وطموحي لغاية كانت في أعماقي وفي صدري ، لكنها لم تتبلور إلى بعد أن انتقلت إلى الكليات العسكرية عام 1957موكانت هذه الأبيات للشاعر عيسى الناعوري بعنوان "شبابي" تشكل لي منهجاً في حياتي وحفظتها في السنة الثانية إعدادي وهي:
شبابي إذا كنت لا أستطيع
أحقق فيه منى أمتي
وإن كنت لا أستهين الصعاب
لأبلغ فيه إلى القمة
فلا كان هذا الشباب العقيم
ولا كان زهوي ولا قوتي
ولا كنت يوماً حليف الحياة
إذا كنت أحيا بلا عزة
هذه الأبيات قرأتها منذ خمسين سنة وأنا أحفظها ، ولها معانٍ كبيرة استوعبتها واستفدت منها، كما قرأت عدداً من كتب السيرة النبوية ، وهذا يؤكد أن ذلك الجيل قرأ معظم الكتب التي ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين، بما فيها بعض كتب التراث، واستعراض كل ما قرأناه يحتاج إلى فهرس، وقد لا يصدق من لم يعش تلك المرحلة لكنها الحقيقة مما يجعلني أعتز بها، لأنها جزء من سيرتي وسيرة أغلب زملائي، وكل ما ذكرته ليس فيه ادعاء، وكل زملائي في المدارس يتمتعون بالاهتمام بالقراءة والاطلاع على كل ما يقع تحت أيديهم من كتب كانوا يقرؤونها، وأصبح منهم الشاعر والأديب والكاتب، ومنهم الفارس والبطل ومنهم القيادي ، ذلك الجيل المتميز يستحق الحديث عنه، لأننا حينما نتكلم عن القائد علي عبدالمغني نقول : كان خطيباً بارعاً وقارئاً في تلك المرحلة، حينما أتكلم عن محمد مهدي العلفي وعلي قاسم المؤيد ومحمد مطهر زيد وعن صالح المجاهد الذي اختير في الإذاعة لكفائته وقدراته الأدبية واللغوية العالية، وأصبح مذيعاً في الإذاعة لكفايته وقدراته الأدبية واللغوية العالية، وأصبح مذيعاً في الإذاعة بصوته الجهوري وخطاباته الحماسية، فإني أتكلم عن جيل دخل معظم أبنائه السجون، وهم ما يزالون طلاباً، لأنه جيل يبحث عن الحرية ويبحث عن الأساليب لمقاومة الظلم، هذه الوقائع والأحداث كلها مصحوبة بالتطلع إلى مستقبل أفضل هو تحقيق الذات وبناء النفس بالمعرفة والتعلم ، ذلك الجيل هو الذي حقق معجزة الثورة في المجتمع قبلي متخلف لا يعرف شيئاً عن الحياة التي يعيشها العالم ، وكان الحكم الإمامي البغيض هو الذي فرض على الشعب اليمني التخلف والجهل.
والعلم والتعلم هو البداية الأولى على طريق تحقيق الذات للوصول إلى أهداف وطنية يتطلع إليها الجيل في هذه السن المبكرة، ويتطلع إلى مستقبل أفضل ليتمكن من القضاء على الجهل والتخلف. والشاب حينما يبدأ حياته من المعاناة والحاولة الجادة لكي يتعلم وينتقل من مرحلة إلى أخرى لا بد أن يكون في ذهنه شيء يسعى إليه، وهو تحقيق ذاته لكي يكون شيئاً مؤثراً عاملاً في المجتمع ، لم أتخيل ما هو الطموح أو الرغبة التي أردت أن أصل إليها، لكن حاولت أن أتعلم، وأسأل نفسي ماذا تريد أن تكون؟ ما تعمل؟ وما دورك في الحياة؟.
وكنت بمواصلتي للدراسة والقراءة أجد جواباً عن هذه التساؤلات ولهذا قرأت لسلامة موسى كتاب الشخصية الناجحة، الذي يجيب فيه عن السؤال المهم: كيف يبدأ الإنسان حياته ويبني نفسه ويهذبها؟ وكيف يلبس وكيف يتعامل مع الآخرين بالاحترام وبالمعاملة الحسنة؟. .
