ريتشارد نيگسون في اليمن
كان الأستاذ أحمد الشمسي مديراً للمدرسة الثانوية رجلاً عظيماً وصاحب خلق كريم ومتمكناً في الإدارة ويتمتع باحترام الآخرين له، ولكن قدراته العلمية كانت محدودة، ولهذا لم يستمر مديراً للمدرسة الثانوية التي أصبح طلابها على قدر كبير من الوعي، فعين الأستاذ علي عبدالكريم الفضيل مديراً مكانه. وعندما أدمجت المدرستان " التحضيرية والثانوية" ظهر المدير الجديد " الفضيل" متميزاً بقدراته العلمية والسياسية إضافة إلى قدراته الإدارية، وهو الذي تميز بمعرفته للطلاب ومعرفة قدراتهم ومستوياتهم العلمية فرداً فرداً، وكان يتعامل معهم بحسب مستوياتهم وسلوكهم دون تمييز.
كما كان على صلة كبيرة ووثيقة بعدد من السياسيين القريبين من النظام، أمثال محمد أحمد الشامي مدير الإذاعة ، وكذلك كان قريباً إلى كل من الحسن والبدر، وكلف بالإشراف على برامج الإذاعة، مما يدل على أن له قدرات متنوعة، وأنه موضع ثقة النظام الإمامي.
ومن الأدلة على قدراته السياسية الدور المهم الذي قام به حينما جاء الأمريكان بما أسموه مشروع سد الفراغ في الشرق الأوسط في عهد الرئيس الأمريكي" إدوارد أيزنهاور" ، الذي أرسل إلى اليمن مبعوثه الخاص السيد ريتشارد نيكسون حاملاً رسالة إلى الإمام أحمد حول هذا الموضوع، تتضمن رسم دور اليمن بموقعه الجغرافي الهام في تنفيذه، لقد رفض الإمام أحمد هذا المشروع جملة وتفصيلاً، وكان لا بد من أن يقوم المستنيرون بدور توضيحي لهذا الرفض اليمني إذ كان الغرض من المشروع مواجهة السوفييت على مناطق النفوذ ومناطق البترول العربية، ومن ثم تصبح اليمن ضحية تدخل ضمن الفلك الأمريكي الذي كان يبعث على القلق وتكون اليمن منطقة نفوذ للأمريكان، وبؤرة صراع دولي.
واليمن لديه الحصاسية تجاه السيادة والاستقلال، ولا سيما مع وجود الاستعمار البريطاني الذي يحتل الجنوب، والشعب اليمني من أدناه إلى أقصاه لديه حساسية بالغة كذلك نحو المحتل للأرض اليمنية، فكان الجنوب المحتل " كما كنا نسميه ذلك الحين" يجعلنا نحس بمرارة الاحتلال نحن في الشمال ، وهنا أستخدم كلمة "المرارة" لأن الحس اليمني ضد الاستعمار والتدخل الخارجي كان يؤثر ي الوجدان مع أنه لم يكن في ذهن المواطن اليمني حينها تفصيلا عن الاستعمار وتصرفاته، بل كنا نتابع الأحداث من خلال ما قراناه عن البلدان التي استعمرها، وما يعانيه إخواننا في جنوب الوطن.
ومن هذا الموقف كلفت المدرسة الثانوية بإعداد تمثيلية، وهي مسرحية مفتوحة في ميدان شرارة " ميدان التحرير اليوم" ، وقمنا بتمثيلية توضح الغرض من المشروع الأمريكي أعدها الأساتذة المصريون واليمنيون، وكان مدير الثانوية الأستاذ علي عبدالكريم الفضيل يرعى هذا الحفل ويختار الطلاب المؤهلين ثقافياً للقيام بهذه " المسرحية" ، والغرض كشف محاولة نيكسون توضيح أن أهداف المشروع الأمريكي لمصلحة الإمام ولمصلحة اليمن لكن الإمام هو الذي تحاور معه، وكان رده قاطعاً بعدم قبول المشروع، وعند إعداد المسرحية اختارني، وشكلي أدى إلى اختياري لكي أقوم بدور المبعوث الأمريكي نيكسون ولبست بدلة إفرنجية مع " برنيطة" كما كنا نسميها، وكنت أجيد مبادئ اللغة الإنجليزية ولا أدعي أني كنت أتكلم الإنجليزية بطلاقة، وإنما كنت أقرأ الإنجليزية ، وما يكتب لي وما أحفظه وظفته لصالح الدور الذي قمت به بجدارة في التمثيلية.
والأساتذة المصريون مع الأستاذ علي عبدالكريم الفضيل مدير المدرسة الثانوية كان لهم أيضاً هدف سياسي، لأن نظرية ملء الفراغ موجهة أيضاً ضد ثورة تموز/23 يوليو.
