التعليم في كلية الطيران
التعليم في الكلية أكثر ارتباطاً وقرباً من المدرسة الثانوية، لاسباب سأذكرها ، منها أننا نبيت ونتدرب وندرس ونأكل في الكلية في طابور واحد وفي فصل واحد الإجازة يوم الخميس بعد الظهر، ونعود إلى الكلية بعد ظهر يوم الجمعة، وأوجد ذلك فيما بيننا نوعاً من التناغم والانسجام الكامل، لأن الواجبات نقوم بها في وقت واحد نؤديها بانضباط تام، هذه التصرفات وهذا النظام يخلق نوعاً من العلاقة الواسعة والمنفتحة بين شخص وآخر، وبين جماعة وآخرى ، ولديدنا برنامج موحد للدراسة والمذاكرة نمارسه ، وفي أوقات الفراغ كنا نتكلم في قضايا عامة محلية وخارجية بكل حرية واطمئنان.
لقد عانينا في كلية الطيران حالة من الاضطراب، لأننا دخلنا على أساس تعلم الطيران، وبدأنا التدريب على الطائرة "الياك" بعد نهاية فترة المستجدين مدة 45 يوماً ، وطائرة تشكيكية مقاتلة في تعليم أولي ليلي نهاري، وتدريب على الأسلحة الخفيفة من البندقية إلى الرشاش المتوسط إلى الرشاش الثقيل إلى رمي القنابل إلى آخره، وكنا ندرس في البداية أجزاء الطائرة وتكويناتها وأنواعها والحركة الميكانيكية للطائرات إلى آخره، وكنا نخضع لفحوصات طبية من حين إلى آخر لكي يتأكد المدرس المصري بأننا نصلح صحياً للطيران، وبعد عودة الإمام أحمد من روما سنة 1959م طرد الطيارين ورفض استمرار كلية الطيران، وقطع عنا الأرزاق العينية وأغلق مطبخ الكلية.
كان مبعث القلق عند الإمام أن الكليات العسكرية ومنها كلية الطيران تضم ضباطاً مصريين يعدون الطلاب لعمل سياسي وتخريبي ضد النظام.
وكان الخوف عند الإمام من التعليم مع أننا ما زلنا في المرحلة الأولى وفي بداية الدراسة عن الطيران ودراسة الأرصاد الجوية، لأن الطيار يجب أن تكون لديه معلومات عنها ، وكان مدرس الأرصاد الجنرال يوتكن من علماء الفضاء، عالم كبير جداً من روسية، ودرسنا علوماً مفيدة ساعدتنا لنتميز عن غيرنا من زملائنا في الكليات الأخرى، وأسهمت في توسيع مداركنا في مجال الأرصاد بجانب العلوم العسكرية والتدريب والتعليم على الأسلحة. ولسوء حظنا توقفت دراسة الطيران.
ولاية البدر
في غياب الإمام في روما
سوف أذكر المشاهد التي رأيتها ونحن في الكلية خلال غياب الإمام أحمد. لقد لمسنا أن البدر أفضل من أبيه، لأنه عمل على فتح الكليات العسكرية وأسس فوج البدر وحدة عسكرية جديدة منظمة ومدربة وانفتح على الخارج ، حينما زار الصين وروسية وسورية ومصر وغيرها، وعقد صفقة الأسلحة التي طورت الجيش اليمني، وهذه المعلومات عرفناها من الضباط الكبار، منهم: الزعيم عبدالله السلال والزعيم عبدالله الضبي والزعيم حمود الجائفي وكانت لديهم معلومات لم نستطع أن نفهمها في تلك المرحلة، علمنا وفهمنا منهم أن البدر أفضل من أبيه وأن الإمام هو الطاغية الظالم الجلاد، وهو الذي أعدم ثوار 1948 و1955م وأعدم أخويه عبدالله والعباس ، وكنا نشاهد في صنعاء دخول مشائخ القبائل للتشاور، وشاهدت موكب الشيخ حسين بن ناصر الأحمر مع ابنه الأكبر الشهيد حميد الأحمر حينما وصل إلى صنعاء مؤيداً للبدر، هذه الصورة والتحركات الهامة غيرت الجمود الذي أوجده الإمام أحمد وهو على قمة الدولة وللأسف تحول هذه التحرك إلى أحداث فوضوية، ومنها الحريق غير المبرر في بيت القاضي يحيى العمري عامل صنعاء في الصافية ومنزل الأسرة في السايلة في صنعاء، وهذا الحادث المؤسف وغيره من الأحداث شوهت صورة البدر وقدرته على إدارة البلاد، وعندما عاد الإمام من روما وجد الوضع على هذه الصورة من الفوضى والتململ توقعاً لحدوث شيء جديد، وما حدث في تعز"قتل القاضي أحمد الجبر وشقيقه وجريهما في الشوارع" وحريق بيت العمري وتجمع المشائخ والقبائل في صنعاء هي في نظره خطة في محاولة لإنهاء الحكم الإمامي.
