانية 'بي بي سي' اتخذ قرارات عديدة استفزازية في السابق، تكشف انحيازه لاسرائيل على مدى السنوات العشر الماضية، ورضوخه لارهابها واللوبي المناصر لها في بريطانيا، ولكن هذا القرار الاخير بمنع بث نداء انساني يجب ان يكون الاخير، وعليه الاستقالة فورا من منصبه، فهناك اجماع في بريطانيا على ان هناك ثلاث هيئات هي الاسوأ ادارة على الاطلاق، وهي 'البي بي سي' والبنك الملكي الاسكتلندي، وهيئة المطارات البريطانية، ولا نبالغ اذا قلنا ان هيئة الاذاعة البريطانية تحتل المرتبة الاولى، وصدق الزميل تيم لويلني الذي عمل مراسلا لها لمدة ثلاثين عاما في الشرق الاوسط، عندما قال انها 'هيئة من الاسود يقودها حمير'.
السقوط لم يقتصر للأسف على الاعلام الغربي، او بعض هيئاته، وانما يشمل الاعلام العربي للأسف الذي لا عذر له، وللمشرفين عليه، لانه ابن المنطقة ومن المفترض معرفته بكل تفاصيلها. ومن المؤسف ان بعض وسائط هذا الاعلام، والتابعة منها لما يسمى بمحور الاعتدال، اثبت انه اكثر انحيازا للعدوان الاسرائيلي من بعض محطات التلفزة الاسرائيلية.
ففي ذروة حرب الابادة التي كانت تشنها الطائرات والدبابات والزوارق الاسرائيلية على ابناء قطاع غزة، كان من يطلقون على انفسهم بالليبراليين الجدد يتربعون على الشاشات التابعة للمحور المذكور يلومون الضحية، ويحملونها مسؤولية القتل والدمار دون ذرة خجل او حياء. وسمعنا شلة منهم تسخر من فريضة الجهاد، وتطالب بالاستسلام للاعداء بالكامل.
فالاعلام الرسمي المصري الذي يكلف خزينة الدولة عدة مليارات من الدولارات سنويا، في بلد يعيش نحو ثلثي سكانه على اقل من دولارين في اليوم، شن حملة شرسة طوال ايام الحرب، وما زال، استهدفت غسل دماء المواطن العادي البسيط، واستنفار مشاعره الوطنية المصرية وتوظيفها ضد العرب والفلسطينيين، للتغطية على فشل السياسة الخارجية في التعاطي مع 'مأساة غزة'. . بحيث اصبح كل من ينتقد هذه السياسة الحكومية الفاشلة والمهينة لمصر ودورها وتاريخها وشعبها عميلا لايران وسورية وقطر، واصبح الموضوع 'الهجوم العربي على مصر'.
ما يطمئننا ان احداث غزة، وما رافقها من صمود اسطوري، اثبتت ورغم كل حملات التضليل الاعلامية، ان الشعوب العربية، والشعب المصري على وجه الخصوص، اذكى من كل تلك الاصوات الشاذة، والدليل على ذلك خروج مظاهرات غير مسبوقة في مدن صغيرة مثل طنطا ودمنهور وحتى بعض القرى النائية شارك فيها مئات الآلاف.
والاهم من كل ذلك ان الاعلام الحكومي العربي، والمصري منه خاصة، ورغم ما ينفق عليه من مليارات الدولارات في شكل رواتب خيالية، وامتيازات لا حصر لها، فشل في مهمته وهي تبييض وجه الانظمة المتواطئة مع العدوان الاسرائيلي، كما فشل في كسب الحد الادنى من الاحترام داخل الوطن العربي وخارجه، باستثناء احترام الاسرائيليين، واثار بعض رموزه حالة من الخزي والاشمئزاز، وقد كانت احدى الصحف المصرية المستقلة اكثر من موفقة عندما قالت في مانشيت كبير 'فضحتونا'.
حرب غزة شكلت علامة فارقة في التاريخ العربي، ستغير معادلات كثيرة، والمعادلة الابرز هي مدرسة التعتيم الاعلامي، والانحياز السافر للعدوان، والرضوخ للارهاب والاملاءات الاسرائيلية. فالرأي العام لا يمكن ان يسمح بعد اليوم بالصمت على سياسات التطهير العرقي وارهاب الدولة، خاصة اذا كانت اسرائيلية بحجة الموضوعية والمهنية الزائفتين. <