ومن خلال التمثيلية أكدنا أن المشروع الأمريكي مرفوض جملة وتفصيلاً، لأن أهدافه وغايته عند المستنيرين واضحة ولا أقول عند الشعب اليمني. وفي تلك المرحلة الدراسية كان العزي المقحفي مسؤولاً عن المكتبة، وكنا نسمية الوالد العزي المقحفي، ومسؤولاً عن احتياجات الطلاب من الكتب والمواد الغذائية التي تصرف ويشرف عليها، وكان يراعي الطلاب، ويستفيدون منه حينما يطلبون كتاباًَ أو مساعدة. فكان هذا الرجل من المخلصين في عملهم. وكذلك الوالد العزي صدقة وكان موظفاً في وزارة المعارف وكان يعيش في المدرسة ويأتي بعد الظهر أحياناً للغداء مع عدد من الزملاء والأصدقاء فيها، وكان مثالاً للأخلاق والنيل، وأسهم في تهذيب كثير من أخلاق الطلبة ومساعدتهم في توفير بعض احتياجاتهم.
ومن المدرسين الأستاذ عبدالله كباس مدرس مادة التربية والأخلاق والأستاذ حسين الذماري هو الجغرافي الشهير، صاحب جغرافية اليمن والوطن العربي والعالم وكان في منتهى الحدة والذكاء، جاداً للغاية فحينما تأتي منه نكتة صغيرة تكون فكاهة كبيرة عند الطلاب ، وحينما نسمع أنه قادم إلى الفصل نعد أنفسنا ونجلس في مقاعدنا وكل طالب يعد كتبه وخرائطه وأقلامه الرصاصث والملونة واستعداداً لحصته، لكي نستمع لدرسه ونستفيد منه. وهو من الشخصيات القديرة وكانت خرائطه تحدد كل رملة من تراب اليمن. " وقد توفاه الله أواخر العقد الثامن من القرن العشرين" وقبل قليل من وفاة قريبه الأستاذ الجلي عبدالله الذماري.
محاضرات العفيف
لقد اهتممنا بالثقافة ونحن طلاب في المدرسة الثانوية ، واهتممنا بدراسة المناهج التعليمية من المدرسين جمال حماد ومحمود خطاب مدرس اللغة الإنجليزية ومحمد عبدالسلام رشوان وغيرهم، هؤلاء المدرسون غرسوا فينا التربية الوطنية والعلم بمعنى التربية والتعليم، التربية المحافظة على الأخلاق والقيم، واستفدنا من المحاضرين غير المدرسين وفي مقدمتهم الأستاذ أحمد جابر عفيف والقاضي محمد عبدالله "عامو" الذي عُين قبيل الثورة بستة أشهر وزيراً للمعارف وأعدد في عام 1962م، وكانت المحاضرات أخلاقية ودينية وتاريخية ووطنية، وكل محاضرات الأستاذ أحمد جابر كانت عن الوطنية، ومنها محاضراته عن النضال ضد الاستعمار البريطاني في الهند، ودور الزعيم "غاندي" في العصيان المدني، وكان يصف لنا تواضع ذلك الزعيم الهندي وتقشفه في المأكل والملبس، ودوره في مقاومة الاستعمار البريطاني.
لقد كان وقع هذه المحاضرات علينا كبيراً ونحن في ريعان الشباب وهو يتحدث عن الهند، ولهذا ذكرتها تركت أثرها الكبير في مقاومة الاستعمار والمقاومة السلمية التي بنيت على تحدي الاستعمار وقواته وأثر فينا كذلك كتاب " من السجن إلى الرئاسة" لجواهر لال نهرو، وزع علينا واستفدنا منه، ولدي نسخة ما زلت أحتفظ بها وكذلك كتابة الأشهر " لمحات من تاريخ العالم"، ونهرو من مدرسة غاندي ممن قاوموا الاستعمار الإنجليزي وهو أول رئيس لوزراء الهند عشية الاستقلال عام 1948م، وأدى في هذه المرحلة دوراً بارزاً مع المرحوم الرئيس عبدالناصر وتيتو وسكارنو في تأسيس كتلة عدم الانحياز، وقد كانت المحاضرات والكتاب تحفيزاً لنا بأن الظلم مرفوض أياً كان ، ظلم استعمار أو نظام حاكم أو "إمام" ، هذا الأثر والمعنى الذي فهمه الطلاب وقتها، والطلاب كانوا على قدر كبير من الوعي والقراءة وسعة الاطلاع، ولذلك شكلوا طليعة مستنيرة يقرؤون ويتمسكون بالقيم والأخلاق ويتطلعون إلى المستقبل.