إغلاق الكليات
الفوضى وقعت ، وعند الفوضى يختلط الحابل بالنابل ، والفوضى ليس لها أي هدف غير التخريب ، وتؤثر في العمل السياسي والتوجيه للخلاص من الإمام. والحريق كان فوضى والقاضي يحيى أحمد العمري عامل صنعاء من المسؤولين المقتدرين ومن رجال الدولة، ولا يسوغ لأي سبب من الأسباب العادية حدوث ما حدث ، وهذا الموضوع ليس له معنى ، واستخدام هذا الطابع الفوضوي التخريبي على أسرة كريمة وعريقة لها دورها الوطني في خدمة الوطن وبناء الدولة اليمنية في الإدارة، ومشهود لها بنزاهة رجالها وكفاءتهم وعلمهم وقدراتهم السياسية والإدارية، ولا يجوز ان تتعرض بيوتهم ومكتباتهم لما تعرضت له ، لكنها هي الفوضى، لقد كان البعض يراهن على ولي العهد البدر الذي يبدو أكثر انفتاحاً وأكثر رغبة في التطور والانفتاح على العصر، لكن هذه التطورات الخطيرة على الوضع الإمامي استفزت الإمام أحمد فهدد وخطب وقام بتلك الإجراءات الصارمة ومنها إغلاق الكليات وطرد المدرسين المصريين وقطع الأرزاق العينية عن الكلية ومكثنا ستة شهور نأكل من قيمة البراميل الفارغة.
وكان المرحوم العميد/ علي الربيدي أمين المستودعات في باروت خانة "مقر الأمن المركزي ودائرة الاتصالات حالياً".
وهذا الموقع فيه مخازن البترول وإسطبل الخيول وبعض احتياجات الدولة، والمرحوم المشير السلال كان مسؤول الحرس الملكي ومدير كلية الطيران ومسؤول حراسة المنشآت ومرافق الدولة، وكان معه زملاء وطنيون مسؤولون عن هذه المرافق ومنها المخازن، فكان السلال يصرف على احتياجاتنا من قيمة البراميل، ويهدئنا ويحاضرنا بأن علينا أن نواصل الدراسة، وقال: ثقوا أني معكم ولن تغلق الكلية، ولهذا ما زلنا نقدر دور الرجل العظيم على وطنيته وإخلاصه، وظللنا في مواصلة دراسة منهج الكلية الحربية.
وبعد ستة أشهر وبحنكة وحكمة المشير السلال تمكن من تهدئة الأمور، وراجع الإمام أحمد أن يعيد إلينا التغذية، وبرر له ذلك بأن الطلاب اجتازوا مرحلة كبيرة من الدراسة، ومن الصعب أن يظلوا محبطين دون أن يكملوا دراستهم وتستفيد منهم الدولة، وكرر مراجعته للإمام عدة مرات؛ وبأن الطلاب قطعوا وقتاً طويلاً في الدراسة برعايته وفي ظله، ولطمأنته قال له: إننا قد وسعنا دراستهم ليأخذوا دورة مظلات إضافة إلى العلوم العسكرية، فانتزع موافقة الإمام بالاستمرار، وأكملنا دراساتنا في الكلية ثلاث سنوات كاملة في الأعوام 1959م، 1960م، 1961م، بما في ذلك دورة المظلات، وكان الذي قام بتدريبنا عدد من الخبراء الروس، منهم العقيد/ فاسيلي إيفانوف خبير المظلات "Vasili Evanof" واستطعنا في تلك الظروف أن نعقد دورة في علوم المظلات دراسة عام كامل بما في ذلك التطبيق والتجهيز والإعداد والإنزال والتكتيك والهبوط من مسافة عالية وغيرها، وكانت الدورة بالنسبة إلينا في ذلك التاريخ من الإنجازات النادرة التي دخلت الجيش اليمني وحدثاً غير عادي، وأنا أقيس الحدث بظروف وقته وليس بالزمن الحالي، الآن صار من الأمور السهلة جداً فكل شيء متوفر وسهل، والمتخصصون بالعشرات، أما في ذلك الوقت فقد كنا نبدأ من الدراسة النظرية إلى العملية الميدانية إلى الإنزال، وكلها أمور معقدة وبدايات صعبة، كنا نقوم بإعداد المظلة ونطبقها ونجهزها بمظلات صناعتها قديمة، تحتاج إلى جهد كبير لمعرفة حبالها وأوتادها، والمظلة الاحتياطية.
