دور البعثة المصرية
حينما كان جمال عبدالناصر يسعى لإثارة مشاعر الأمة وإيقاظها من غفلتها، ويرى في اليمن الصورة البائسة والمحزنة، ويرى في الحكم الإمامي بشاعة الظلم في القرون الوسطى كانت وسيلته لمساعدة الشعب اليمني ابتعاث المدرسين المصريين أصحاب الرسالة العظيمة في تنوير الأجيال من أبناء الشعب اليمني. بعث أساتذة أجلاء عام 1957م ومنهم الأستاذ محمد عبدالسلام رشوان مدرس لغة عربية وبلاغة، وللاستفادة من الأحداث استغل اعتقال " جميلة بوحيرد" في الجزائر، وأدخل في المنهج قصيدة عنها لأحد الشعراء المصريين، وقال: من الضروري أن تقرؤوها وتستفيدوا من معانيها العظيمة ، ومن مقاومة الشعب الجزائري رجالاً ونساءً ضد المستعمر الفرنسي ، وأذكر منها هذه الأبيات:
اقتلوها هل بكت إلا حماها
أو شكت إلا إلى الله أساها
اقتلوها حرة صابرةً
يشفق القيد إذا القيد رآها
لم تعد إلا بقايا أعظم
جزع القيد لها منذ احتواها
ظلمة السجن ضياء حولها وسنا الكون شعاع من سناها
وحديد القيد مهما عضها وبرى أعظمها أبهى حلاها
لقد كان لهذه القصيدة تأثيرها المعنوي علينا ، وأوجدت لدينا غيرة وشكلت مدخلاً للمقاومة ، ولمحاربة الاستعمار ولمقاومة الظلم وغرس الروح الثورية والوطنية، والتضحية في حب الوطن، كذلك الأستاذ جمال حماد مدرس لغة عربية بأسلوبه النادر الذي واكب خلال تدريسه للغة العربية النصائح الوطنية والأخلاقية. . وكذلك محمود خطاب مدرس اللغة الإنجليزية ولاعب كرة السلة، يدرسك أينما وجدك، حتى في الشارع ، هؤلاء ثلاثة مدرسين من مصر، كانوا أصحاب رسالة إنسانية وقومية، كانت أذهب إلى منزل الأستاذ جمال حماد فيلقي عليَّ درساً إضافياً مجاناً في اللغة العربية، ويشكر وقدر جهد الطالب الذي يطلب منه مثل هذه الدروس، وأكثر من ذلك يقدم له مكافأة مالية، هذه الروح كانت سائدة في تلك المرحلة التي اكتسبت من أساتذتي فيها العلم، وأوجدت بين الزملاء المحبة والود والصداقة، واستثمرنا ذلك في صنع المستقبل.
وللحقيقة والتاريخ إن تلك السنوات التي قضيناها في الإعدادية والثانوية والكليات العسكرية هي الروح الأخوية التي ساعدتنا على تعميق الصلات والثقة، وخلقت الروح الوطنية والأخوية بين الجميع، وكان الفضل للتعليم والثقافة والمعرفة والتي صقلت عقولنا وأفكارنا وأنارت لنا الطريق إلى المستقبل. . ولأولئك المدرسين ورعاتهم فيما وصنا إليه.
المستوى الاجتماعي المتقارب
إن الوضع الاجتماعي في اليمن مجتمع متقارب، يخيم عليه الفقر والجهل، ولهذا كان طلاب المدارس من طبقات متواضعة ومتوسطة وكان أغلب الطلاب من الطبقة المتوسطة، وليس في اليمن مجتمعات أرستقراطية، والتخلف عند الجميع، لم يكن التجار يمثلون طبقة أرستقراطية، ولم يكن أبناء المسؤولين الطبقة الغنية ، هذا غير صحيح، بل بعضهم فقراء كغيرهم.
وكذلك التجار كانوا قريبين من الناس، ومعظم البيوت الكبيرة من التجار كان وضعهم الاجتماعي متقارباً، ومعظم الطلبة من مستوى واحد وثقافة واحدة ، وكان بعض أبناء التجار يدرسون في الجامع الكبير بعد دراستهم الابتدائية، لأن آباءهم يفرضون عليهم دراسة الفرائض والقسمة والبيع والشراء، ولم يواصل الدراسة في الداخل أو الخارج إلا عدد بسيط منهم، وبعض الطلاب ومنهم الدكتور عبدالرحمن إسحاق من الطلبة المجتهدين وهو من أسرة معروفة ميسورة، وعدد آخر من الطلاب لا يتجاوز عددهم العشرة من الأسر الميسورة، لكننا لم نلمس منهم البذخ أو التعالي، بل كانوا في مستوى زملائهم من التواضع والأخلاق والحياة المعيشية المتساوية، وتربطهم علاقة طيبة وزمالة دراسية، وكانوا يقتربون من زملائهم ويحاولون ألا يشعروا الآخرين من زملائهم الطلاب بأي فوارق، وربما كانوا أكثر تواضعاً من غيرهم وتقديراً لزملائهم.