وفي المقاومة بجيل اليوم سنجد أولئك الشباب أكثر استعداداً للقراءة والفهم وتطير الذات ، ولهذا من الواجب الإشارة بذلك الجيل الذي كان مهتماً بالقراءة والاطلاع والمعرفة أكثر من جيل اليوم إذ لا يستطيع بعضهم أن يكتب رسالة إلى صديق أو يحسن التعبير في طلب وظيفة! لأنهم لا يقرؤون ولا يكتبون، إضافة إلى هبوط مستوى التعليم، ولأنهم لا يهتمون بالقيم والأخلاق والعلم والاجتهاد، إن معظم أبنائنا للأسف الشديد مستواهم العلمي والثقافي محدود وهابط، ويحتاج هذا إلى مراجعة الأسباب ومعالجتها.. إن بعضاً منهم يحفظ القليل من المعلومات لكي ينجحوا في الامتحانات، ومنهم أولادنا وأبناؤنا ومن نعرف من أبناء أصدقائنا وغيرهم.
إن سيرة غاندي لم نستفد منها منهجاً في المقاومة ضد الإمامة أو للتغيير، لأننا لم نصل بعد إلى هذا المستوى من التفكير والوعي، وإنما أثر فينا بشكل عام، حيث أدركنا أن الظلم مرفوض وأن الاستعمار مرفوض وأن المقاومة ضد الظلم يجب أن تتخذ كل الأساليب لمقاومة، ومن الصفات الجميلة أننا أضفنا للأستاذ أحمد جابر عفيف لقباً جديداً فسميناه الصفات غاندي، وهو ما أتذكره كلما رأيت الأستاذ أحمد جابر، أطال الله عمره، فحينما كان يصل إلى المدرسة كنا نقول: "هه جاء غاندي"، هذه المعاني الجميلة تتمثل في شخص المحاضر الأستاذ العصري أحمد جابر.
وكنا نهتم بكل من ياتي إلينا أمثال القاضي عبدالحميد الشوكاني والأستاذ الأديب والشاعر إبراهيم الحضراني "ت2007م"، رحمهما الله، والعميد عبدالله الضبي، وعدد من الإخوة الشباب المثقف أمثال الأخ الأستاذ عبدالعزيز المقالح والشهيد الشيخ حميد الأحمر، رحمه الله هؤلاء كانوا ضمن من يأتون إلى المدرسة الثانوية، وكذلك عدد من الشخصيات الكبيرة ومنهم الزعيم عبدالله السلال والأستاذ أحمد المروني، هؤلاء هم العصريون المتطورون الذين يحاضروننا ويساعدوننا ببعض الكتب ، ويلقوننا ويشجعوننا على التعلم وعلى التثقيف. كنا ندرس المنهج الدارس كاملاً ، إضافة إلى الثقافة العامة.
كنا نقرأ سيرة غاندي وسيرة الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، وكذلك نقرأ للشعراء كأبي القاسم الشابي و"الأيام" لطه حسين و"النظرات" و"العبرات" للمنفلوطي، كذلك قرأنا عدداً من الكتب ما زالت عندي بطبعاتها القديمة، ومنها مجموعة خالد محمد خالد منها " الله والإنسان" و"من هنا نبدأ" و"لكي لا تحرثوا في البحر" اثنا عشر كتاباً ما زلت محتفظاً بها عزيزة علىّ، وهي موجودة في مكتبي بأغلفتها القديمة منذ اكثر من نصف قرن، وأيضاً قرأنا شعر حافظ إبراهيم و"الشوقيات" لأحمد شوقي، و"ديوان المتنبي" والمعري و"مع أبي العلاء المعري في سجنه" لطه حسين ، وقرأنا عدداً من المعلقات السبع أو العشر وحفظنا منها الكثير، قرأنا كذلك شعر عيسى الناعوري، وإيليا أبو ماضي من شعراء المهجر ، قرأنا لهؤلاء وغيرها ما تركنا كتاباًكان يمكن أن يصل إلينا إلا وقرأناه، وقرأنا لطه حسين " الفتنة الكبرى" هذه هي معظم الكتب التي أستحرضها ولا اريد أن أسهب، ولكي لا يقال بأني أبالغ فيما قرأناه، كذلك قرأنا عن شعراء المهجر اللبناني، جبران خليل جبران، فوزي المعلوف، ميخائيل نعيمة، والشاعر السوري الكبير عمر أبو ريشة، كذلك قرأنا لجورج جرداق. وهو ما يؤكد أن ذلك الجيل كان يقرأ ويطلع ويكتب ويدرس في تلك السن المبكرة ، وعنده كموح وآمال في المستقبل. <