وكان هناك هياكل طائرة قديمة تدربنا عليها في القفز خلال العمل الميداني، وزملائي في كلية الطيران معظمهم مبرزون في دراستهم، ومنهم يحيى المتوكل وعبدالرحمن المحبشي وأحمد الفقيه ومحمد الإرياني ومحمد حسن العمري وعبداللطيف هادي سالم وعبدالله الراعي وعبدالكريم الرازقي وأحمد السماوي وعلي عبدالقادر وغيرهم، كان لديهم القدرة على استيعاب المعلومات النظرية والعملية بكفاءة، وكان إبراهيم الحمدي من دفعة كلية الطيران، ولم يواصل تعليمه ودراسته لأسباب خاصة به ومكث بها ثلاثة شهور فقط.
المبرزون في كلية الطيران
التفوق هو أن تكون لدينا معلومات جديدة وقد تأهلنا بتلك المعلومات العلمية، وزملاؤنا في الكلية الحربية قد أكملوا دراستهم العسكرية وبثقافتهم العامة التي مكنتهم لكي يكونوا المبرزين من قادة ضباط الثورة، ولا سيما الأوائل في دفعاتهم والناجحون في العلوم العسكرية، وكانوا يثقفون أنفسهم ثقافة وطنية، ولهذه الأسباب تمكن بعضهم أن يكون في الهيئة التأسيسية لتنظيم الضباط الأحرار، ولديهم من الثقافة والفهم والتعليم والاستقامة في الأخلاق التي خلقت قناعات وفهماً مشتركاً مع زملائهم، مع الاحترام والثقة في سبيل هدف وطني كبير؛ لأن الثقة تكون مبنية على مبادئ الطاعة في العمل الوطني، وهي الأمر من شخص تثق فيه وتحترمه لعلمه وأخلاقه وقدراته ووطنيته، هو الإيمان بقضية الوطن، هذا التاريخ يجب أن يدرس حياة أولئك الرجال الأفذاذ، لكي يعرف أبناؤنا نضال آبائهم وتاريخ ثورتهم.
والتجربة التي لا أنساها البداية والانتقال من وضع طالب مدني طموح يرغب أن يتعلم أكثر، إلى إنسان عسكري، استمتعت بهذه الحياة العسكرية في بدايتها، ووجدت أنها واقعية، لهذا فحينما نتكلم في قضية عامة أو خاصة أميل إلى الواقعية، والخيال يكون مشروعاً أحياناً، الواقعية هي التي خلقت لدي نوعاً من التوازن النفسي والعقلي، وانتهجت هذا المنهج بالواقعية والصبر من تلك الأيام، وهما الصبر والواقعية اللذان اعتز بهما في حياتي وفي أعمالي، واقعية وصبر وطموح مشروع، وليس بالضرورة أن أحققه كاملاً، ويمكنني تحقيق الممكن بالصبر والمثابرة، بالمحاولة الجادة لتحقيق ما قد يبدو مستحيلاً يصبح ممكناً ، وأقبل بما هو ممكن وأتعامل معه ، ولهذا تجدني صبوراً في كل الأوقات ، أتحمل أشياء كثيرة جداً، وأعتز أني من تلك المدرسة التي تؤمن بالصبر منذ أن بدأت العمل العام إلى يومنا، وسأظل كذلك إلى أن ألقى ربي.