وكذلك العلاقة بين المدارس الثانوية والتحضيرية والمتوسطة والعلمية كانت أخوة وزمالة وتبادلاً ثقافياً وتعليمياً على عدة مستويات.
ونُسجت تلك العلاقات الأخوية بين المدارس الثلاث من دون اختلافات عدا من يريد أن يسيء إلى الشباب البريء.
والطلبة الذين التحقوا بالثانوية من التحضيرية نسيج واحد مثل زملائهم في الثانوية، ومعظمهم من الأرياف. والمدرسة العلمية فكان الاهتمام فيها بدراسة المواد الفقهية والشرعية والعلوم العربية، لكي يتأهلوا في مجال القضاء ومعظمهم من الأسر الهاشمية مع عدد محدود من أسر القضاة والفقهاء الذين يميلون إلى العمل في القضاء حكاماً شرعيين وعمالاً "مديري نواح".
لا فوارق
كانت العلاقة بين المدارس علاقة عضوية، لا فرق بين طالب وآخر، والعلاقة تكاملية بين جميع المدارس التي ذكرتها، ولا فوارق بين الأسر فقد كنا ندعو يحيى المتوكل ومحمد الديلمي كما ندعو محمد الشراعي وعلي عبد المغني وعلي الحيمي، لا تقوم حساسية، وهذه النزعة غير موجودة، ولو وجدت كان للتنظيم أن ينجح بقيام الثورة وإعلان الجمهورية الخالدة.
كنا نتطلع إلى عمل وطني واسع يغير الأوضاع الراكدة، وكنا نتساءل كيف التغيير؟ من أين يبدأ؟ لا ندري. المهم أن التغيير كان هدفاً وكنا نردد هذه القصيدة للشاعر الشابي:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي
ولا بد للقيد أن ينكسر
إلى أخر القصيدة.
هذا السلوك الأخوي الوطني هو القاسم المشترك بين جميع الزملاء، وكنا نتطلع لتحقيق هدف كبير يغير الواقع، لكن كيف نحقق هذا الهدف، هذا كان متروكاً للمستقبل.
العمل الحزبي
لم أعرف شيئاً عن الأحزاب، حزب البعث عرفت عنه في عام 1961م، من خلال كتاب اسمه " النكبة والبناء" للدكتور وليد قمحاوي أهداني إياه الشهيد علي عبدالمغني، ولم تكن لدي القدرة على استيعاب الأفكار الماركسية أو البعثة أو غيرها، كذلك لم أنتظم في حزب البعث، وإنما كنت قارئاً مطلعاً على كل التيارات السياسية فيما بعد، لأن توجه الضباط الأحرار توجه وطني قومي متأثر بثورة 23 تموز / يوليو والزعيم جمال عبد الناصر.
الطموح الكبير
كان لدي طموح بعد التخرج من الثانوية العامة، واعتقاد أن الكلية صغيرة علي ، الطيران أو الحربية، وكان في تقكيري نوع من الطموح لكي أذهب إلى الخارج أدرس في مصر، لأني سمعت أن بعثة 47 المرسلة إلى لبنان ثم إلى مصر كان أحد طلابها الأستاذ أحمد بركات أحد أصدقائنا وجيراننا ، وكنت أتمنى أن أكون مثله ، وبقيت متردداً في دخول الكلية. وأخيراً التحقت بكلية الطيران، ، لأني وجدت أن الزملاء يحيى المتوكل والشهيد علي عبدالقادر أصبح لديهم الاستعداد لدخول كلية الطيران مع أن الرغبة لدينا أن ندرس في جامعات مصر ، ووجدت أن البقاء غير مفيد ولا سيما أن شباباً آخرين جاؤوا من المدرسة المتوسطة،وصعب علي أن أتزامل معهم في المدرسة، ولهذا قررت الذهاب مع المرحوم علي عبدالقادر لنقدم طلباً إلى البدر -وهو في الروضة في أيام الخريف في آب/ أغسطس - لكي يوافق أن نلتحق بكلية الطيران، وواصلنا المتابعة مدة أسبوع ونحن ننتظر الجواب من الصباح إلى المساء، تعذبنا لمدة أسبوع لكي يوافق ولي العهد البدر على دخولنا الكلية ،. .