الأنشطة المدرسية مسامرات ورحلات
إن النشاط الثقافي وكذلك النشاط الرياضي ساعدا على تحصيل المعرفة في المعلومات والعلاقات الواسعة من الصداقات، ولقد شاركت في المجلة الحائطية المدرسية التي كنا نعدها خلال الإجازة الصيفية وأكتب فيها عن شخصيات تاريخية، كنت أقرأ عن شخصية خالد بن الوليد، حياته معاركه وأعيد صياغة القصة وأكتبها من جديد بطريقتي وبأسلوبي، وأشارك بالمقال في المجلة. وخلال الإجازة الصيفية كنا نقوم برحلات خارج صنعاء.
نوفر تكاليف الرحلة من "النصف الكدمة" التي تصرف لنا في المدرسة، ونبيعها ونجمع ثمنها طول العام لكي نقوم بتلك الرحلات، وكذلك نقيم أمسيات شعرية ومناظرات أدبية بين طلاب المدارس "العلمية والثانوية والتحضيرية والمتوسطة" ، وتلقى فيها المحاضرات من الزملاء الموهوبين من الشعراء، وكذلك مسابقات شعرية ويقدم بعضهم "سكتش" تمثيلية صغيرة يقوم بها عدد من الطلبة المتمكنين من التمثيل والفكاهة، هذه الأنشطة كانت تترك لدى الشباب الأمل والطموح لمستقبل أفضل.
كنا نحترم ونتابع كل من يكتب ويحاضر ويقول الشعر، ومن يتفوق في الرياضة ومن لديه لغة إنجليزية، وخلقت تلك الأنشطة روح التعاون فيما بين طلاب المدارس وأوجدت الثقة فيما بينهم.
وكنت في هذه المرحلة غير مدرك للعمل السياسي، بل كنت في بداية الاستيعاب والمعرفة، أردت من الكتابة والقراءة المعرفية أن أعرف من كانوا أبطالاً في التاريخ الإسلامي، من شارك في تأسيس الدولة الإسلامية العربية؟ كتبت عن أبي عبيدة بن الجراح بعد قراءتي عنه في كتاب خالد محمد خالد " رجال حول الرسول ومن بعض الكتب التاريخية ولخصت ما قرأته، كي تترسخ المعلومات في ذهني وأستفيد مما قرأته ، ولم أنقل حرفياً كما ينقل بعضهم في الصحف التي نقرؤها حالياً. بل لخصت ما قرأته كطالب وبعقلية طالب، وأدعو إلى أن يكون أبناؤنا وشبابنا ممن يستفيد من تاريخ أولئك الرجال الأفذاذ الذين تعلمنا منهم الشيء الكثير.
وكان لدي اهتمام بالجانب الإنساني، موضوع العدالة الاجتماعية والإنسانية، وهي أساس في حياتنا الشبابية وبعض كتاباتي في المجلة عن العدالة الاجتماعية، وبعض الزملاء المؤهلين الذين لديهم معلومات سياسية كانوا يكتبون في المجالات السياسية والأدبية. ومن هؤلاء الإخوة علي عبدالمغني ومحمد مهدي العلفي وعلي بن علي الجائفي وصالح المجاهد وحمود بيدر وغيرهم من الزملاء المقتدرين، وبعضهم يقول الشعر مثل أحمد الناصر والمرحوم محمد السراجي والمثقف الكبير علي قاسم المؤيد وغيرهم ، وتقام الأمسيات بالشعر وبالمحاضرات إضافة إلى النشاط الرياضي الذي هو امتداد للنشاط التعليمي والثقافي، وكانت ساحة المدرسة الثانوية تشهد الكثير من الأنشطة الرياضية ويحضرها معظم الشخصيات الوطنية أمثال الأستاذ أحمد جابر عفيف وأحمد المروني وإبراهيم الحضراني ، والعقيد عبدالله الضبي والشيخ حميد الأحمر وعبدالعزيز المقالح ، وكان الطلاب يشكلون محور اهتمام تلك الشخصيات السياسية والوطنية ويعقدون عليهم آمالاً كبيرة.