وأخيراً وجه البدر أمراً نصه "السلال" ومن دون أي إضافة أو تعليق،فأخذنا الأمر إلى الزعيم عبدالله السلال،وكان في قرية " الجوزة" في سنحان عند صهره القاضي علي الأكوع والد العميد محمد علي الأكوع وهو جارنا في صنعاء ويعرفني معرفة جيدة، وقد وجه الزعيم عبدالله السلال بإجراء الامتحان من قبل المدرسين المصريين الطيارين، علماً أن الطيار أرقى من الضابط العادي في العلوم الرياضية وفي قدراته العسكرية، وكان العقيد حزام الدين البشاري من الضباط المصريين الممتازين ، وأقدم طيار في البعثة العسكرية المصرية. وكان بعض الطلبة الذين سبقونا مستوياتهم مختلفة، منهم من يحمل الشهادة الثانوية ومنهم من يحمل الشهادة الإعدادية " المتوسطة" فكانت نسبة الإجابات ممتازة ومتوسطة، في الامتحان الأولى أجبنا عن كل الأسئلة بسرعة، فاعتقد المشرف أننا غششنا، فقال لنا: " لازم تمتحنوا مرة ثانية". وفي اليوم الثاني أعد أسئلة أصعب من أسئلة اليوم الأول، وكنا نحن الثلاثة متقدمين في الثانوية، فأجبنا في الامتحان الثاني أحسن من إجابات اليوم الأول، فقدرنا العقيد الطيار تقديراً عالياً، وأمر بالتحاقنا بالدفعة. هذه القصة التي ذكرتها في دقائق كانت فيها المعاناة والخوف مدة أسبوع ودخلنا الكلية وانتظمنا في الطابور العسكري وانتكسنا النكسة الكبيرة، لأن الاعتقاد الذي كنا نعتقد أننا طلبة كبار مميزون مثقفون ومتعلمون، فوجدنا أنفسنا أمام صف ضابط مصري يعلمنا " صفا" و"انتباه" ويزحفنا ، وبدأنا التعليم العسكرية والطاعة العسكرية العمياء ، وكان اعتقادنا أننا ، ولكوننا طلبة متفوقين في الثانوية العامة وحسن السيرة والسلوك، سوف نعامل معاملة مختلفة.
وأصبت مع زملائي الذي يبلغ عددهم تسعة وأربعين طالباً بالإحباط، وتلك الآمال التي كانت لدي تبخرت وصار تحقيقها أمراً مستحيلاً، وكان علي أن أتقبل الوضع الجديد والقبول بفترة المستجدين مدة 45 يوماً، وكان كل الزملاء أصدقائي، لكن سأذكر شيئاً عن وضعنا في الكلية. بها ثلاثة عنابر متقاربة مع بعضها البعض، وعنبر كبير منفرد، وكنت في العنبر الذي يسكنه 12طالباً "6*6" في صفين متقابلين، ولكل واحد فراش في الأرض ، وكنا نكوي البنطلونات تحت الفرش. وزملائي ضمن الدائرة الضيقة هم : يحيى المتوكل، عبدالرحمن المحبشي، محمد حسن العمري،محمد الأشموري، محمد قائد عنقاد، عبداللطيف هادي سالم ، محمد الإرياني، محمد غالب الشامي ، ناصر اليافعي ، محمد أنس الإرياني، أحمد بيدر ، هؤلاء مجموعتي 12 طالباً. وكنا نتندر بعضنا على بعض في أوقات الفراغ وعلى أوضاعنا التي أصبحنا نتعلم وننضبط فيها من خلال صف ضباط مصريين ، ومعظم زملائي في هذا العنبر طلبة مميزون في دراستهم وثقافتهم العامة، وعدد كبير استشهد في معارك الدفاع عن الثورة. وفي المرحلة الأخيرة بعدما تخرجت الدفعة الأولى من الكلية الحربية انضم إلينا أربعة ضباط من الدفعة الأولى، دفعة محمد مطهر ، ضباط إداريين ، وضباط التدريب والمدرسين هم : عبدالكريم السكري- أطال الله عمره_وحامد الجنيد وعلي العرشي وعبداللطيف ضيف الله ومحمد الأهنومي، وعدد من المدرين السوفييت.