وكان النشاط الرياضي والسياسي يجري في ساحة المدرسة الثانوية التي هي الآن وزارة التربية والتعليم، وفيها تقوم كل الألعاب ، كرة السلة والطائرة والتنس وألعاب القوى، وكانت المدرسة الثانوية تمثل حركة سياسية رياضية. لقد برز في تلك المرحلة شباب متطلع وطموح يبحث عن ذاته يتطلع إلى المستقبل، وكان يسعى لتحقيق ذاته وطموحه. من خلال التعليم والثقافة، وكذلك نسج العلاقات الواسعة من خلال الرياضة والاهتمام بكل ما هو جديد بمتابعة الإذاعات الخارجية والنشرات السياسية التي يمكن الحصول عليها.
وكان واقع البلاد والوضع العام جامداً متخلفاً، وأصبح الشباب مؤمناً بأن من الواجب عليه أن يبحث عن طريق لكي يحقق طموحه من خلال التعليم ويفتح النوافذ المغلقة من خلال الفهم والمعرفة، لأن الرغبة للتطلع والاستعداد كانت موجودة بين الطلاب، وكذلك المبادرات الكثيرة من الآباء الكبار الذين ذكرتهم مثل الأستاذ أحمد جابر وأحمد حسين المروني والبعثة المصرية التعليمية التي فتحت آفاقاً جديدة وواسعة.
كنا نحترم المثقف ونتعامل معه باعتباره أكثر تعليماً ، ولا سيما الأول على فصله. . هذه ، التراكمات القيمية والتعليمية والأخلاقية ساعدتنا على معرفة الشخصيات الكبيرة في المجتمع، وكنا نتطلع لمعرفة أدوارهم في الحياة العامة كدور الأستاذ أحمد المروني في الإذاعة، لأنه يقدم فيها أفكاراً متطورة جديدة حديثة، فيها الشعر وفيها الأدب وفيها القصة، فيها الأنشودة وفيها الموسيقى، هذا الشيء الجديد بالنسبة إلينا في حينه لا يتخيله الناس اليوم، ربما يتخيلون أن الدنيا كانت في نعيم!! كان الشيء المثمر والجديد يلفت النظر بما في ذلك النشاط المسرحي في الاحتفالات حينما تقدم تمثيلية عن غزوة بدر، أو غزوة أحد ، ويشارك فيها الطلبة ويشاهدها العامة من الناس كانوا ينبهرون ، ولا سيما عند مشاهدة بعض فصول المسرحية التي تشاهد فيها صور من المعارك العسكرية، وكنا نسيسها للأغراض الوطنية.
لقد عملت إدارة المدارس على تكريم الطلاب الأوائل في بداية العام الدراسي، وكان لهذا التكريم تأثيره في معنويات الطلاب ، لأن الشخص المستحق للتكريم هو الذي ستعلق عليه الآمال في المستقبل. وتحقق هذا الأمل حينما برز أوائل الطلاب في المدارس والكليات العسكرية أصبحوا قادة ومسؤولين كباراً لهم مكانتهم في المجتمع والدولة.
هذا الحوافز لم يكن يعرفها المجتمع في وقته أو قبلها ، لكنها بدأت في المدرسة الثانوية، وسأذكر حدثاً ولو كنت فيه "أنا" حينما نجحت وكنت الأول في الثالث الثانوي ألقيت كلمة الخريجين، باعتباري الطالب الأول، وتحدث الناس في مجالسهم عنها، وكان حدثاً كبيراً، وشعرت بالثقة وسعدت بالنجاح، وبعد الثانوية العامة التحقت بكلية الطيران ونجحت فيها، وحصلت على المرتبة الثانية في الدفعة ، وألقيت كلمة الخريجين أمام البدر ولي العهد. هذا النجاح زاد من ثقتي في قدراتي وانتقلت إلى مرحلة جديدة في حياتي.